-A +A
إعداد: هشام عليوان- فادي الغوش (بيروت)
ما هي كلمة السر؟ مع كل انتخابات رئاسية ومنذ إنشاء لبنان الكبير يجري الحديث عن كلمة السر التي تهبط على نواب البرلمان لانتخاب رئيس لبنان. كيف تصنع هذه الكلمة؟ من يطلقها؟ ومن أطلق هذا المصطلح عليها؟ أسئلة الإجابة عنها متعة سياسية والتعرف عليها حقيقة يتجاهلها الجميع وهم يؤكدون أن الرئيس يصنع في لبنان.. الانتخابات الرئاسية في لبنان محطة سياسية بالغة الحساسية، فموقع الرئيس بات منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1943 من حصة المسيحيين الموارنة، بشكل رسمي ولو مؤقتاً، ثم جاء اتفاق الطائف عام 1989، ليتجاوز الخلاف على طائفة الرئيس إلى التنازع حول صلاحياته، وهذا ما وسم مرحلة ما بعد الطائف حتى الآن. مع ذلك، بقيت عقدة رئاسة الجمهورية قائمة بمعنى من ينتخبه ومن يؤثر في اختياره وما هي مواصفاته الشخصية والمحلية والعربية والدولية، وما هو دوره في النظام بعد تعديل الدستور اللبناني بنهاية الحرب الأهلية المدمرة؟
رئيس الجمهورية لا ينتخبه الشعب مباشرة بل البرلمان المنتخب وهو ما جعل ممكناً أي نوع من أنواع المساومات والمقايضات لإيصال مرشح ما على حساب آخر، ولم يتم اللجوء إلى الانتخاب المباشر من الشعب بسبب اعتراضين واحد مسيحي والآخر مسلم، فبسبب الاختلال الديموغرافي يخشى المسيحيون أن يفقدوا سيطرتهم على الموقع الرسمي الأول في البلاد، وخشية من تعاظم صلاحياته الدستورية يرفض المسلمون إعادة ما أخذوه من وظائف الرئيس. وبين هؤلاء وأولئك تلعب القوى المحلية والأجنبية دور الناخبين الكبار في كل استحقاق.

الرئاسة نكهة خاصة
إن لرئاسة الجمهورية في لبنان نكهة خاصة لأن البلد متعدد بخلاف دول الشرق الأوسط” كما يؤكد وزير الدفاع السابق اللواء المتقاعد سامي الخطيب في حديث لعكاظ وهو الذي كان في مطبخ “صناعة الرؤساء” منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب 1958 وإلى عهد الرئيس الياس سركيس 1982. وقال إن لبنان الكيان السياسي لم يُعرف إلا في سنة 1920، عندما أعلن الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير، فيما لبنان الوطن والجغرافيا معروف منذ أيام النبي سليمان الذي تحدث عن شجر الأرز فيه. أما لبنان الوطن فلا نزال نسعى لإقامته وهو الآن في طور التسوية. ولُد لبنان الحالي، أو لبنان الكبير، بقرار من المحتل الفرنسي، وعلى التباس شديد، فعبارة “لبنان” كانت تعني سلسلة الجبال الغربية الممتدة من الشمال إلى الجنوب، وبسبب وعورة الجغرافيا لجأت إليه الأقليات الدينية وبخاصة المسيحيين، فيما كان الساحل والسهل جزءاً لا يتجزأ من الدولة الإسلامية الكبرى، أو تابعاً للدويلات والإمارات المتناحرة ثم ملحقاً بولاية دمشق أو عكا وأخيراً متمتعاً بوضع الولاية الممتازة ومقرها بيروت في أواخر الدولة العثمانية، لذلك عندما كَبُر لبنان ضُمّت إليه الأقضية الأربعة في الساحل والسهل، وهنا نشأت عقدة اللبناني الأصيل واللبناني المصطنع ودار نزاع على السلطة منذ اللحظة الأولى بين الطوائف الإسلامية والمسيحية، وداخل كل معسكر على حدة، وكان عنوان كل هذه الخلافات رئاسة الجمهورية، ففي ظل الانتداب الفرنسي جعلوها منصباً مسيحياً دون تحديد، ومنذ الاستقلال تكرست مارونية المنصب، فانتقل النزاع بين الطوائف، من التباري للاستحواذ على المنصب إلى التسابق على صنع رئيس ماروني قريب من اتجاه معين أو موال لدولة أو محور عربي أو دولي. لذلك، لم يقترب موعد الانتخابات الرئاسية، إلا ولبنان يتخلص من أزمة او يدخل فيها.
شارل دباس
حصل اللبنانيون على أول دستور لبلادهم بضربة حظ أو عثرة لسان، ففي عام 1925 كانت سوريا تشتعل ثورة على الاحتلال وتمتد إلى لبنان، فرأى الفرنسيون ضرورة الإيحاء بوجود دولة مستقلة ولو تحت الانتداب، وأسهم مندوبهم السامي هنري دو جوفنيل في الأمر من غير قصد، حين تحدث في أحد خطبه عن “دول سوريا المتحدة” وكانت فرنسا تسعى لإنشاء دويلات طائفية في كل سوريا، وعلى أساس أن لبنان دولة مسيحية أو هبة الطوائف المسيحية فأوعز المفوض الفرنسي إلى البرلمان اللبناني لوضع دستور، وبنتيجة الإجراءات الجديدة صدر دستور لبنان، وعيّن المفوض الفرنسي مجلس شيوخ مكوناً من 17 عضواً وأصبح المجلس التأسيسي مجلساً نيابياً فانتخب مدير العدل شارل دباس (روم أرثوذكس) كأول رئيس للجمهورية.
لم يكن دباس سوى موظف في الإدارة الفرنسية فيما كان إميل اده المحامي الماروني اللامع هو الاوفر حظاً لتولي الرئاسة لكن ما ميزه عن غيره من المرشحين بنظر الانتداب الفرنسي ولاؤه المطلق لباريس وهو جعله المرشح الأوحد قبل 24 ساعة فقط من جلسة الانتخاب، فكلمة السر الفرنسية قلبت الموازين رأساً على عقب بين ليلة وضحاها، حتى ان الاكثرية النيابية التي كانت تؤيد إده انتخبت دباس.
وحين انتهت ولاية دباس في عام 1932، اوحى الفرنسيون بتأييدهم للشيخ محمد الجسر (المسلم السني) ليكون الرئيس الثاني للبنان في وقت كانت فيه الأكثرية النيابية تؤيد بشارة الخوري (الماروني)، ولم يكن هدف المناورة الفرنسية سوى قطع الطريق على الخوري المعروف بعلاقاته الوثيقة ببريطانيا ومصر. لكن بدلاً من الانتخاب، اتخذ الفرنسيون قراراً بحل البرلمان وإقالة الحكومة وتعطيل الدستور وتعيين الرئيس المنتهية ولايته شارل دباس رئيساً رغم معارضة البطريرك الماروني انطوان عريضة الذي كان يؤيد حبيب باشا السعد.
أما لماذا كانت باريس تؤيد دباس رئيساً وهو من طائفة الروم الأرثوذكس في حين أن الموارنة هم أكثرية المسيحيين في لبنان؟ يكمن السر في أن دباس هو خريج المدارس اليسوعية في لبنان، ودرس الحقوق في جامعات فرنسا وهناك تزوج فرنسية وعاد إلى الوطن قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وراح يكتب في جريدة “لا ليبيرتيه” أو الحرية وهي كانت تنطق باسم جماعة الإصلاح، التي كانت تطالب بالحكم اللا مركزي للسلطة العثمانية بحيث تحصل البلدان العربية على استقلالها الذاتي، وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى هرب دباس إلى فرنسا، فيما ألقي القبض على كثير من رفقائه وحكم عليه وعليهم بالإعدام باعتبارهم عملاء فرنسا وهم الذين يحتفل لبنان بهم حتى اليوم في عيد الشهداء الواقع في 6 مايو من كل سنة. وبعد انتهاء الحرب، عاد دباس إلى لبنان مع دخول الجيش الفرنسي وعيّن مديراً للعدلية.
حبيب باشا السعد
أما حبيب باشا السعد الرئيس الثاني تحت الانتداب الفرنسي، فكان سياسياً مارونياً مخضرماً وأول مسيحي في الشرق ينال لقب باشا. عاصر أواخر الدولة العثمانية، فكان رئيساً لمجلس الإدارة في عهد المتصرفية حين كان للبنان وضع خاص تحت السلطة العثمانية بدعم من القوى الأوروبية الكبرى. وحين انسحبت الجيوش العثمانية من لبنان عقب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى جاء شكري باشا الأيوبي حاكماً على بيروت بتكليف من الشريف الحسين بن علي حليف الإنجليز، ثم عين الأيوبي حبيب باشا السعد حاكماً على لبنان باسم الشريف حسين في أكتوبر 1918، ولم يستمر في منصبه طويلاً اذ جاءت قوى التحالف الفرنسي البريطاني وقسمت البلاد وحكمتها باسم الانتداب الصادر عن عصبة الأمم آنذاك.
ولدى تعيين دي مارتيل مفوضاً فرنسياً جديداً بدلاً من المفوض بونسو قرر إرضاء المعارضة الواسعة عبر إرجاع العمل إلى الدستور تدريجياً، وتعيين حبيب باشا السعد رئيساً للجمهورية، ففي أواخر عام 1933 قدم دباس استقالته واتخذ المفوض السامي قراراً بتعيين السعد رئيساً لسنة واحدة تبدأ في آخر يناير 1934، على أن يتولى الفرنسيون خلال الفترة الانتقالية الإشراف على الانتخابات النيابية مع خفض عدد النواب إلى 25، منهم 18 عضواً ينتخبهم الشعب، وسبعة يعينهم المفوض السامي وفي خريف 1935 جدد المفوض السامي ولاية السعد سنة جديدة.
إميل إده
وفي ديسمبر 1935، صدر قرار المفوض السامي بانتخاب رئيس للجمهورية لمدة ثلاث سنوات غير قابلة للتجديد وذلك في 20 يناير من عام 1936 مع التزام فرنسي رسمي بالحياد ففاز إميل إده بالرئاسة وهو الذي وقف الفرنسيون ضده في السابق، رغم محاولاته منذ أواسط 1931 ولعلمه بأن كلمة السر الفرنسية هي التي تأتي بالرؤساء وليس الأكثريات النيابية، فقد صب جهده للتأثير في قرار المفوضية العليا والحكومة الفرنسية مستغلاً علاقاته الواسعة في باريس وأصدقائه الكثر هناك، إذ كان يسافر كل صيف تقريباً إلى فرنسا للحفاظ على أواصر الود التي بناها، ومن هناك شن حملة قاسية على خصمه بشارة الخوري عبر الصحف الفرنسية التي يطالعها الموظفون الفرنسيون.
وكما هو حال شارل دباس قبله درس إميل إده في اليسوعية في بيروت، وأكمل دراسة الحقوق في باريس، ولما عاد إلى لبنان عُيّن محامياً للقنصلية الفرنسية وهرب كذلك إلى فرنسا لدى نشوب الحرب العالمية الأولى، فحكم عليه بالإعدام غيابياً، وبعد الحرب شارك في الوفد اللبناني إلى مؤتمر السلام في فرنسا حيث طالب باستقلال لبنان عن سوريا، وفي سنة 1922 انتخب نائباً عن بيروت ودخل البرلمان وهو لا يعرف العربية، وكان يرافع في المحاكم بالفرنسية إلى أن تعلم العربية بعد ذلك وأتقنها. وفي عهد شارل دباس تولى إده رئاسة البرلمان ثم رئاسة الوزارة.
فاز إده بـ 13 صوتاً مقابل 12 صوتاً لبشارة الخوري في الجلسة الأولى، ثم أعيد الانتخاب، ففاز بـ 14 صوتاً مقابل 11 للخوري. وفي عهده وُضعت المعاهدة الفرنسية اللبنانية التي تعترف باستقلال لبنان دون أن يصادق عليها المجلس الفرنسي، ومن بنودها ما بات يُعرف بـ”6 و6 مكرر” أو اعتماد المحاصصة الطائفية في وظائف الدولة التي حكمت الصيغة السياسية بعد الاستقلال.
نقاش وتابت وطراد
ألفرد نقاش الرئيس الرابع للجمهورية جاء بالتعيين، بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، وهو مثل سلفيه شارل دباس وإميل إده من طلاب مدرسة اليسوعية في بيروت، وأنهى دراسة الحقوق في باريس، لكنه سافر إلى القاهرة حيث كتب في صحف فرنسية، مطالباً بتحرير لبنان من السلطنة العثمانية وجعل جونيه مرفأ له، وككل نظرائه في ذلك الوقت، حكم عليه بالإعدام غيابياً من قبل العثمانيين وعندما انتهت الحرب عاد إلى لبنان. عمل محامياً ثم قاضياً ثم عضواً في مجلس الشورى وعينه الفرنسيون رئيساً للجمهورية، لكن ما لبث الجنرال كاترو أن قرر إنهاء المرحلة المؤقتة وإجراء الانتخابات العامة وانتخاب رئيس للجمهورية، فأقال الرئيس نقاش وجيء بأيوب تابت رئيساً للدولة في 18 مارس 1943.
وتابت على خلاف الرؤساء السابقين، كان بروتستانتي المذهب، كما درس في المدارس الإنكليزية والأمريكية، عاش في الولايات المتحدة لكنه كان يعمل للسياسة الفرنسية، عمل تابت في صفوف الحركة الإصلاحية في بيروت وأيد حركة اللامركزية وشارك في المؤتمر العربي الأول عام 1913.
أدخل تابت تعديلاً في قانون الانتخاب لمصلحة المغتربين المسيحيين فزادت النقمة عليه، فأقاله الفرنسيون وعينوا مكانه بترو طراد رئيساً للدولة.
وكان بترو طراد من مؤيدي السيطرة الفرنسية منذ مطلع القرن العشرين، وفي 12 مارس 1913 وقع على عريضة مع خمسة من أصدقائه باسم الطوائف المسيحية في بيروت، طالب فيها وزارة الخارجية الفرنسية بان تكون سوريا بما فيها لبنان وفلسطين مستقلة عن السلطنة العثمانية ويديرها اختصاصيون فرنسيون وتحت الحماية الفرنسية ما دفع الحاكم العثماني جمال باشا إلى إصدار حكم الإعدام ضد موقعي العريضة وكانوا كلهم قد هربوا إلى مصر وأوروبا ما عدا يوسف الهاني عميد الطائفة المارونية في بيروت، فألقي القبض عليه ونفذ حكم الإعدام فيه شنقاً. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى رجع طراد إلى بيروت وأسس مع رفاقه رابطة الطوائف المسيحية، مدافعاً عن فكرة وقوع لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي. عام 1925 اختير نائباً لبيروت عن الطائفة الأرثوذكسية وفي سنة 1937 عيّن رئيساً للبرلمان حتى 1939، ثم عيّن رئيساً للدولة لمراقبة الانتخابات النيابية عام 1943 وكانت أول مهمة للمجلس الجديد انتخاب بشارة الخوري رئيساً للجمهورية الذي تحقق في عهده حلم الاستقلال عن فرنسا!