-A +A
إعداد: هشام عليوان - فادي الغوش (بيروت)
حاول الرئيس أمين الجميل في آخر زيارة له إلى دمشق في اللحظات الأخيرة التي تفصله عن نهاية الولاية في 22 سبتمبر 1988، إنقاذ موقع رئاسة الجمهورية وانقاذ لبنان من الفراغ الدستوري، لكن رحلته المفاجئة أثارت هواجس الرجلين القويين في المناطق المسيحية آنذاك، قائد الجيش ميشال عون وقائد ميليشيا «القوات اللبنانية» سمير جعجع، فاجتمعا بعد تباعد، خلال لقاء الجميل والأسد، ما نسف أي تسوية ممكنة أو صفقة متخيّلة.ومع سقوط كل إمكانية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، قرر الرئيس الجميل تكليف عون تأليف حكومة مؤقتة تتولى تنظيم الانتخابات الرئاسية في أي سانحة بعد رفض النائب بيار حلو تولي المهمة الشاقة. قبَِل عون بالمهمة فيما رفض رئيس الحكومة سليم الحص هذه الخطوة وتمسك بشرعية حكومته. وبدلاً أن تكون حكومة عسكرية خشبة الخلاص . إذا بالوزراء المسلمون يرفضون تسلم مناصبهم وبقيت حكومة عون بتراء طائفياً، لا تضم إلا عون وجنرالين مسيحيين مواليين له . انتقل الصراع إلى الساحة المسيحية نفسها، عندما اصطدم بـ «القوات اللبنانية» على مرحلتين بين العامين 1988 و1990 وهو ما عُرف بحرب الإلغاء .وهي أشرس معركة خاضها المسيحيون إبان الحرب الأهلية وأكثرها تدميراً على كل الأصعدة، وما بينهما أعلن ميشال عون وبشكل مفاجئ حرب التحرير ضد القوات السورية المرابطة في لبنان في 14 مارس 1989، مبتدئاً بمجزرة مروعة بين طلاب المدارس في قصف غادر لمنطقة الأونيسكو غربي بيروت.
النصاب والفراغ الدستوري

وعن تلك المرحلة الحبلى بالأحداث يقول النائب الراحل بيار حلو: «في نهاية عهد الرئيس امين الجميل كنا سندخل في مرحلة الفراغ عندما رفض عدد من النواب تأمين النصاب لجلسة الانتخاب. وكان الرئيس سليمان فرنجية مرشحاً وكذلك النائب مخايل الضاهر، وقد حصلت معركة نصاب حيث فقد النصاب في المرتين وكان الممكن ان يحضر النواب جلسة الانتخاب، لكن قبل ليلة كان النواب المسيحيون مجتمعين في بكركي عند البطريرك لنرى اذا كنا سنذهب إلى الجلسة في اليوم التالي أم لا، وكان هناك شبه إجماع لمقاطعة الانتخابات. وبعد ساعة من اجتماعنا جاء النائب رينيه معوض وقال لنا: «جاءتني مكالمة الآن من الرئيس أمين الجميل يقول انه الآن في دمشق ويتمنى عليكم أن لا تتحركوا قبل اتصاله بنا مجدداً». طبعاً انتظرنا وفي الساعة السابعة مساء سمعنا صوت المروحية الذي ترجل منها الجميل ليخبرنا أجواء اجتماعه مع الرئيس حافظ الأسد، وقال لنا في تلك الليلة من حقكم الطبيعي ان تنتخبوا غداً رئيساً للجمهورية واذا كنتم لا تريدون فهناك مرسوم في جيبي يتعلق بتشكيل حكومة انتقالية وسأضع كل واحد أمام مسؤوليته، التفت إلى رينيه معوض وقال لي: انت يا بيار سترأس غداً الحكومة الانتقالية لأنه حصل على معلومات تشير إلى ذلك». درست الوضع جيداً وترددت في تلك الفترة لوجود ضغوط أولها الرفض الإسلامي للفكرة، فما كان مني ان اعتذرت للرئيس الجميل عن التكليف. سمع هذا الكلام داني شمعون فقال لي: هل تنزعج يا بيار اذا سعيت انا الى تأليف الحكومة. قلت له: لن نجد أفضل منك. فقام داني شمعون باتصالات مع رئيس الحكومة سليم الحص وطلب الأخير مهلة لذلك ومن مهلة إلى مهلة وصلنا إلى الساعة 11 إلا ربعاً في اليوم الأخير من الولاية الدستورية، وفي الساعة 12 منتصف الليل سيصبح هناك فراغ ويصبح سليم الحص مع الاكثرية الساحقة يحكمون البلد، وبعد فشل الوساطات مع الجانب الإسلامي في الشطر الغربي من العاصمة قال داني شمعون إنه مستعد لأن يشكل الحكومة بأسماء الموارنة الخمسة الذي اتفقنا عليهم ويرممها بحكومة الحص. وبما ان العماد عون كان من الأسماء المطروحة رفض الدخول بهذه الحكومة وقد كانت الساعة 11 وبعد مساجلة مع داني شمعون قال له اذاً هل ترأس انت الحكومة؟ فقال عون اما ان اترأس حكومة عسكرية أو لا أدخل في هذه الحكومة. قال له ما هي الحكومة العسكرية، قال عون: هناك المجلس العسكري ويضم توازناً طائفياً (3-3) فوافق الجميل على تشكيل الحكومة العسكرية برئاسة ميشال عون فحضر الوزيران المسيحيان واعتذر الباقون (الوزراء المسلمون) وخلال تولي العماد عون للحكومة العسكرية حصلت اضطرابات في البلد وسقط الكثير من القتلى والجرحى، وتبين لنا أن عون لن يؤمن الانتخابات الرئاسية التي هي سبب قيام حكومته إلا اذا جاء هو رئيساً وهذا يعني ان الفراغ أصبح اكيداً لأن عون تمسك بشعار «انا او لا أحد».
رينيه أول رئيس بعد الطائف
وقد اجتمعنا في 18 أبريل 1989 كنواب مسيحيين وكنا 23 نائباً في بكركي وطالبنا بوقف اطلاق النار وبما أن العماد عون كان يرفض ان يجتمع مع ممثلي الميليشيات وقد طالبنا بوقف اطلاق النار إلا ان هذا الطلب كان برأي عون كفراً وقد هاجر النواب المسيحيون إلى خارج لبنان إلى ان تبلورت الامور واجتمعت اللجنة الثلاثية العربية العليا وقررت دعوة النواب اللبنانيين لاجتماع في الطائف وقد سعى الرئيس رفيق الحريري يومها للاتصال بالنواب ودعوتهم إلى الطائف وذهبنا إلى الطائف ولم نكن نفكر أنها ستكون عملية جدية لأنه حصلت عشرات المحاولات فيها باءت كلها بالفشل. ومنذ اليوم الأول لوصول النواب إلى الطائف كانت تهديدات عون واضحة عبر ارساله البرقيات لأنه لا يحب أحداً ان يخالف رأيه. وبعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف عاد النواب اما الى لبنان أو إلى باريس وقررنا انتخاب رئيس للجمهورية. وعرفنا ان العماد عون سيكون ضدنا في هذه الخطوة أكثر مما سبق وظهر لنا أن رينيه معوض هو الذي سينتخب رئيساً للجمهورية لأنه لم يعد هناك إمكانية لترشيح شخص من خارج المجلس النيابي الذي شارك بوضع هذه الوثيقة التاريخية. ونظراً للدور الذي لعبه معوض ظهر للجميع انه هو الرئيس وقد اجتمعنا عدة مرات في فندق رويال مونو في باريس وأيضاً كان النواب الذين عادوا إلى لبنان يجتمعون ويتم التنسيق في ما بينهم إلى أن جاء رئيس البرلمان حسين الحسيني وقرر ان تذهب الطائرة إلى القليعات لانتخاب رئيس للجمهورية وذهبنا إلى القليعات شمال لبنان وقد سبقنا زملاؤنا من بيروت إلى هناك. وان معركة رينيه معوض كانت معركة نصاب، وجرت اتصالات بين رفيق الحريري وبعض المرشحين ومنهم الياس الهراوي حيث حاول معه للانسحاب قائلاً ان الامور منتهية وان رينيه معوض سيكون الفائز، رفض الياس الهراوي الانسحاب لسببين الأول طموحه للرئاسة والثاني رداً على من أشاع أن كل الذين ذهبوا إلى الطائف حصلوا على ما يكفي لاسكاتهم.
مساع ماراثونية
وعن العوامل الخارجية التي جاءت برينيه معوض كأول رئيس بعد إقرار اتفاق الطائف، يقول وزير الدفاع السابق اللواء سامي الخطيب: «اتفق على اسم رينيه معوض مع الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة، وفي آخر الأمر، وافقت سوريا وكانت منزعجة من المساعي بين الطائف وباريس وواشنطن والتي أفضت إلى ترشيح معوض. وقد طرح اولاً اسم الياس الهراوي لكنه استبعد، وعندما ذهب النواب اللبنانيون إلى الطائف كان الامر مبتوتاً والخيار هو رينيه معوض».
اغتيل الرئيس معوض في منطقة الصنائع ببيروت بعد 18 يوماً من انتخابه وفي ذكرى الاستقلال بانفجار سيارة ملغومة استهدفت موكبه فعادت الأمور إلى نقطة الصفر. وهنا يقول رئيس البرلمان السابق حسين الحسيني: «انتخب رينيه معوض وتم احياء رئاسة الجمهورية وكان المطلوب تشكيل حكومة تحل محل الرئيس في حال تعرضه لخطر، لكن عند اغتيال معوض لم تكن الحكومة قد شكلت بعد وعاد الفراغ من جديد. هنا اتخذت قراراً ولا أنسى تجاوب السيدة نايلة معوض معه مخالفاً لعاداتنا وتقاليدنا حين قررنا أن ننتخب الرئيس الجديد قبل دفن الرئيس معوض. ونتيجة قرب النائب بيار حلو من الرئيس معوض وبسبب مشاركته القريبة من مشاورات الطائف وقبله ولأن الحكومة الجديدة التي اتفقنا على تشكيلها كان في عدادها بيار حلو اتجهت الانظار إليه وتجاوب الجميع بمن فيهم جوزف سكاف. رفض بيار حلو ذلك منذ اللحظة الأولى وقال: (لقد اشترطوا عليّ ان أقصف قصر بعبدا وأزيل التمرد الذي يقوم فيه العماد عون انني لا أستطيع ان أفعل وانا ابن بعبدا). هذه العوامل العائلية المناطقية تدخلت للحؤول دون قبوله الرئاسة». ويتابع الحسيني: «لم يوافق بيار حلو وكانت هناك عوامل أخرى وقد استطاع الياس الهراوي أن يحصل على تأييد تجمع النواب الموارنة المستقلين وبعض من كانت أسماؤهم موضع بحث». الشيخ رفيق الحريري وكان في ذلك الوقت له دور حاسم في جمع النواب في الطائف وفي التوصل إلى الاتفاق الشهير، بدأ بجمع النواب لانتخاب رئيس جديد للجمهورية فأرسل موفده نسيب لحود (النائب لاحقاً) إلى باريس لكي يأتي بالنواب من باريس على متن طائرته الخاصة، فالتقى بالنائب أوغست باخوس فاستعلم منه الأخير من الاسم المطروح لرئاسة الجمهورية وقال نسيب لحود إن الرأي سيستقر على النائب بيار حلو وضرب لهم موعداً في اليوم التالي ليسافروا من أجل الاجتماع لانتخاب رئيس جديد دون أن يعلمهم كيف وأين مكان الاجتماع. وبعد هبوط الطائرة في مطار دمشق الدولي ليلاً نقل النواب إلى فندق بارك اوتيل شتورا للراحة والاستعداد لجلسة الانتخاب.
وتقول الحكاية الشائعة في الوسط السياسي أن سؤالاً طرحه نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام على إلياس الهراوي قبل ترشيحه، وعندما أجاب بالموافقة كانت كلمة السرّ «الياس الهراوي رئيساً». انتخب الياس الهراوي رئيسا عاشراً للجمهورية اللبنانية، في فندق «بارك اوتيل - شتورة» من الدورة الثانية، بأصوات 47 نائبا من أصل 53 مقابل خمس أوراق بيضاء.
استمر العماد ميشال عون بتجاهل الوقائع متشبثاً بقصر بعبدا، ولكن غزو العراق للكويت في 2 أغسطس 1990، غيّر المعادلة، فباتت دمشق مطلقة اليد في طرد ساكن بعبدا، واتخذ الرئيس الهراوي قرار الإطاحة بميشال عون، وهذا ما كان في 13 أكتوبر من العام نفسه، لتبدأ مرحلة جديدة لدور سوري في لبنان، أدى في ما بعد الى التمديد للهراوي للعام 1995 ثلاث سنوات وعدّل الدستور وفاز الرئيس الهراوي بـ110 أصوات من أصل 128 نائباً.
اميل لحود
جاء قائد الجيش إميل لحود العام 1998 إلى رئاسة الجمهورية بشبه إجماع لبناني ودعم سوري ورضا أمريكي لا لبس فيه. ومنذ اللحظة الأولى، بدا أن الرئيس الجديد، يتتبع خطى سلفه الرئيس فؤاد شهاب، الذي صعد أيضاً من صفوف العسكر، فبدأ حملة ضد الفساد شنها خصوصاً ضد الرئيس رفيق الحريري وأنصاره وضد الوزير وليد جنبلاط، فجرت اعتقالات لموظفين بتهم ظهر بطلانها فيما بعد. وبالمقابل، توطدت العلاقة بين الرئيس لحود وحزب الله بحيث انمحى الهامش السابق بين الدولة والمقاومة، وزاد من تفاقم هذه الظاهرة انسحاب الجيش الإسرائيلي دون قيد أو شرط عام 2000 ثم وفاة الرئيس حافظ الأسد، لينبلج عهد جديد في سوريا انعكست ظلاله على الحياة السياسية في لبنان، وبلغ التوتر الذروة حين فرضت دمشق تعديل الدستور عام 2004 من أجل تمديد ولاية الرئيس لحود، وذلك بالرغم من صدور القرار الدولي رقم 1559 الذي طالب بإجراء انتخابات حرة في لبنان. كان القرار المذكور مؤشراً مهماً على أن العصر السوري شارف على النهاية، وأن «كلمة السر» لن يحتكرها بعد اليوم طرف واحد.