-A +A
د. طلال صالح بنان
لا توجد دولة في العالم يظهر التناقض الأخلاقي في سياستها الخارجية مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ففي واشنطن تعريفات خاصة لقيم الممارسة السياسية، على مستوى حركة السياسة الدولية وعلى مستوى مجتمعات الدول المحلية. الديموقراطية، لها تعريف خاص، ومتناقض على مستوى وحدة التحليل الواحدة عند واشنطن. الديموقراطية التي تنتج حكومات مناوئة لسياسات الولايات المتحدة، ليست ديموقراطية، بينما الممارسات غير الديموقراطية التي ينتج عنها أنظمة سياسية موالية للولايات المتحدة، هي أنظمة صالحة ورشيدة..!؟ على مستوى الدولة الواحدة، الولايات المتحدة تؤيد أحيانا الحكومات التي تظهر خارج الممارسة الديموقراطية، عن تلك التي تفرزها الممارسة الديموقراطية الحقيقية. في لبنان وفلسطين، على سبيل المثال: هناك تعريفان مختلفان للديموقراطية عند واشنطن... أما ما يدور في المنطقة الخضراء من بغداد، فهو قمة الممارسة الديموقراطية، التي تبشر بها الولايات المتحدة، من خلال تبنيها لما تسميه فكرة الفوضى البناءة..!؟ بالمقابل: في فنزويلا ، مثلا لا توجد ممارسة ديموقراطية، بينما في بعض مناطق العالم، الذي تسود فيها قيم بعض المجتمعات التقليدية، يُقال عن خطوات الديموقراطية المتثاقلة والعرجاء على أنها قمة الإنجاز في الممارسة الديموقراطية، بفضل “تشجيع” الولايات المتحدة لانتشار الممارسة الديموقراطية في تلك المجتمعات، كأهم نجاحات السياسة الخارجية الأمريكية... وقس على هذه الأمثلة نماذج متناقضة للسياسة الخارجية الأمريكية حول العالم..!!؟
هذا التناقض في المساومة على قيم الليبرالية الغربية التي تقوم عليه مجتمعات الغرب، بالذات المجتمع الأمريكي، يُلاحظ من قبل مؤسسات رسمية وغير رسمية في داخل النظام الأمريكي نفسه، قبل أن يثير اشمئزاز الرأي العام لدى مجتمعات الدول المستهدفة من قبل استراتيجية التوسع الأمريكية. حتى ميكيافيلي، لو كان موجوداً، يستفزه هذا التناقض اللاخلاقي في السياسة الخارجية الأمريكية.

آخر ما ظهر، على مستوى صراع المؤسسات في النظام السياسي الأمريكي، ما يجري في الكونجرس الأمريكي، هذه الأيام، من تحقيقات حول ممارسات للإدارة الأمريكية في العراق للتغطية على الفساد في المنطقة الخضراء ببغداد. هذا النموذج في بغداد، لما تراه الإدارة الأمريكية نموذجاً للحكم، الذي تبشر بانتشاره في مجتمعات المنطقة المحرومة، على حد زعم مؤسسات صناعة السياسة الخارجية من الديموقراطية، ظهر أن الفساد ينخر فيه حتى النخاع بعد أن أتى على اللحم والعظم في جسده المهترئ. تشتكي لجنة عينها الكونجرس للتحقيق في ممارسات بالفساد في بغداد وزيرة الخارجية شخصياً، بأنها وراء حجب معلومات ووثائق تحتاجها لجنة التحقيق المعنية، بهدف عرقلة عمل اللجنة والتأثير على نتائج التحقيق الذي تقوم به بغرض لتقييم أداء إدارة الرئيس بوش في التعامل مع الملف العراقي، الذي يُحَمِل دافع الضرائب الأمريكي أكثر من 100 مليار سنوياً، بالإضافة إلى مئات الضحايا سنوياً من الجنود الأمريكيين الذين يسقطون في مسرح عمليات ما تسميه الإدارة الحرب على الإرهاب في العراق.
لا يكفي إدارة الرئيس بوش أنها غزت العراق لأسباب ثبت عدم صحتها، لاحقاً... بالإضافة إلى سوء تقدير جسيم لتكلفة الغزو وتبعاته، في غياب أي أمل للنصر في معركة العراق، بعد أكثر من أربع سنوات من الغزو، بالرغم من التضحيات الجسيمة المادية والإنسانية التي يتحملها الشعب الأمريكي بسبب قرار الغزو... بل إن الإدارة الأمريكية كشفت عن استعداد لا أخلاقي يعكس استهانة بمسؤولية سياسية جسيمة تجاه الشعب الأمريكي ونوابه في الكونجرس، بالمساومة على ما تجادل به من تحقيق غايات نبيلة وراء إطلاق العنان للقوة العسكرية الأمريكية الكاسحة، مثل نشر الديموقراطية وإرساء دعائم الحكم الرشيد ومحاربة الفساد، لتعم قيم الممارسة الليبرالية مجتمعات المنطقة والعالم، بدءاً من العراق.!؟
واشنطن، لا تريد أن يسود الحكم الرشيد مجتمعات المنطقة والعالم.. ولا تستطيع أن تستغني عن آفة الفساد. ليس من صالح أمريكا أن تسود الديموقراطية العالم، كما أنه ليس من صالحها القضاء على الفساد، بكافة أشكاله. الفساد والاستبداد أهم وسائلها لتمرير سياساتها التوسعية لنهب ثروات المنطقة والعالم وتكريس مظاهر التخلف والتبعية لها، شأنها شأن أي قوة إمبراطورية عرفها التاريخ.