استغربت حين وجدت في جوالي رقمه متكررا فأيقنت أن أمرا هاما هو الذي دفعه لهذا الإلحاح ، اتصلت به معتذرا لعدم ردي على مكالماته المتكررة وأخبرني قبل أن ينتبه لاعتذاري بحاجته الماسة لزيارتي وأدركت أنه في سيارته فقلت: هل أنت في طريقك إلي؟ قال بل أنا في طريقي من مكة إلى جدة فهل أستطيع أن أزورك؟ قلت: على الرحب والسعة. حين وصل بادرني بالسؤال: هل أنت مستعجل؟ قلت:لا، فأنا كلي آذان صاغية لك، قال: اجلس واستمع لقصتي، فأنا عائد من مكة وقد أمضيت فيها يومين كنت سعيدا بالصلاة في بيت الله الحرام، وأمس وأنا ذاهب للحرم مررت في طريقي برجل ضخم الجثة يمسك كومبريسور ويحفر الإسفلت وراعني ضجيج الجهاز وما يحدثه من رجفة في بدنه، وأحزنني حجم الجهد الذي يبذله والعرق الذي كان يتصبب من جبينه، وسرت وأنا أحدث نفسي كم هي عزيزة لقمة العيش على بعض الناس وكم يعانون من أجل الحصول عليها، وتذكرت معاناتي في بداية حياتي إلى أن أنعم الله علي بما أنا فيه من مال، تابعت طريقي إلى الحرم وصليت الظهر وطفت ثم عدت مرة أخرى إلى الفندق وحين وصلت إلى المكان الذي كان يعمل به ذلك الرجل لم أجده فالتفت لأجده نائما على الرصيف ومخدته حذاؤه ولا يفصل جسده عن بلاط الرصيف إلا الثوب الرقيق الذي يستر جسده، وجبينه كصنبور ماء خرب يقطر عرقا يجري على الرصيف لم تنجح حرارة الرصيف من تبخيره بسبب غزارته،والغريب أيضا أنه ينام هنيئا غارقا مع كل الضجيج الذي تحدثه السيارات سواء بمحركاتها التي تهدر هدرا أو بأبواقها التي تزعق مطالبة الناس بالابتعاد عن طريقها، كما لم تستطع وقع أقدام المشاة من حوله أن توقظه، كما لم ينجح في إيقاظه أولئك الناس الذي يتجاوزون من فوقه أثناء سيرهم على الرصيف.توقفَ لحظةً فبادَرْتُهُ متسائلا: ما بك؟ قال: هل تعلم أنني وقفت أمامه لدقائق أنظر إليه وأنا أحدث نفسي قائلا: يا رب خذ كل ما أملك واعطني نوما عميقا كهذا الذي يتمتع به هذا الرجل، نعم طلبتُ ذلك وأنت تعلم أنني لا أنام بدون حبوب منومة وأحيانا اضطر لأخذ أكثر من حبة، وأنت تعلم أنني أملك ولله الحمد مئات الملايين فتجارتي أكسبتني ما أنا فيه من شهرة واسعة ومال وفير، قلت: أأنت مستعد للتنازل عما جمعته مع ما بذلته من جهد مروع لجمعه مقابل أن تنعم بما ينعم به ذلك العامل الفقير؟ قال: نعم، قلت ألست معي بأن السعادة هبة ربانية يوزعها الله علينا نحن البشر بطريقة حكيمة وعادلة فهو يعطي كلا منا قسطا كافيا منها ولكن بلون مختلف؟ فمن حُرم المال مثل ذلك الفقير الذي رأيته أعطاه النوم الهانئ وهو نوع آخر من السعادة حُرمت أنت منه، وبالمقابل أعطاك المال الذي حُرم هو منه، فلا تجزع فكل أنواع السعادة لا تُشترى ولكننا نحس بها، إنها تنبع من داخلنا تنبع من رضانا عما نحن فيه، أنت وأنا وغيرنا فقراء بأشياء وأغنياء بأخرى، ولا تتصور أن أحدا سيكون غنيا بكل شيء فكم غني بالمال هو فقير بالصحة أو بالولد أو بالحياة الزوجية أو بالحياة مع والديه أو بالحياة العملية أو بغيرها، نحن فقراء وأغنياء في آن معا، وتأكد تماما لو أن ذلك الرجل الذي نام على الرصيف رآك وعرف حقيقة معاناتك مع النوم وأنك مستعد لدفع ما تملك لشرائه مع عجزك في الوقت نفسه عن شرائه لتأكد أنه غني بما أنت فقير به، فهو يملك مالك كله لأنك مستعد لدفعه مقابل ما يملكه، ألسنا جميعا فقراء وأغنياء في آن واحد؟ نحن فقراء بما يملكه غيرنا، وأغنياء بما نملكه فلماذا لا نرى ما نملك ونحن أغنياء به ونتوقف عند ما نفتقده؟ لعلك أدركت الآن يا صديقي الحكمة مما قاله المصطفى: لا ينظر أحدكم إلى من هو فوقه ولينظر لمن هو دونه، ومن يُرد أن يشعر بطعم السعادة فلا ينظرن إلى ما حُرم منه، والخير لنا جميعا أن نبحث عما نملكه شريطة أن نراه بعيون من يفتقدونه عندها فقط سنشعر بطعم السعادة الحقيقية.