-A +A
غازي عبداللطيف جمجوم
قلوبنا وخواطرنا في عيد هذا العام مع أشقائنا العراقيين الذين كابدوا طوال السنوات الماضية قدرا هائلا من المصائب والأهوال والمحن من قتل وتشريد وصعوبات بالغة في جميع جوانب المعيشة، في مسلسل من الأحداث المأساوية بدأ منذ عهد صدّام ولا يعلم إلا الله متى ينتهي. الذي حدث في العراق يكاد لا يُصدق. أقل ما يقال عنه، مثل غيره من مسلسلات الحزن العربية المستمرة، أنه لا يليق بالقرن الواحد والعشرين، قرن القرية الكونية الصغيرة (Global Village)؟ أليس معنى هذه العبارة أن العالم كله أصبح وحدة متقاربة متآلفة كسكان القرية التي يرى ويسمع ويعرف سكانها كل ما يحدث لجيرانهم، ويُفترض أنهم يهتمون بأمرهم ويحسون بمعاناتهم ويقفون بجانبهم ويحاولون مساعدتهم؟ أليس هذا القرن هو قرن وفرة الأنظمة والدساتير والمعاهدات والاتفاقيات والجمعيات التي غطت كل نواحي الحياة وكل علاقة بين الدول والجماعات والأفراد؟ أليس هو القرن الذي توجت فيه الحقوق: حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الأقليات. كيف يمكن أن نتصور مع كل هذا أن نشاهد مسلسلات صراع الغاب تعرض صباح مساء أمام أنظار العالم؟ وأن نرى دولة عريقة مثل العراق غنية مثل العراق قوية مثل العراق وهي تتفكك وتضمحل؟
أحاول أن أستعيد شريط الذكريات. ذكريات صدام في أيام عزه، يوم كان رجل العراق الأوحد، الآمر الناهي، يفعل ما يشاء، يأمر فيُطاع، يصول ويجول، يتغطرس ويتعالى، يُهدد ويتوعد. يتحدى دون أن يحسب حساب أحد. صوره وتماثيله في كل مكان. الكل يُمجدونه ويُعظمونه. لم يكن العراق سعيدا تلك الأيام. كان الكثير من أبنائه مضطهدين أو سجناء أو هاربين. بعضهم أُعدم أو قُتل بالغازات السامة ودفن في مقابر جماعية. الحرب الطويلة الطاحنة مع إيران أفنت الكثيرين ولم يستفد منها أحد. العراق وأبناؤه دفعوا الثمن غاليا. محاولات صدام العبثية لبناء مفاعل نووي تنتهي بضربة إسرائيلية متوقعة لم يحسب حسابها. تمادى صدام في طغيانه وعبثه بغزو الكويت. من كان يصدق أن يصل به الأمر إلى مثل هذا العمل الأحمق الذي ألغى كل مضامين العروبة والإسلام والأخوة والجيرة والإنسانية؟ صبر العالم ينفد. العالم يسترد شيئا من عقلانيته بتحرير الكويت. يتم تحجيم صدام، وتفرض المقاطعة الاقتصادية على العراق. الشعب العراقي وخاصة أطفال العراق يدفعون الثمن مرة ثانية. صدام يُصبح أسدا من ورق و لعبة تلهو بها القوى الكبرى كيف تشاء. تأتي أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ويشهد العالم مسرحية عبثية أخرى من نوعية أفلام «الكاوبوي» بطلها يطارد الشرير (الأسد اللعبة) بلا هوادة، وللأسف دون أي اعتبار للضحايا الأبرياء الذين يسقطون تحت الأقدام: ربط لا منطقي بين القاعدة وصدام، و ادعاءات ملفقة بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل ليس لها وجود. ردود فعل بلهاء وحسابات خاطئة من صدام. حرب عبثية ثانية يقوم بها شرطي العالم الأكبر لتفريغ غيظه على شعب لم يقم بأي اعتداء عليه متجاوزا نصائح قادة العالم الأكثر حكمة وإنسانية. لا أحد يعرف ماذا كانت الدوافع الحقيقية للحرب على العراق: هل كانت الرغبة في الانتقام الأعمى لأحداث سبتمبر؟ أم استغلال الفرصة لتأمين الوصول إلى مخزون النفط؟ أم السيطرة على مواقع استراتيجية لمحاصرة الصين وروسيا؟ أم حماية إسرائيل من خطر لم يعد قائما؟ أم كل ذلك؟ مرة ثالثة العراق يدفع الثمن. الأمريكيون يتوقعون نزهة قصيرة يستقبلهم العراقيون فيها بالأحضان والورود، ولكن هذا لم يحدث بل يجدون أنفسهم غائصين في مستنقع لا يسهل الخروج منه. الحرب تكشف عن أسوء ما في الإنسان. دوامة الصراع السني - الشيعي تكشر عن أنيابها. القتل ينتشر. صدام يُطارد من جحر لجحر إلى أن يُمسك به ويُعدم ولكن إعدامه لا ينهي المشكلة. المأساة تستمر. يبدأ نسيج العراق في التفكك. أقوى قوة في العالم تعجز عن السيطرة على العراق المتحارب. أبناء العراق بالملايين يهربون إلى الخارج، باحثين عن النجاة بأي وسيلة. العالم ينظر ولا يفعل إلا القليل. الرئيس الأمريكي يفقد مصداقيته وشعبيته ويستعد لمغادرة البيت الأبيض بعد انتهاء ولايته، ولكنه يتمسك بخط السير نفسه. لا أحد يمكن أن يتكهن عن البدائل الأخرى، ماذا سيحدث إذا بقي الأمريكيون أو إذا خرجوا؟ مستقبل العراق، مهد الحضارة ودوحة الخلافة الإسلامية يصبح على كف عفريت.

لم نملك أن نفعل شيئا لأشقائنا في العراق إلا أن ندعو لهم في ليالي رمضان أن يلهمهم الله رشدهم ويُطفئ نار الفتنة بينهم ويجعلهم يتصرفون بعقلانية تليق بهذا الزمان، وأن يحرر أرضهم ويجنبهم التدخلات الخارجية التي تهدف إلى تمزيقهم. وندعو لهم أن يروا ولو قدرا صغيرا من السعادة في عيد الفطر القادم. ندعو لهم ونسمع بعضهم ينشدون للعراق الحزين بصوت خافت لا يكاد يسمع بين أصوات القنابل والدمار: موطني.. موطني.