تحدثنا في الحلقة السابقة عن تحرير كاسترو لكوبا من طغيان باتيستا الا انه افقرها اكثر من نصف قرن من الزمن وتعرفنا على ارتفاع نسبة الفقر والبطالة التي تجاوزت 20 % وهو ما ادى الى هروب اصحاب الشهادات الى خارج البلاد. وفي الحلقة الاخيرة نسأل اذا كان غياب الزعيم الكوبي يشكل فرصة تاريخية لاحداث التغيير الديمقراطي في البلاد ام ان النظام الجديد الذي يتزعمه اخوه راؤول سيستمر على نفس النهج الشمولي الديكتاتوري؟ ونتعرف ايضاً على توعد وزيرة الخارجية الامريكية كوندوليزا رايس بعدم ترك النظام الكوبي يدبر خلافة كاسترو على طريقته؟
لم يحظ بلد بهذا القدر من الاهتمام والجدل والتكهنات بمصير نظامه ومستقبله مثل كوبا خصوصاً في الفترة التي تلت مرض كاسترو . ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تثار فيها التساؤلات حول مستقبل هذه الدولة ، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أخذت التساؤلات تلح حول صمود كوبا بعد انهيار القطب الشيوعي . ولكن كوبا اجتازت السنوات العصيبة في تاريخها وخرجت صامدة. إلا أن هذا الصمود لم يوقف سيل التساؤلات التي ما زالت تتدفق حول ما ستؤول إليه كوبا بعد وفاة زعيمها فيدل كاسترو؟ وهل ستقوم لها قائمة؟ وما هو مستقبل الاشتراكية فيها؟
لكن في نفس الوقت هناك من يتساءل : ما هو "السر" في هذا الصمود؟ هل هو الشعب العنيد والمتمرس على أشكال النضال والصمود ؟ كيف استطاعت هذه الجزيرة الصغيرة أن تصمد في وجه الكارثة التي حلت بها بعد الانهيار السوفييتي وان تستعصي على العداء الأمريكي الذي تمنى وقوعها منذ أكثر من أربعة عقود ؟ كيف هوت أنظمة تشيكوسولفاكيا وبلغاريا وألمانيا الشرقية وغيرها خلال أسابيع أو أشهر ، وصمدت كوبا أربعة قرون وهي على مرمي صاروخ من شواطئ ميامي ؟ كيف نجت كوبا من براثن الجوع ودخلت عقدها الثاني بعد غياب الصديق السوفيتي الكبير الذي رحل تاركا خلفه تلك الجزيرة البعيدة عرضة للعزلة والجوع والفقر؟ ماذا سيكون مصيرها بعد وفاة كاسترو ؟
كتبت جوليا سويج Julia E. Sweig المتخصصة في شئون أمريكا اللاتينية في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية ، في عدد فبراير 2007 من مجلة الشئون الخارجية الأمريكية ذائعة الصيت تحت عنوان : "النصر الأخير لكاسترو : Fidel´s Final Victory تقول أن انتقال السلطة السلمي من كاسترو المريض إلى أخيه راؤول خيب ظن الولايات المتحدة التي كانت ترى أن انتهاء القبضة الحديدية لكاسترو على السلطة سيفجر الجزيرة التي طالما تمنى الساسة الأمريكيون زوالها .
هذه الملاحظة التي أوردتها سويج كانت في إطار الجدل الذي بدأ بين المهتمين والمراقبين بالشأن الكوبي حول مصير كوبا بعد كاسترو .هذا الأمر كان محل خلاف كبير بين المراقبين الذين انقسموا بشأنه بين رأيين:
الرأي الأول : يقول أن راؤول لا يتمتع بالشخصية الكاريزمية والقوة التي تمتع بها كاسترو ، كما أن التحولات التي تشهدها أمريكا اللاتينية والديمقراطية التي تنتشر هناك ستدفع الكوبيين الى التغيير . ويذهب هذا الرأي أيضا إلى القول بأن انسحاب كاسترو لا بد أن يشكل فرصة تاريخية لإحداث التغيير الديمقراطي المنشود في كوبا. هذا مع ملاحظة أن كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية توعدت بأن أمريكا لن تترك النظام الكوبي يدبر أمر خلافة كاسترو كما يشاء.
الرأي الثاني : يقول ان راؤول سيتبع مدرسة كاسترو وسيحافظ على استقرار النظام بدليل أن كاسترو ظل مريضا لعدة شهور ولا يمارس السلطة ومع ذلك استمر النظام ولم ينهر في كوبا ، وكل ماحدث هو انتقال السلطة لجيل جديد من الزعماء يسعى للإصلاح التدريجي ويظل الشعب الكوبي يدين بالولاء للنظام الذي حافظ على سيادته في وجه الولايات المتحدة . والدليل على ذلك عدم حدوث واقعة واحدة للعنف ، أو نزوح جماعي من كوبا .
وبحسب البعض فإن نقل السلطة من فيدل إلى أخيه راؤول كان مرتبا له بدقة كبيرة استباقا للغياب النهائي لكاسترو عن دفة الحكم بما يضمن ديمومة وتواصل النظام السياسي القائم في كوبا منذ عشرات السنين.
إصلاح تدريجي ضمن ثبات النظام
لقد سبق لكوبا أن شهدت التحول في المناخ السياسي الدولي بانهيار الاتحاد السوفييتي ، وفي ظل ظروف اقتصادية صعبة. فلقد كانت التسعينات أو ما يسميه الكوبيون الفترة الخاصة سنوات شديدة القسوة على الشعب الكوبي. فالاقتصاد الكوبي تأثر سلبا بانهيار الإتحاد السوفيتي الشريك الأهم لكوبا و الذي كان المستهلك الأكبر للسكر و المزود الأول بالبترول ، إضافة إلى الحصار الاقتصادي الذي تفرضه أمريكا منذ سنوات كثيرة و الذي تدعم بقانون هلمس بيرتون سنة 1996 الذي يعاقب الشركات الأجنبية التي تقيم علاقات اقتصادية مع كوبا بمنعها من التعامل مع أمريكا. لذلك عمدت الحكومة الكوبية منذ سنة 1993 إلى إدخال بعض عناصر الاقتصاد الرأسمالي في الاقتصاد الكوبي وخاصة في الزراعة والسياحة و شرعت التعامل بالدولار و شجعت إحداث الشركات ذات رأسمال مختلط...و لئن أدت هذه السياسة إلى انطلاقة للنمو الاقتصادي و بروز قطاعات اقتصادية جديدة مثل السياحة التي تستقطب مئات المؤسسات ، فإن الاقتصاد الكوبي لا يزال يعيش صعوبات كبيرة.
فنسبة نمو الناتج القومي الخام تراوح بين 2 و 3 بالمائة و هي نسبة غير كافية لامتصاص الطلب المتزايد على الشغل خاصة بعد إغلاق عديد المؤسسات وبصورة خاصة تلك التي كانت تشتغل بصناعة السكر و التي أصبحت عاجزة عن المنافسة في السوق العالمية. كما يشهد الاستثمار الخارجي ركودا و تقلصا نتيجة الحصار الاقتصادي الذي تفرضه أمريكا إضافة إلى تزايد الدين الخارجي . وكنتيجة لذلك ظهر عديد من الأمراض داخل المجتمع الكوبي مثل الرشوة التي أعلن الزعيم كاسترو الحرب المعلنة ضدها سنة 2003 معتبرا إياها أخطر من قنبلة أمريكية و بروز السوق الموازية والفوارق الاجتماعية بين طبقة استفادت من الانفتاح الاقتصادي النسبي الذي شهدته كوبا خلال التسعينات و طبقات شعبية واسعة تعيش الفقر و الخصاصة. حيث أن عملية التزاوج بين العديد من عناصر النخبة الحاكمة و عالم الأعمال خلق شريحة اجتماعية جديدة يسميها الكوبيون الرفاق المستثمرون الذين كدسوا ثروات هامة من مسؤولين حزبيين وبيروقراطيي الدولة و بصورة خاصة بعض ضباط القوات المسلحة الذين يحتلون مناصب رفيعة في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكوبي و في الحكومة و أجهزة الدولة. ورغم كل هذه السلبيات فإن الخدمات الاجتماعية لا زالت في مستوى جيد بحرص من القيادة الكوبية مثل التعليم الذي تخصص له 10 بالمائة من ميزانية الدولة أو الخدمات الصحية المجانية و السكن الاجتماعي و الإعفاء من الضرائب... علاوة على أن كوبا استثمرت كثيرا في تكوين الرأسمال البشري حيث يزداد الطلب على الأطباء و المدرسين و المدربين الرياضيين الكوبيين خاصة في بلدان أمريكا اللاتينية..
التحول السلمي للسلطة يدحض الرأي القائل بالتغيير
إلا أن بعض المراقبين يعتبرون أن نقل السلطة على شكل توريث للحكم من فيدل إلى أخيه راؤول كاسترو مع استمرار النظام السياسي الشمولي والاستبدادي في كوبا قد يضع ذلك البلد في أفق مجهول قد يضر بمصالحه القريبة و البعيدة و قد يسبب خيبة أمل جديدة لكل الديمقراطيين و التقدميين الذين ألهمهم وهج الثورة الكوبية و أحبوا زعيميها فيدال كاسترو و تشي جيفارا.
غياب الديمقراطية يدفع للتغيير
كوبا لم تشهد انتخابات ديمقراطية أو حتى تعددية منذ إرساء نظام الحزب الشيوعي سنة 1959.. و قد ذكرت تقارير منظمة العفو الدولية أن هنالك 70 سجين رأي في السجون الكوبية تعرض العديد منهم إلى سوء المعاملة و حجب الخدمات الصحية تم اعتقالهم في حملة ربيع 2003 التي أطلقها النظام الكوبي وشملت محامين و أطباء و مدرسين وصحفيين...بتهمة المساس باستقلال البلاد والمس من حرمتها الترابية. و تراوحت الأحكام بين 3 سنوات و 28 سنة في محاكمات غابت عنها أدنى مقومات المحاكمة العادلة. كما أورد التقرير أن المعارضين للنظام الكوبي يتعرضون و عائلاتهم إلى المضايقات و المنع من السفر إلى الخارج و لا تزال منظمة العفو الدولية ممنوعة من زيارة كوبا حيث تعود أخر زيارة لها إلى سنة 1998 كما لا تزال كوبا ترفض زيارة الممثلة الخاصة للمنسق الأعلى لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة . و في الميدان الإعلامي تشدد جمعيات الصحفيين مثل مراسلون بدون حدود انتقاداتها لكوبا حول غياب حرية الإعلام و اعتقال الصحفيين و ملاحقتهم ومراقبة الإنترنيت و قطع مواقع الويب في حين يدير ضابط عسكري مؤسسة التلفزة الكوبية بقناتيها و المخصصة للدعاية الرسمية للحزب الحاكم.
و لا يمكن للشعوب في بداية هذا القرن أن تواصل العيش فقط بالتعليم الإجباري والخدمات الصحية المجانية والأكل والشرب وتنفس الهواء متخلية عن حقها الأساسي في الحرية...و لا يمكنها مواصلة التمتع بذلك بقوة القهر والقمع والقوانين القسرية حتى ولو كان ذلك من طرف الزعيم أو الحزب الذي قاد الأمة إلى التحرير والنصر. وبناء على هذه الظروف فإن انسحاب فيدال كاسترو من الساحة السياسية قد يكون فرصة تاريخية لتحول ديمقراطي أصبح اليوم ضروريا و حيويا بالنسبة للشعب الكوبي ليخرج من حالة التخلف السياسي و الاقتصادي التي يعيشها.
السياق التاريخي والسياسي وإمكانية التغيير
تقوم اغلب التكهنات حول مستقبل النظام في كوبا والتشكيك بقدرته على الاستمرار في مشروع التحول الاشتراكي على الفرضية التي تقول إن الأزمة الاجتماعية ـ الاقتصادية ستؤدي حتما إلى أزمة في النظام السياسي، وان تفاقم هاتين الأزمتين مجتمعتين سيؤدي إلى الانهيار التام للنظام الكوبي. وهكذا تبقى تفسيرات الحالة الكوبية أسيرة لجبرية الأوضاع الاجتماعية وآثارها جريا على تجربة انهيار الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية لإدراك الدور الكبير الذي تلعبه العوامل السياسية التي ساهمت وشكلت عاملا حافزا لسلسلة التطورات التي تلت ذلك الانهيار ، ومن هنا يمكن لأصحاب هذا الاتجاه أن يقودهم تحليلهم إلى إمكانية انهيار النظام الكوبي .
وهذا يجب الاشارة الى انه لا بد من فهم عملية التحول الاشتراكي في كوبا في سياق مرحلة تاريخية لمجتمع رزح تحت الهيمنة الأمريكية ما يقارب من ستة عقود (1901ـ 1959). وستظل هذه الحقيقة بالغة الدلالة في فهم الأحداث التي تلت انتصار الثورة الكوبية في الأول من يناير 1959 وفهم العلاقة بين الطرفين المتصارعين: الرأسمالية الأمريكية والثورة الكوبية. وحين همت الثورة في القضاء على الهيمنة الامريكية وتحقيق الاستقلال والشروع في البناء الاشتراكي تصدى لها تحديان كبيران ما زالت آثارهما واضحة المعالم على هذه التجربة. تمثل التحدي الأول في غياب النموذج الاشتراكي الناجح الذي تستطيع كوبا الاستفادة من قدوته. أما التحدي الثاني، والذي لا يزال قائما بشكل أكثر حدة من أي وقت مضى، فهو العداء والحصار الأمريكي الذي لم يتوقف منذ أعلنته الإدارة الأمريكية عام 1961 ضد هذه الجزيرة الصغيرة والمعزولة. وهكذا لم تقتصر مهمة الكوبيين على بناء المجتمع الجديد فحسب بل وفي الدفاع عنه وعن استقلاله أيضا.
وهناك أيضا الفريق الذي يميل إلى تفسير الأزمة بالعوامل الخارجية (الانهيار السوفيتي، تضييق الحصار الأمريكي، عدم القدرة على الاندماج في السوق العالمية) مستندين في ذلك إلى فهمهم للاقتصاد الكوبي بأنه كان دوما اقتصادا مفتوحا وان التجارة الخارجية الكوبية اتسمت تقليديا بقلة الصادرات وكثرة المستوردات مع الدول الاشتراكية سابقا والتي منحت السلع الكوبية أسعاراً مفضلة.
ويظل السؤال التالي موضوع خلاف وحوار في كوبا: هل يشكل الحصار الأمريكي ضد كوبا، بطبيعته وشراسته وآثاره المدمرة على الاقتصاد الكوبي، العامل الرئيسي المسؤول عن الأزمة الكوبية الراهنة أم علينا أن نبحث عن أسباب تلك الأزمة في الظروف الداخلية والسياسات الاقتصادية المتبعة في كوبا؟ فهناك من يقول ان المبالغة في آثار الحصار تستخدم لتبرير الخلل ونقاط الضعف وانعدام الكفاءة الاقتصادية في النظام الاقتصادي الكوبي وبنيته ذاتها. ويضيفون انه لا يجوز استخدام العوامل الخارجية كذريعة لتبرير الأخطاء في السياسات الاقتصادية وضعف الكفاءة الاقتصادية. وبالرغم من انه لا يمكن التنكر لمسألة انعدام الكفاءة في الاقتصاد الكوبي إلا انه مع بلوغ عام 1991 طغت مشاكل طارئة أخرى أكثر حدة من هذه المشكلة لا يمكن تجاهلها في صياغة المأزق التي عانت منه كوبا.
السيناريوهات المستقبلية
وعودة إلى مستقبل كوبا بعد كاسترو فالبعض يرى أن كوبا ستشهد ´زلزالاً قوياً´ حتى إذا خلفه شقيقه راؤول، الذي يعتبر من وجهة نظر البعض متزمتاً ومن أكبر المخلصين للخط السياسي للحزب الحاكم، وعرف عنه إلى الآن كونه من أهم المعارضين لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي. وعلى الرغم من أن بعض الخبراء يرون إمكان تجنب سقوط النظام عقب وفاة الزعيم الكوبي، عن طريق تسلم العسكريين للسلطة بقيادة راؤول كاسترو، إلا أن مثل هذا الحل سيكون مؤقتاً ويبررون ذلك بأن كلا من الشعب الكوبي والأسرة الدولية لن يعترفا طويلاً بشرعية حكم العسكريين، فحكومة كوبية بقيادة عسكرية لا يمكن أن تكون سوى حكومة مؤقتة، وفقا للباحث الكوبي ريمي هيريرا.
نظريتان في التحول
من جانب آخر، فإن ثمة درجة كبيرة من الغموض في ما يتعلق بمدى نجاح كوبا في التحول إلى مجتمع منفتح وتعددي يتبع قوانين اقتصاد السوق، أو الاستمرار في تبني التوجه الاشتراكي كمصدر للسياسة الاقتصادية والاجتماعية للنظام الكوبي بعد كاسترو. وفي هذا الإطار تبرز وجهتا نظر متعارضتان:
الأولى: يتبناها عالم الاجتماع الألماني ´هانس – يورجن بوركهارت´، وترى أن كوبا قادرة على تحقيق النجاح في دخولها في الاقتصاد العالمي، من خلال امتلاكها اليد العاملة ذات الكفاءة العالية، والتي تتمتع بغطاء اجتماعي جيد، علاوة على المؤسسات العلمية والتكنولوجية والمعارف التي يتمتع بها الكوبيون، تؤمن النجاح المؤكد لهذه الخطوة الانتقالية. ويتوقف نجاح هذه الفرضية – طبقا لبوركهارت – على قيام الدولة الكوبية بإجراء إصلاحات من قبيل السماح بإجراء انتخابات حرة وتعددية، وتخلي النظام عن موقعه السياسي الذي يهيمن على الحكم عن طريق الحزب الأوحد.
الثانية: يتبناها الباحث ´بيرت هوفمان´، وتستبعد الاحتمال السابق طالما استمر الحصار الأمريكي المفروض على الجزيرة الكوبية، ويبرر ذلك بقوله: ´إن النخبة المنبثقة من الإدارة الحالية، والتي ستتولى شؤون الحكم عقب وفاة كاسترو، ستحاول بأي شكل تجنب إجراء تغيير كبير في النظام في حال لم تدع الولايات المتحدة للرئيس الكوبي الحالي، أو للذي سيخلفه، مجالاً آخر غير الاستسلام من دون شرط. إذ أن تغيير النظام في مثل هذه الظروف سيكون كقطع القيادة الكوبية الغصن الذي تجلس عليه´.ويشكك ´هوفمان´ في احتمال بروز أي دور للمعارضة الكوبية بعد وفاة كاسترو، فعلى الرغم من إشارته إلى أن كوبا تشهد منذ زمن ´استياء شعبياً مهماً´، إلا أن المعارضة تتسم بالانقسام وعدم امتلاك وسائل تعبير جدية داخل النظام الكوبي، إضافة إلى عدم معرفة الجمهور الكوبي بوجود معارضين معروفين سواء داخل البلاد أو خارجها. ومن ثم يستبعد الفكرة القائلة بأن كوبا ستتحول إلى ديمقراطية مثالية ذات اقتصاد منفتح على السوق، بعد وفاة كاسترو. ويرى أنها ´ستحتفظ بنظامها الاشتراكي السلطوي والأبوي الذي يوجد في دول أخرى في أمريكا اللاتينية´.
من جانبه يرى الفارو فارغاس، مؤلف كتاب ´حرية لأمريكا الجنوبية´، أن هناك أكثر من سيناريو لكوبا في عهد راؤول، بعضها لن يتحقق، وبعضها ربما سيتحقق، وتتمثل تلك السيناريوهات إما في تقليد النموذج الصيني أو النموذج البولندي أو النموذج الروسي. ففي حالة تقليد الصين، سيضمن بقاء الحزب الشيوعي حزباً وحيداً وحاكماً، لكنه سيعلن سياسة السوق المفتوح، ويطلق أيدي المستثمرين الكوبيين، ويفتح الباب أمام رؤوس الأموال الأجنبية. لكن التغيير في الصين قاده دينغ تسياو بنغ، الذي اختلف مع آخرين في قيادة الحزب الشيوعي، وانتصر عليهم. ´لكن راؤول لا يمثل جناح تغيير داخل الحزب الشيوعي في كوبا، ولهذا لا يملك الشرعية الثورية ليغير، ولن يغير´. وفي حالة تقليد بولندا، سيعلن عودة الجنرالات إلى الثكنات مثلما فعل الجنرال ياروزلسكي في سنة 1989، ´لكن راؤول عسكري متشدد، وليس عسكريا إنسانيا، ولهذا ليست عنده نية العودة إلى الثكنات، ولن يعود´. وفي حالة تقليد روسيا، سيعلن ´الجلاسنوست´ (الانفتاح)، و´البيريسترويكا´ (الإصلاح)، مثلما فعل ميخائيل جورباتشوف قبل خمس عشرة سنة. لكن راؤول ´لا يملك شخصية جذابة مثل جورباتشوف، وليس معجبا بالغرب، ولو سرا، مثله´.
ورغم أن فارغاس يتوقع أن يميل راؤول إلى تأسيس نظام أكثر عسكرية وديكتاتورية من نظام فيدل، إلا أن كبر سنه ومرضه ، لن يجعله قادراً على الاستمرار في الحكم لمدة طويلة. وبالتالي سيظهر بعد فترة قليلة من سؤال: ´من يخلف فيدل؟´ سؤال: ´من يخلف راؤول؟´. ومن ثم فإن الاحتمال الأكثر هو تحول الصراع السري إلى صراع علني، إما داخل القوات المسلحة، أو الحزب، أو العائلة، التى لها جناح موجود في أمريكا، والذي سيحصل على التأييد الأمريكي أكثر من أي فئة أخرى.
لم يحظ بلد بهذا القدر من الاهتمام والجدل والتكهنات بمصير نظامه ومستقبله مثل كوبا خصوصاً في الفترة التي تلت مرض كاسترو . ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تثار فيها التساؤلات حول مستقبل هذه الدولة ، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أخذت التساؤلات تلح حول صمود كوبا بعد انهيار القطب الشيوعي . ولكن كوبا اجتازت السنوات العصيبة في تاريخها وخرجت صامدة. إلا أن هذا الصمود لم يوقف سيل التساؤلات التي ما زالت تتدفق حول ما ستؤول إليه كوبا بعد وفاة زعيمها فيدل كاسترو؟ وهل ستقوم لها قائمة؟ وما هو مستقبل الاشتراكية فيها؟
لكن في نفس الوقت هناك من يتساءل : ما هو "السر" في هذا الصمود؟ هل هو الشعب العنيد والمتمرس على أشكال النضال والصمود ؟ كيف استطاعت هذه الجزيرة الصغيرة أن تصمد في وجه الكارثة التي حلت بها بعد الانهيار السوفييتي وان تستعصي على العداء الأمريكي الذي تمنى وقوعها منذ أكثر من أربعة عقود ؟ كيف هوت أنظمة تشيكوسولفاكيا وبلغاريا وألمانيا الشرقية وغيرها خلال أسابيع أو أشهر ، وصمدت كوبا أربعة قرون وهي على مرمي صاروخ من شواطئ ميامي ؟ كيف نجت كوبا من براثن الجوع ودخلت عقدها الثاني بعد غياب الصديق السوفيتي الكبير الذي رحل تاركا خلفه تلك الجزيرة البعيدة عرضة للعزلة والجوع والفقر؟ ماذا سيكون مصيرها بعد وفاة كاسترو ؟
كتبت جوليا سويج Julia E. Sweig المتخصصة في شئون أمريكا اللاتينية في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية ، في عدد فبراير 2007 من مجلة الشئون الخارجية الأمريكية ذائعة الصيت تحت عنوان : "النصر الأخير لكاسترو : Fidel´s Final Victory تقول أن انتقال السلطة السلمي من كاسترو المريض إلى أخيه راؤول خيب ظن الولايات المتحدة التي كانت ترى أن انتهاء القبضة الحديدية لكاسترو على السلطة سيفجر الجزيرة التي طالما تمنى الساسة الأمريكيون زوالها .
هذه الملاحظة التي أوردتها سويج كانت في إطار الجدل الذي بدأ بين المهتمين والمراقبين بالشأن الكوبي حول مصير كوبا بعد كاسترو .هذا الأمر كان محل خلاف كبير بين المراقبين الذين انقسموا بشأنه بين رأيين:
الرأي الأول : يقول أن راؤول لا يتمتع بالشخصية الكاريزمية والقوة التي تمتع بها كاسترو ، كما أن التحولات التي تشهدها أمريكا اللاتينية والديمقراطية التي تنتشر هناك ستدفع الكوبيين الى التغيير . ويذهب هذا الرأي أيضا إلى القول بأن انسحاب كاسترو لا بد أن يشكل فرصة تاريخية لإحداث التغيير الديمقراطي المنشود في كوبا. هذا مع ملاحظة أن كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية توعدت بأن أمريكا لن تترك النظام الكوبي يدبر أمر خلافة كاسترو كما يشاء.
الرأي الثاني : يقول ان راؤول سيتبع مدرسة كاسترو وسيحافظ على استقرار النظام بدليل أن كاسترو ظل مريضا لعدة شهور ولا يمارس السلطة ومع ذلك استمر النظام ولم ينهر في كوبا ، وكل ماحدث هو انتقال السلطة لجيل جديد من الزعماء يسعى للإصلاح التدريجي ويظل الشعب الكوبي يدين بالولاء للنظام الذي حافظ على سيادته في وجه الولايات المتحدة . والدليل على ذلك عدم حدوث واقعة واحدة للعنف ، أو نزوح جماعي من كوبا .
وبحسب البعض فإن نقل السلطة من فيدل إلى أخيه راؤول كان مرتبا له بدقة كبيرة استباقا للغياب النهائي لكاسترو عن دفة الحكم بما يضمن ديمومة وتواصل النظام السياسي القائم في كوبا منذ عشرات السنين.
إصلاح تدريجي ضمن ثبات النظام
لقد سبق لكوبا أن شهدت التحول في المناخ السياسي الدولي بانهيار الاتحاد السوفييتي ، وفي ظل ظروف اقتصادية صعبة. فلقد كانت التسعينات أو ما يسميه الكوبيون الفترة الخاصة سنوات شديدة القسوة على الشعب الكوبي. فالاقتصاد الكوبي تأثر سلبا بانهيار الإتحاد السوفيتي الشريك الأهم لكوبا و الذي كان المستهلك الأكبر للسكر و المزود الأول بالبترول ، إضافة إلى الحصار الاقتصادي الذي تفرضه أمريكا منذ سنوات كثيرة و الذي تدعم بقانون هلمس بيرتون سنة 1996 الذي يعاقب الشركات الأجنبية التي تقيم علاقات اقتصادية مع كوبا بمنعها من التعامل مع أمريكا. لذلك عمدت الحكومة الكوبية منذ سنة 1993 إلى إدخال بعض عناصر الاقتصاد الرأسمالي في الاقتصاد الكوبي وخاصة في الزراعة والسياحة و شرعت التعامل بالدولار و شجعت إحداث الشركات ذات رأسمال مختلط...و لئن أدت هذه السياسة إلى انطلاقة للنمو الاقتصادي و بروز قطاعات اقتصادية جديدة مثل السياحة التي تستقطب مئات المؤسسات ، فإن الاقتصاد الكوبي لا يزال يعيش صعوبات كبيرة.
فنسبة نمو الناتج القومي الخام تراوح بين 2 و 3 بالمائة و هي نسبة غير كافية لامتصاص الطلب المتزايد على الشغل خاصة بعد إغلاق عديد المؤسسات وبصورة خاصة تلك التي كانت تشتغل بصناعة السكر و التي أصبحت عاجزة عن المنافسة في السوق العالمية. كما يشهد الاستثمار الخارجي ركودا و تقلصا نتيجة الحصار الاقتصادي الذي تفرضه أمريكا إضافة إلى تزايد الدين الخارجي . وكنتيجة لذلك ظهر عديد من الأمراض داخل المجتمع الكوبي مثل الرشوة التي أعلن الزعيم كاسترو الحرب المعلنة ضدها سنة 2003 معتبرا إياها أخطر من قنبلة أمريكية و بروز السوق الموازية والفوارق الاجتماعية بين طبقة استفادت من الانفتاح الاقتصادي النسبي الذي شهدته كوبا خلال التسعينات و طبقات شعبية واسعة تعيش الفقر و الخصاصة. حيث أن عملية التزاوج بين العديد من عناصر النخبة الحاكمة و عالم الأعمال خلق شريحة اجتماعية جديدة يسميها الكوبيون الرفاق المستثمرون الذين كدسوا ثروات هامة من مسؤولين حزبيين وبيروقراطيي الدولة و بصورة خاصة بعض ضباط القوات المسلحة الذين يحتلون مناصب رفيعة في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكوبي و في الحكومة و أجهزة الدولة. ورغم كل هذه السلبيات فإن الخدمات الاجتماعية لا زالت في مستوى جيد بحرص من القيادة الكوبية مثل التعليم الذي تخصص له 10 بالمائة من ميزانية الدولة أو الخدمات الصحية المجانية و السكن الاجتماعي و الإعفاء من الضرائب... علاوة على أن كوبا استثمرت كثيرا في تكوين الرأسمال البشري حيث يزداد الطلب على الأطباء و المدرسين و المدربين الرياضيين الكوبيين خاصة في بلدان أمريكا اللاتينية..
التحول السلمي للسلطة يدحض الرأي القائل بالتغيير
إلا أن بعض المراقبين يعتبرون أن نقل السلطة على شكل توريث للحكم من فيدل إلى أخيه راؤول كاسترو مع استمرار النظام السياسي الشمولي والاستبدادي في كوبا قد يضع ذلك البلد في أفق مجهول قد يضر بمصالحه القريبة و البعيدة و قد يسبب خيبة أمل جديدة لكل الديمقراطيين و التقدميين الذين ألهمهم وهج الثورة الكوبية و أحبوا زعيميها فيدال كاسترو و تشي جيفارا.
غياب الديمقراطية يدفع للتغيير
كوبا لم تشهد انتخابات ديمقراطية أو حتى تعددية منذ إرساء نظام الحزب الشيوعي سنة 1959.. و قد ذكرت تقارير منظمة العفو الدولية أن هنالك 70 سجين رأي في السجون الكوبية تعرض العديد منهم إلى سوء المعاملة و حجب الخدمات الصحية تم اعتقالهم في حملة ربيع 2003 التي أطلقها النظام الكوبي وشملت محامين و أطباء و مدرسين وصحفيين...بتهمة المساس باستقلال البلاد والمس من حرمتها الترابية. و تراوحت الأحكام بين 3 سنوات و 28 سنة في محاكمات غابت عنها أدنى مقومات المحاكمة العادلة. كما أورد التقرير أن المعارضين للنظام الكوبي يتعرضون و عائلاتهم إلى المضايقات و المنع من السفر إلى الخارج و لا تزال منظمة العفو الدولية ممنوعة من زيارة كوبا حيث تعود أخر زيارة لها إلى سنة 1998 كما لا تزال كوبا ترفض زيارة الممثلة الخاصة للمنسق الأعلى لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة . و في الميدان الإعلامي تشدد جمعيات الصحفيين مثل مراسلون بدون حدود انتقاداتها لكوبا حول غياب حرية الإعلام و اعتقال الصحفيين و ملاحقتهم ومراقبة الإنترنيت و قطع مواقع الويب في حين يدير ضابط عسكري مؤسسة التلفزة الكوبية بقناتيها و المخصصة للدعاية الرسمية للحزب الحاكم.
و لا يمكن للشعوب في بداية هذا القرن أن تواصل العيش فقط بالتعليم الإجباري والخدمات الصحية المجانية والأكل والشرب وتنفس الهواء متخلية عن حقها الأساسي في الحرية...و لا يمكنها مواصلة التمتع بذلك بقوة القهر والقمع والقوانين القسرية حتى ولو كان ذلك من طرف الزعيم أو الحزب الذي قاد الأمة إلى التحرير والنصر. وبناء على هذه الظروف فإن انسحاب فيدال كاسترو من الساحة السياسية قد يكون فرصة تاريخية لتحول ديمقراطي أصبح اليوم ضروريا و حيويا بالنسبة للشعب الكوبي ليخرج من حالة التخلف السياسي و الاقتصادي التي يعيشها.
السياق التاريخي والسياسي وإمكانية التغيير
تقوم اغلب التكهنات حول مستقبل النظام في كوبا والتشكيك بقدرته على الاستمرار في مشروع التحول الاشتراكي على الفرضية التي تقول إن الأزمة الاجتماعية ـ الاقتصادية ستؤدي حتما إلى أزمة في النظام السياسي، وان تفاقم هاتين الأزمتين مجتمعتين سيؤدي إلى الانهيار التام للنظام الكوبي. وهكذا تبقى تفسيرات الحالة الكوبية أسيرة لجبرية الأوضاع الاجتماعية وآثارها جريا على تجربة انهيار الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية لإدراك الدور الكبير الذي تلعبه العوامل السياسية التي ساهمت وشكلت عاملا حافزا لسلسلة التطورات التي تلت ذلك الانهيار ، ومن هنا يمكن لأصحاب هذا الاتجاه أن يقودهم تحليلهم إلى إمكانية انهيار النظام الكوبي .
وهذا يجب الاشارة الى انه لا بد من فهم عملية التحول الاشتراكي في كوبا في سياق مرحلة تاريخية لمجتمع رزح تحت الهيمنة الأمريكية ما يقارب من ستة عقود (1901ـ 1959). وستظل هذه الحقيقة بالغة الدلالة في فهم الأحداث التي تلت انتصار الثورة الكوبية في الأول من يناير 1959 وفهم العلاقة بين الطرفين المتصارعين: الرأسمالية الأمريكية والثورة الكوبية. وحين همت الثورة في القضاء على الهيمنة الامريكية وتحقيق الاستقلال والشروع في البناء الاشتراكي تصدى لها تحديان كبيران ما زالت آثارهما واضحة المعالم على هذه التجربة. تمثل التحدي الأول في غياب النموذج الاشتراكي الناجح الذي تستطيع كوبا الاستفادة من قدوته. أما التحدي الثاني، والذي لا يزال قائما بشكل أكثر حدة من أي وقت مضى، فهو العداء والحصار الأمريكي الذي لم يتوقف منذ أعلنته الإدارة الأمريكية عام 1961 ضد هذه الجزيرة الصغيرة والمعزولة. وهكذا لم تقتصر مهمة الكوبيين على بناء المجتمع الجديد فحسب بل وفي الدفاع عنه وعن استقلاله أيضا.
وهناك أيضا الفريق الذي يميل إلى تفسير الأزمة بالعوامل الخارجية (الانهيار السوفيتي، تضييق الحصار الأمريكي، عدم القدرة على الاندماج في السوق العالمية) مستندين في ذلك إلى فهمهم للاقتصاد الكوبي بأنه كان دوما اقتصادا مفتوحا وان التجارة الخارجية الكوبية اتسمت تقليديا بقلة الصادرات وكثرة المستوردات مع الدول الاشتراكية سابقا والتي منحت السلع الكوبية أسعاراً مفضلة.
ويظل السؤال التالي موضوع خلاف وحوار في كوبا: هل يشكل الحصار الأمريكي ضد كوبا، بطبيعته وشراسته وآثاره المدمرة على الاقتصاد الكوبي، العامل الرئيسي المسؤول عن الأزمة الكوبية الراهنة أم علينا أن نبحث عن أسباب تلك الأزمة في الظروف الداخلية والسياسات الاقتصادية المتبعة في كوبا؟ فهناك من يقول ان المبالغة في آثار الحصار تستخدم لتبرير الخلل ونقاط الضعف وانعدام الكفاءة الاقتصادية في النظام الاقتصادي الكوبي وبنيته ذاتها. ويضيفون انه لا يجوز استخدام العوامل الخارجية كذريعة لتبرير الأخطاء في السياسات الاقتصادية وضعف الكفاءة الاقتصادية. وبالرغم من انه لا يمكن التنكر لمسألة انعدام الكفاءة في الاقتصاد الكوبي إلا انه مع بلوغ عام 1991 طغت مشاكل طارئة أخرى أكثر حدة من هذه المشكلة لا يمكن تجاهلها في صياغة المأزق التي عانت منه كوبا.
السيناريوهات المستقبلية
وعودة إلى مستقبل كوبا بعد كاسترو فالبعض يرى أن كوبا ستشهد ´زلزالاً قوياً´ حتى إذا خلفه شقيقه راؤول، الذي يعتبر من وجهة نظر البعض متزمتاً ومن أكبر المخلصين للخط السياسي للحزب الحاكم، وعرف عنه إلى الآن كونه من أهم المعارضين لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي. وعلى الرغم من أن بعض الخبراء يرون إمكان تجنب سقوط النظام عقب وفاة الزعيم الكوبي، عن طريق تسلم العسكريين للسلطة بقيادة راؤول كاسترو، إلا أن مثل هذا الحل سيكون مؤقتاً ويبررون ذلك بأن كلا من الشعب الكوبي والأسرة الدولية لن يعترفا طويلاً بشرعية حكم العسكريين، فحكومة كوبية بقيادة عسكرية لا يمكن أن تكون سوى حكومة مؤقتة، وفقا للباحث الكوبي ريمي هيريرا.
نظريتان في التحول
من جانب آخر، فإن ثمة درجة كبيرة من الغموض في ما يتعلق بمدى نجاح كوبا في التحول إلى مجتمع منفتح وتعددي يتبع قوانين اقتصاد السوق، أو الاستمرار في تبني التوجه الاشتراكي كمصدر للسياسة الاقتصادية والاجتماعية للنظام الكوبي بعد كاسترو. وفي هذا الإطار تبرز وجهتا نظر متعارضتان:
الأولى: يتبناها عالم الاجتماع الألماني ´هانس – يورجن بوركهارت´، وترى أن كوبا قادرة على تحقيق النجاح في دخولها في الاقتصاد العالمي، من خلال امتلاكها اليد العاملة ذات الكفاءة العالية، والتي تتمتع بغطاء اجتماعي جيد، علاوة على المؤسسات العلمية والتكنولوجية والمعارف التي يتمتع بها الكوبيون، تؤمن النجاح المؤكد لهذه الخطوة الانتقالية. ويتوقف نجاح هذه الفرضية – طبقا لبوركهارت – على قيام الدولة الكوبية بإجراء إصلاحات من قبيل السماح بإجراء انتخابات حرة وتعددية، وتخلي النظام عن موقعه السياسي الذي يهيمن على الحكم عن طريق الحزب الأوحد.
الثانية: يتبناها الباحث ´بيرت هوفمان´، وتستبعد الاحتمال السابق طالما استمر الحصار الأمريكي المفروض على الجزيرة الكوبية، ويبرر ذلك بقوله: ´إن النخبة المنبثقة من الإدارة الحالية، والتي ستتولى شؤون الحكم عقب وفاة كاسترو، ستحاول بأي شكل تجنب إجراء تغيير كبير في النظام في حال لم تدع الولايات المتحدة للرئيس الكوبي الحالي، أو للذي سيخلفه، مجالاً آخر غير الاستسلام من دون شرط. إذ أن تغيير النظام في مثل هذه الظروف سيكون كقطع القيادة الكوبية الغصن الذي تجلس عليه´.ويشكك ´هوفمان´ في احتمال بروز أي دور للمعارضة الكوبية بعد وفاة كاسترو، فعلى الرغم من إشارته إلى أن كوبا تشهد منذ زمن ´استياء شعبياً مهماً´، إلا أن المعارضة تتسم بالانقسام وعدم امتلاك وسائل تعبير جدية داخل النظام الكوبي، إضافة إلى عدم معرفة الجمهور الكوبي بوجود معارضين معروفين سواء داخل البلاد أو خارجها. ومن ثم يستبعد الفكرة القائلة بأن كوبا ستتحول إلى ديمقراطية مثالية ذات اقتصاد منفتح على السوق، بعد وفاة كاسترو. ويرى أنها ´ستحتفظ بنظامها الاشتراكي السلطوي والأبوي الذي يوجد في دول أخرى في أمريكا اللاتينية´.
من جانبه يرى الفارو فارغاس، مؤلف كتاب ´حرية لأمريكا الجنوبية´، أن هناك أكثر من سيناريو لكوبا في عهد راؤول، بعضها لن يتحقق، وبعضها ربما سيتحقق، وتتمثل تلك السيناريوهات إما في تقليد النموذج الصيني أو النموذج البولندي أو النموذج الروسي. ففي حالة تقليد الصين، سيضمن بقاء الحزب الشيوعي حزباً وحيداً وحاكماً، لكنه سيعلن سياسة السوق المفتوح، ويطلق أيدي المستثمرين الكوبيين، ويفتح الباب أمام رؤوس الأموال الأجنبية. لكن التغيير في الصين قاده دينغ تسياو بنغ، الذي اختلف مع آخرين في قيادة الحزب الشيوعي، وانتصر عليهم. ´لكن راؤول لا يمثل جناح تغيير داخل الحزب الشيوعي في كوبا، ولهذا لا يملك الشرعية الثورية ليغير، ولن يغير´. وفي حالة تقليد بولندا، سيعلن عودة الجنرالات إلى الثكنات مثلما فعل الجنرال ياروزلسكي في سنة 1989، ´لكن راؤول عسكري متشدد، وليس عسكريا إنسانيا، ولهذا ليست عنده نية العودة إلى الثكنات، ولن يعود´. وفي حالة تقليد روسيا، سيعلن ´الجلاسنوست´ (الانفتاح)، و´البيريسترويكا´ (الإصلاح)، مثلما فعل ميخائيل جورباتشوف قبل خمس عشرة سنة. لكن راؤول ´لا يملك شخصية جذابة مثل جورباتشوف، وليس معجبا بالغرب، ولو سرا، مثله´.
ورغم أن فارغاس يتوقع أن يميل راؤول إلى تأسيس نظام أكثر عسكرية وديكتاتورية من نظام فيدل، إلا أن كبر سنه ومرضه ، لن يجعله قادراً على الاستمرار في الحكم لمدة طويلة. وبالتالي سيظهر بعد فترة قليلة من سؤال: ´من يخلف فيدل؟´ سؤال: ´من يخلف راؤول؟´. ومن ثم فإن الاحتمال الأكثر هو تحول الصراع السري إلى صراع علني، إما داخل القوات المسلحة، أو الحزب، أو العائلة، التى لها جناح موجود في أمريكا، والذي سيحصل على التأييد الأمريكي أكثر من أي فئة أخرى.