مذ قرأت (عشت لأروي) مذكرات غابرييل غارسيا ماركيز عند صدورها مترجمة للغة العربية قبل أربع سنوات ، وأنا متشوق لقراءة شيء من رواياته العديدة ، والتي لا تخلو مكتبتي المتواضعة من شيء منها ، شجعني على ذلك مواقفه المشرفة من القضايا العربية وبالذات قضيتي فلسطين والعراق وانحيازه غير المحدود للمستضعفين والمهمشين في المجتمعات الدولية . وزاد من محبتي له انحيازه التام وتضامنه مع المقاومة في فلسطين واستنكاره الشديد لمنح رئيس وزراء اسرائيل السابق (شارون) جائزة نوبل وقال إنه يستحق جائزة (نوبل في القتل) بعد حصار الجيش الإسرائيلي لمدينة جنين عام 2002م وقال : ".. سامحوني إذا قلت أيضاً إنني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل.." . وجدتها فرصة ثمينة خلال عطلة عيد الفطر المبارك لأقرأ شيئاً مما سبق أن أجلت قراءته وبالذات مجموعتي عبد الرحمن منيف القصصية والتي نشرت بعد وفاته (أسماء مستعارة) و (الباب المفتوح) ورواية محمد حسن الحربي (أحداث مدينة على الشاطئ) وغيرها .
وتفحصت رفوف الروايات والقصص لدي والذي يحتوي على ما لا يقل عن 1200 عنوان ، وكنت عازماً على معرفة ما لدي لـ(ماركيز) فوجدت له عدا المذكرات (عشت لأروي) (ساعة الشؤم) و(كيف تكتب الرواية؟) و(كوبا في زمن الحصار) و(مئة عام من العزلة) و(ذاكرة غانياتي الحزينات) و(الجنرال في متاهته) و(رحلة المخاطر) فرتبتها عازماً على ألا تفوتني هذه العطلة دون قراءتها، وفعلاً توكلت على الله وبدأت بأحدث ما كتب وترجم للعربية (ذاكرة غانياتي الحزينات) دار المدى ، دمشق ، 2005م ، والتي تمنى قبل عشرين سنة أنه كتب ما سبق أن كتبه الروائي الياباني ياسوناري كاواباتا (الجميلات النائمات) ، فنجد ماركيز يقول في مقال (طائرة الحسناء النائمة) ضمن كتابه (كيف نكتب الرواية؟) دار الأهالي ، دمشق ، 1988م ، إذ قال : ".. ومع ذلك ، فالرواية الوحيدة التي تمنيت لو أكون كاتبها هي بيت الجميلات النائمات لكاواباتا..".
نجده بعد أن بلغ السبعين من عمره يذهب كالعادة في الخامسة صباحاً
– كالتزام وحيد- من يوم الجمعة لإيصال مقاله الأسبوعي الذي ينشر أيام الآحاد بصحيفة (ديار يودي لاباث) – بكولمبيا- وقال :"كنت أنوي ترك المقال
– الاستقالة- في استعلامات الجريدة ، والعودة إلى البيت ، ولكنني لم أستطع ، فالعاملون كلهم كانوا بانتظاري للاحتفال بعيد ميلادي.." وبعد كلمات المجاملة وأخذ الصور التذكارية وتوزيع المشروبات والحلوى قال :".. وكنت أفضل الموت على الرد على مثل تلك الخطب ، ولإنهاء الحفلة ، عمد رئيس التحرير الذي لم أشعر نحوه قط بتعاطف كبير ، إلى إعادتنا إلى الواقع الفظ ، فقد قال : والآن ، أيها التسعيني اللامع ، أين هي مقالتك ؟.." .
ونجده يقول بعد ذلك إنه ذهب لبائع الدراجات – ليشتري دراجة لإحدى الفقيرات- الذي سأله عن سنه فقال :".. سأكمل السبعين.. فرد الموظف ما كنت أود سماعه بالضبط : انك تبدو أصغر بعشرين سنة ..".
وهذا بالضبط ما سبق أن سمعته من أستاذي عبد الكريم الجهيمان قبل نحو عشر سنوات وبعد أن أخذه السائق الهندي الجديد (ريان) في برنامجه الرياضي اليومي قبل الغروب ونزل من السيارة على رصيف حديقة في حي الروابي بالرياض حيث يسكن وبدأ يمشي ثم يهرول مدة نصف ساعة وبعيد الغروب عاد للسيارة في مكانها حيث تأخذه إلى البيت أو المسجد لصلاة المغرب ، فسأله السائق بعد تردد . كم عمرك ؟ فقال إنه قد تجاوز التسعين ، فرد عليه السائق أنه بهذا البرنامج سيعيش على الأقل عشرين سنة قادمة .. ولهذا عندما تحلقنا حوله في اللقاء الأسبوعي قص علينا ما حدث مع السائق والفرح يتطاير من عينه كفراشات تحوم حول الزهور .
والآن وقد تجاوز الاثنان الاول الثمانين والثاني المائة من عمريهما ، وما زالا في صحة وعافية نرجو لهما المزيد من الصحة والعطاء .
ونعود إلى (ماركيز ) وإلى مذكراته (عشت لأروي) لمعرفة بداياته مع التعليم والكتابة .
انطلق يروي ذكرياته معيداً القارئ إلى طفولته وفترة مراهقته ، فمما قاله : انه كان يحب اللعب في الشارع كأي طفل آخر ولكن جدته تلح عليه لتنظيف أسنانه ، وكان يراها وهي تخرج طاقم أسنانها وتنظفه وتعيد تركيبه ، فكان يتمنى لو كان مثلها لتتولى تنظيف أسنانه دون أن يقطع لعبه في الشارع.
وقال : انه تكلف مشقة كبيرة في تعلم القراءة .. وأخيراً عندما وصل إلى المدرسة النظامية (مونيتسوري) لم تعلمه المعلمة أسماء الحروف ، وإنما منطوقها ، وهكذا استطاع أن يقرأ أول كتاب وجده في خزانة معفرة في مستودع البيت ، ويقول عنه : ".. إنه كان مفككاً وغير مكتمل ، ولكنه اجتذبني بشدة ، حتى أن خطيب سارا أطلق لدى مروره إنذاراً رهيباً (يا للعنة ، هذا الطفل سيصير كاتباً)."
وقد مرت عدة سنوات قبل أن أعرف أن ذلك الكتاب هو (ألف ليلة وليلة) وأكثر قصة أعجبتني فيه إحدى أقصر القصص التي قرأتها وأبسطها ، ستبقى تبدو لي الأفضل طوال ما تبقي من حياتي ، مع أنني غير متأكد الآن مما إذا كنت قد قرأتها هناك ، ولم يستطع أحد أن يوضح لي ذلك ، والقصة هي التالية :"صياد يعد جارته بأن يهدي إليها أول سمكة يصطادها إذا ما قدمت له قطعة رصاص ، من أجل الشبكة ، وعندما تشق المرأة السمكة لكي تقليها ، تجد في داخلها ماسة بحجم حبة لوز..".
ويعود لـ(ألف ليلة وليلة) مرة أخرى عندما ذهب مع مجموعة من الشباب ليلتحقوا بمدرسة (منيتسوري) ، وليجرى لهم اختبار القبول .. وعندما أجرى أحد المدرسين الفحص وسأله ما هي الكتب التي قرأتها : ذكر من بين ما قرأ (ألف ليلة وليلة) و(الكيخوتة) و(كنز الشباب) . ولهذا فقد سجل في الصف الرابع الابتدائي وقال :".. وكان يسمح لي بأخذ الكتب من المكتبة المدرسية لأقرأها في البيت ، وقد كان اثنان من تلك الكتب (جزيرة الكنز) و (الكونت ديمونت كريستو) هما المخدر السعيد في سنوات الأعاجيب تلك ، كنت التهمهما حرفاً حرفاً ، متلهفاً لمعرفة ما الذي سيحدث في السطر التالي ، ومتلهفاً في الوقت نفسه إلى عدم معرفة ذلك ، حتى لا أكسر السحر ، وقد تعلمت منهما مثلما تعلمت من (ألف ليلة وليلة) ما لن أنساه أبداً ، بأنه يجب أن نقرأ فقط الكتب التي تجبرنا على أن نعيد قراءتها.." ، وقال انه يتساءل أحياناً كيف تلد المرأة؟ ومن أين يأتي المولود؟
فقال : "كنا نعتقد أو يقال لنا كأطفال أن طائر اللقلق هو الذي يأتي بالأطفال من باريس .." وقال ان عمره بلغ واحداً وعشرين عاماً ولم يكن يصدق أو يتوصل إلى أن يربط الولادة بالجنس.
وقد مر على كاتب هذه السطور في طفولته ان سألته زوجة الكُتَّاب (المطوع) عن والدته وهل ولدت ؟ وعندما سألها من أين تلد؟ قالت :من كم ثوبها ، ولهذا عندما عاد إلى أمه تفحص كمها وهل هو واسع إلى حد أن يخرج منه هذا الطفل .
وكان يصف حالة الأسرة والفقر الذي تعيشه .. ومناسبة قيام والدته بشراء ركبة جاموسة وراحت تغليها يوماً بعد آخر من أجل المرق اليومي الذي راح دسمه يتناقص يوماً بعد يوم إلى أن تحول إلى مجرد ماء لا يمكنه أن يمنح المزيد .
وهذا أيضاً يذكرني بطفولتي بالقرية (عُتيَّق) غربي عقلة (معقرة) بالزلفي،عندما كان عمي عبد الله – يرحمه الله- يحضر من البلدة –عندما يبيع حمولة جمله من حطب أو حشيش- عظام الجمل بعد نزع اللحم عنه وبقاء العظم بما علق به من عصب لبضعة أيام بالشمس بجوار دكان جزار الزلفي الوحيد ، فكان عمي يحضر عظام الجمل وبعصبه اليابس لتدلى بكاملها بالبير (القليب) ليوم أو أكثر حتى يلين العصب ، ثم يغلى لمدة لا تقل عن نهار كامل ، وتؤكل كوليمة دسمة وكنا نسميها (البخص).
وعندما أنهى – ماركيز- سنة الحقوق الثانية بدأ يكتب بتوقيع وبدون توقيع وأحياناً بأسماء مستعارة مثل (سيبتيموس) وقال : ".. إن الرقابة قد فرضت على الصحف عندما اختل النظام وصار في كل صحيفة رقيب يقبع وراء منضدة في قسم التحرير ، كما لو أنه في بيته ، منذ الساعة السادسة مساء ، ويتمتع بالإرادة والسلطة في عدم السماح بنشر أي حرف يمكن له أن يمس الأمن العام".
كل هذا وماركيز كالمتشرد يحمل حقيبته معه وينام أحياناً بالجريدة وأحياناً في فندق متواضع (لانثي) وكل ما لديه صندل تاريخي وغياران من الملابس يغسلهما تحت الدش عند الاستحمام ، وحقيبة جلد سرقها من صالة الشاي الفخمة في بوغوتا ، عندما اجتاحها الشغب .
ويقول :".. إنه عندما التحق بدار المعلمين العليا في بوغوتا بكولومبيا في عام 1942م وتغير المدير الجاف المنعزل والمعتزل للحياة الاجتماعية بالمعهد (اليخاندو راموس) إلى المدير الجديد (كارلوس ماتيني) بدأت مرحلة جديدة وهزت المعهد رياح التغيير ، وسمح للمذياع ، وبدأت حلقات النقاش الأدبية ، وتأسس المركز الأدبي وتضاعف النشاط الثقافي ، وتم نشر صحيفة أدبية باسم (الجريدة الأدبية) وبدأ ينشر إسهاماته – شعراً ونثراً- باسم مستعار هو (خابيير غارتيس) وقال : "..لم أكن استخدمه في الواقع للتميز وإنما لاختبئ خلفه .. ، لأن مشاركاتي الشعرية (سونيتات) كانت مجرد تمارين حرفية دون الهام ودون تطلعات ، ولا يمكن أن تعزى إليها أي قيمة شعرية.
وبمجرد صدور العدد وهو بالحجم المتوسط (تابلويد) بثماني صفحات صودر العدد بدعوى أنه لم يمر على الرقابة . وعزل مدير المعهد المحبوب دون اعلان مسبق"
وقال : .. إن الكتاب الذي حدد مساراً جديداً في حياته هو (المسخ) لفرانز كافكا عند دخوله كلية الحقوق بداية عام 1947م .
وكما لدينا تُصغَّر الأسماء للتمليح مثل محمد يدعى (محيميد) وعبد الله (عبيد) ، وعبد الكريم (كريّم) ، وهكذا أصبح يدعى منذ صغره بـ(غابيتو) وهو تصغير لاسم غابرييل .
وعندما ذهب إلى رئيس القسم الأدبي في جريدة (الاسبيكتادور) ليسلمه القصة الثانية ، وسمح له البواب بالصعود إلى الطابق الثاني لتسليم الرسالة إلى (ثلاميا) نفسه بجسده وروحه ، فنجده يقول :".. ولكن الفكرة بحد ذاتها ، أصابتني بالشلل ، فتركت المغلف على منضدة البواب ، ومضيت هارباً .."
وهكذا نشرت القصة في مقدمة العدد التالي . ونعود لماركيز وهو يصف شعوره عندما نشر له القصة التالية (الاستسلام الثالث) وعنوانها على كامل عرض الجريدة . فذهب يبحث عن من يقرضه خمسة سنتات لشراء العدد .. ذهب للمقاهي المجاورة فلم يجد أحداً من معارفه فذهب إلى صاحبة النزل والذي كان مديناً لها بخمسة سنتات مكررة ستمائة وعشرين مرة مقابل أجرة السرير والخدمة لشهرين ، ولكنه عاد مكسوراً ليقابله شخص لا يعرفه ينزل من سيارة الأجرة ، وكان يحمل الجريدة بيده فطلبها منه من باب الصدقة ، فأهداها له .. فذهب مختبئاً بالنزل ليلتهما دفعة واحدة . بدأ زملاؤه يثنون عليها رغم ان أغلبهم لم يتجاوز السطر الرابع منها ، ولكنه كان خائفاً من (خورخي الفارو اسبينوسا) لأن مبضعه النقدي هو الأشد رهبة .. وهكذا بعد أن قابله بعد أيام .. لم يبدأ بالحديث عن القصة بل قال له : ".. أظنك مدركاً للوضع الذي أدخلت نفسك فيه ، أنت الآن في واجهة الكتاب المعترف بهم ، وعليك بذل جهد كبير لتكون جديراً بذلك . وبعد نقاش لم يطل قال له : هذه القصة صارت من الماضي ، والمهم الآن هو القصة القادمة.." .
وشجعه على القراءة المعمقة والشاملة للكتاب الإغريق ، والتي لا تقتصر على هوميروس وحده .. كما حدثه عن قصة أندريد جيد (مزيفو النقود) وقال : "انه لم يجد الجرأة ليقول لمحدثه ان تلك المحادثة ، ربما هي التي حسمت مسار حياته..".
وهكذا يكتب رئيس الملحق الأدبي باسمه المستعار المعهود (أوليسيس) في عموده المعتاد ويقول: ".. ضمن التخيل القصصي ، يمكن حدوث كل شيء ، إنما بمعرفة كيفية إظهار اللؤلؤة التي يمكن استخراجها منه ، بصورة طبيعية ،
ببساطة ، ودون تصنع ، وهذا أمر لا يمكن أن يتوصل إليه كل الشبان الذين هم في العشرين من اعمارهم ، وبدأوا للتو علاقاتهم بالأدب .. وينهي عموده بقوله : مع مغرسيا ماركيز يولد كاتب جديد وبارز..".
وتفحصت رفوف الروايات والقصص لدي والذي يحتوي على ما لا يقل عن 1200 عنوان ، وكنت عازماً على معرفة ما لدي لـ(ماركيز) فوجدت له عدا المذكرات (عشت لأروي) (ساعة الشؤم) و(كيف تكتب الرواية؟) و(كوبا في زمن الحصار) و(مئة عام من العزلة) و(ذاكرة غانياتي الحزينات) و(الجنرال في متاهته) و(رحلة المخاطر) فرتبتها عازماً على ألا تفوتني هذه العطلة دون قراءتها، وفعلاً توكلت على الله وبدأت بأحدث ما كتب وترجم للعربية (ذاكرة غانياتي الحزينات) دار المدى ، دمشق ، 2005م ، والتي تمنى قبل عشرين سنة أنه كتب ما سبق أن كتبه الروائي الياباني ياسوناري كاواباتا (الجميلات النائمات) ، فنجد ماركيز يقول في مقال (طائرة الحسناء النائمة) ضمن كتابه (كيف نكتب الرواية؟) دار الأهالي ، دمشق ، 1988م ، إذ قال : ".. ومع ذلك ، فالرواية الوحيدة التي تمنيت لو أكون كاتبها هي بيت الجميلات النائمات لكاواباتا..".
نجده بعد أن بلغ السبعين من عمره يذهب كالعادة في الخامسة صباحاً
– كالتزام وحيد- من يوم الجمعة لإيصال مقاله الأسبوعي الذي ينشر أيام الآحاد بصحيفة (ديار يودي لاباث) – بكولمبيا- وقال :"كنت أنوي ترك المقال
– الاستقالة- في استعلامات الجريدة ، والعودة إلى البيت ، ولكنني لم أستطع ، فالعاملون كلهم كانوا بانتظاري للاحتفال بعيد ميلادي.." وبعد كلمات المجاملة وأخذ الصور التذكارية وتوزيع المشروبات والحلوى قال :".. وكنت أفضل الموت على الرد على مثل تلك الخطب ، ولإنهاء الحفلة ، عمد رئيس التحرير الذي لم أشعر نحوه قط بتعاطف كبير ، إلى إعادتنا إلى الواقع الفظ ، فقد قال : والآن ، أيها التسعيني اللامع ، أين هي مقالتك ؟.." .
ونجده يقول بعد ذلك إنه ذهب لبائع الدراجات – ليشتري دراجة لإحدى الفقيرات- الذي سأله عن سنه فقال :".. سأكمل السبعين.. فرد الموظف ما كنت أود سماعه بالضبط : انك تبدو أصغر بعشرين سنة ..".
وهذا بالضبط ما سبق أن سمعته من أستاذي عبد الكريم الجهيمان قبل نحو عشر سنوات وبعد أن أخذه السائق الهندي الجديد (ريان) في برنامجه الرياضي اليومي قبل الغروب ونزل من السيارة على رصيف حديقة في حي الروابي بالرياض حيث يسكن وبدأ يمشي ثم يهرول مدة نصف ساعة وبعيد الغروب عاد للسيارة في مكانها حيث تأخذه إلى البيت أو المسجد لصلاة المغرب ، فسأله السائق بعد تردد . كم عمرك ؟ فقال إنه قد تجاوز التسعين ، فرد عليه السائق أنه بهذا البرنامج سيعيش على الأقل عشرين سنة قادمة .. ولهذا عندما تحلقنا حوله في اللقاء الأسبوعي قص علينا ما حدث مع السائق والفرح يتطاير من عينه كفراشات تحوم حول الزهور .
والآن وقد تجاوز الاثنان الاول الثمانين والثاني المائة من عمريهما ، وما زالا في صحة وعافية نرجو لهما المزيد من الصحة والعطاء .
ونعود إلى (ماركيز ) وإلى مذكراته (عشت لأروي) لمعرفة بداياته مع التعليم والكتابة .
انطلق يروي ذكرياته معيداً القارئ إلى طفولته وفترة مراهقته ، فمما قاله : انه كان يحب اللعب في الشارع كأي طفل آخر ولكن جدته تلح عليه لتنظيف أسنانه ، وكان يراها وهي تخرج طاقم أسنانها وتنظفه وتعيد تركيبه ، فكان يتمنى لو كان مثلها لتتولى تنظيف أسنانه دون أن يقطع لعبه في الشارع.
وقال : انه تكلف مشقة كبيرة في تعلم القراءة .. وأخيراً عندما وصل إلى المدرسة النظامية (مونيتسوري) لم تعلمه المعلمة أسماء الحروف ، وإنما منطوقها ، وهكذا استطاع أن يقرأ أول كتاب وجده في خزانة معفرة في مستودع البيت ، ويقول عنه : ".. إنه كان مفككاً وغير مكتمل ، ولكنه اجتذبني بشدة ، حتى أن خطيب سارا أطلق لدى مروره إنذاراً رهيباً (يا للعنة ، هذا الطفل سيصير كاتباً)."
وقد مرت عدة سنوات قبل أن أعرف أن ذلك الكتاب هو (ألف ليلة وليلة) وأكثر قصة أعجبتني فيه إحدى أقصر القصص التي قرأتها وأبسطها ، ستبقى تبدو لي الأفضل طوال ما تبقي من حياتي ، مع أنني غير متأكد الآن مما إذا كنت قد قرأتها هناك ، ولم يستطع أحد أن يوضح لي ذلك ، والقصة هي التالية :"صياد يعد جارته بأن يهدي إليها أول سمكة يصطادها إذا ما قدمت له قطعة رصاص ، من أجل الشبكة ، وعندما تشق المرأة السمكة لكي تقليها ، تجد في داخلها ماسة بحجم حبة لوز..".
ويعود لـ(ألف ليلة وليلة) مرة أخرى عندما ذهب مع مجموعة من الشباب ليلتحقوا بمدرسة (منيتسوري) ، وليجرى لهم اختبار القبول .. وعندما أجرى أحد المدرسين الفحص وسأله ما هي الكتب التي قرأتها : ذكر من بين ما قرأ (ألف ليلة وليلة) و(الكيخوتة) و(كنز الشباب) . ولهذا فقد سجل في الصف الرابع الابتدائي وقال :".. وكان يسمح لي بأخذ الكتب من المكتبة المدرسية لأقرأها في البيت ، وقد كان اثنان من تلك الكتب (جزيرة الكنز) و (الكونت ديمونت كريستو) هما المخدر السعيد في سنوات الأعاجيب تلك ، كنت التهمهما حرفاً حرفاً ، متلهفاً لمعرفة ما الذي سيحدث في السطر التالي ، ومتلهفاً في الوقت نفسه إلى عدم معرفة ذلك ، حتى لا أكسر السحر ، وقد تعلمت منهما مثلما تعلمت من (ألف ليلة وليلة) ما لن أنساه أبداً ، بأنه يجب أن نقرأ فقط الكتب التي تجبرنا على أن نعيد قراءتها.." ، وقال انه يتساءل أحياناً كيف تلد المرأة؟ ومن أين يأتي المولود؟
فقال : "كنا نعتقد أو يقال لنا كأطفال أن طائر اللقلق هو الذي يأتي بالأطفال من باريس .." وقال ان عمره بلغ واحداً وعشرين عاماً ولم يكن يصدق أو يتوصل إلى أن يربط الولادة بالجنس.
وقد مر على كاتب هذه السطور في طفولته ان سألته زوجة الكُتَّاب (المطوع) عن والدته وهل ولدت ؟ وعندما سألها من أين تلد؟ قالت :من كم ثوبها ، ولهذا عندما عاد إلى أمه تفحص كمها وهل هو واسع إلى حد أن يخرج منه هذا الطفل .
وكان يصف حالة الأسرة والفقر الذي تعيشه .. ومناسبة قيام والدته بشراء ركبة جاموسة وراحت تغليها يوماً بعد آخر من أجل المرق اليومي الذي راح دسمه يتناقص يوماً بعد يوم إلى أن تحول إلى مجرد ماء لا يمكنه أن يمنح المزيد .
وهذا أيضاً يذكرني بطفولتي بالقرية (عُتيَّق) غربي عقلة (معقرة) بالزلفي،عندما كان عمي عبد الله – يرحمه الله- يحضر من البلدة –عندما يبيع حمولة جمله من حطب أو حشيش- عظام الجمل بعد نزع اللحم عنه وبقاء العظم بما علق به من عصب لبضعة أيام بالشمس بجوار دكان جزار الزلفي الوحيد ، فكان عمي يحضر عظام الجمل وبعصبه اليابس لتدلى بكاملها بالبير (القليب) ليوم أو أكثر حتى يلين العصب ، ثم يغلى لمدة لا تقل عن نهار كامل ، وتؤكل كوليمة دسمة وكنا نسميها (البخص).
وعندما أنهى – ماركيز- سنة الحقوق الثانية بدأ يكتب بتوقيع وبدون توقيع وأحياناً بأسماء مستعارة مثل (سيبتيموس) وقال : ".. إن الرقابة قد فرضت على الصحف عندما اختل النظام وصار في كل صحيفة رقيب يقبع وراء منضدة في قسم التحرير ، كما لو أنه في بيته ، منذ الساعة السادسة مساء ، ويتمتع بالإرادة والسلطة في عدم السماح بنشر أي حرف يمكن له أن يمس الأمن العام".
كل هذا وماركيز كالمتشرد يحمل حقيبته معه وينام أحياناً بالجريدة وأحياناً في فندق متواضع (لانثي) وكل ما لديه صندل تاريخي وغياران من الملابس يغسلهما تحت الدش عند الاستحمام ، وحقيبة جلد سرقها من صالة الشاي الفخمة في بوغوتا ، عندما اجتاحها الشغب .
ويقول :".. إنه عندما التحق بدار المعلمين العليا في بوغوتا بكولومبيا في عام 1942م وتغير المدير الجاف المنعزل والمعتزل للحياة الاجتماعية بالمعهد (اليخاندو راموس) إلى المدير الجديد (كارلوس ماتيني) بدأت مرحلة جديدة وهزت المعهد رياح التغيير ، وسمح للمذياع ، وبدأت حلقات النقاش الأدبية ، وتأسس المركز الأدبي وتضاعف النشاط الثقافي ، وتم نشر صحيفة أدبية باسم (الجريدة الأدبية) وبدأ ينشر إسهاماته – شعراً ونثراً- باسم مستعار هو (خابيير غارتيس) وقال : "..لم أكن استخدمه في الواقع للتميز وإنما لاختبئ خلفه .. ، لأن مشاركاتي الشعرية (سونيتات) كانت مجرد تمارين حرفية دون الهام ودون تطلعات ، ولا يمكن أن تعزى إليها أي قيمة شعرية.
وبمجرد صدور العدد وهو بالحجم المتوسط (تابلويد) بثماني صفحات صودر العدد بدعوى أنه لم يمر على الرقابة . وعزل مدير المعهد المحبوب دون اعلان مسبق"
وقال : .. إن الكتاب الذي حدد مساراً جديداً في حياته هو (المسخ) لفرانز كافكا عند دخوله كلية الحقوق بداية عام 1947م .
وكما لدينا تُصغَّر الأسماء للتمليح مثل محمد يدعى (محيميد) وعبد الله (عبيد) ، وعبد الكريم (كريّم) ، وهكذا أصبح يدعى منذ صغره بـ(غابيتو) وهو تصغير لاسم غابرييل .
وعندما ذهب إلى رئيس القسم الأدبي في جريدة (الاسبيكتادور) ليسلمه القصة الثانية ، وسمح له البواب بالصعود إلى الطابق الثاني لتسليم الرسالة إلى (ثلاميا) نفسه بجسده وروحه ، فنجده يقول :".. ولكن الفكرة بحد ذاتها ، أصابتني بالشلل ، فتركت المغلف على منضدة البواب ، ومضيت هارباً .."
وهكذا نشرت القصة في مقدمة العدد التالي . ونعود لماركيز وهو يصف شعوره عندما نشر له القصة التالية (الاستسلام الثالث) وعنوانها على كامل عرض الجريدة . فذهب يبحث عن من يقرضه خمسة سنتات لشراء العدد .. ذهب للمقاهي المجاورة فلم يجد أحداً من معارفه فذهب إلى صاحبة النزل والذي كان مديناً لها بخمسة سنتات مكررة ستمائة وعشرين مرة مقابل أجرة السرير والخدمة لشهرين ، ولكنه عاد مكسوراً ليقابله شخص لا يعرفه ينزل من سيارة الأجرة ، وكان يحمل الجريدة بيده فطلبها منه من باب الصدقة ، فأهداها له .. فذهب مختبئاً بالنزل ليلتهما دفعة واحدة . بدأ زملاؤه يثنون عليها رغم ان أغلبهم لم يتجاوز السطر الرابع منها ، ولكنه كان خائفاً من (خورخي الفارو اسبينوسا) لأن مبضعه النقدي هو الأشد رهبة .. وهكذا بعد أن قابله بعد أيام .. لم يبدأ بالحديث عن القصة بل قال له : ".. أظنك مدركاً للوضع الذي أدخلت نفسك فيه ، أنت الآن في واجهة الكتاب المعترف بهم ، وعليك بذل جهد كبير لتكون جديراً بذلك . وبعد نقاش لم يطل قال له : هذه القصة صارت من الماضي ، والمهم الآن هو القصة القادمة.." .
وشجعه على القراءة المعمقة والشاملة للكتاب الإغريق ، والتي لا تقتصر على هوميروس وحده .. كما حدثه عن قصة أندريد جيد (مزيفو النقود) وقال : "انه لم يجد الجرأة ليقول لمحدثه ان تلك المحادثة ، ربما هي التي حسمت مسار حياته..".
وهكذا يكتب رئيس الملحق الأدبي باسمه المستعار المعهود (أوليسيس) في عموده المعتاد ويقول: ".. ضمن التخيل القصصي ، يمكن حدوث كل شيء ، إنما بمعرفة كيفية إظهار اللؤلؤة التي يمكن استخراجها منه ، بصورة طبيعية ،
ببساطة ، ودون تصنع ، وهذا أمر لا يمكن أن يتوصل إليه كل الشبان الذين هم في العشرين من اعمارهم ، وبدأوا للتو علاقاتهم بالأدب .. وينهي عموده بقوله : مع مغرسيا ماركيز يولد كاتب جديد وبارز..".