-A +A
شاكر حسين
وانت تقود التاكسي.. لا بد ان تصادفهم يوما. احيانا تشعر أن
حكاياتهم مرايا تعكس يومياتك العادية. اذا التقيتهم، ارخِ لهم

سمعك. فلعلك تجد نفسك في تفاصيل قصصهم.. من يدري؟. ربما.
-البلد لو سمحت. حدد سعرك من الان حتى لا نختلف فأنا اعرفكم انتم سائقو التاكسي. زي المنشار طالع واكل نازل واكل.
-ليش يا عمي قالوا لك حرامية؟.
-نعم؟! واشبهم الحرامية؟ مو عاجبينك والا مو عاجبينك؟.
-حاشا لله يا سيدي عاجبيني ونص. بس ليش زعلت؟ لا تكون حرامي متقاعد!!
-لا وانتا الصادق.. حرامي معتزل.
في بادئ الامر، اعتقدت انه يمازحني. لم يكن شيء ليدل على ان العجوز الستيني الذي يكاد من تعبه يستلقي في المقعد الخلفي، كان في يوم من الايام لصا صاحب صيت ذائع.
-شوف يا سيدي.. الكذب خيبة. انا حرامي. لص. سارق. لكن ارجوك. اياك ان انزل من عينك. فانا حرامي من بتوع زمان. حرامي شريف. حرامي نزيه وعنده نظر ومفهومية، بالمقارنة مع حرامية هذا الزمن الاغبر.
دعني اقول لك شيئا. لا بد وانّ قشعريرة سرت في جسدك بعد ان اعترفت لك بأنني لص. معك حق. اللصوص المتاعيس هذه الايام، خربوا سمعتنا. ما هي فارقه معاهم. شعارهم: «اسرق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب». ليس هناك ادنى اعتبار او مراعاة للزمان والمكان او الحالات. اصبح هناك حرامية يعملون «خارج دوام»، وحرامية «بارت تايم»، وحرامية «شفتات». يعني حرامية على مدى الاربع والعشرين ساعة. لا يكلون ولا يملون.
من جهة اخرى.. يمكنني ان اتفهم تخوفك. فحرامية آخر زمن شوهوا سمعتنا. سود الله وجوههم. لا يفرقون بين اوقات الدوام الرسمي للصوص وغيرها. هل تعرف كم عمري؟ هل تدرك كم امضيت منه في اللصوصية؟ طبعا لا تعرف. اقول لك. عمري ستون عاما امضيت منها خمسين عاما في السرقة والنهب. لكن لم يحدث ان سمعت طوال كل هذه السنين لصا يمارس مهنته في ساعات النهار كما يحدث الان. لم يعد هناك حياء ولا حشيمة. يسرقك عينك عينك في عز النهار. كل الحرامية اصبحوا قليلي ناموس.
اضيف لك شيئا اخر: يمكنك اليوم ان تقول على طريقة المتفلسفين ان اللصوصية اصبحت «مختطفة».. او قل: «مستلبة». كل من هبّ ودبّ اصبح حرامي. ما هذه المسخرة. ما هذا التطاول! هل اصبحت اللصوصية مهنة من لا مهنة له؟ يا سقا الله الايام الخوالي.
لم اعد افهم يا اخي. اصبحت الامور مشوشة في ذهني. خذ على سبيل المثال. كنا زمان نحن معاشر اللصوص والحرامية، لنا ألقابنا: «ابو رجل مسلوخة»، «السفاح»، «ابو عين مفقوعة». هكذا كنا. تكتشف مظهر الحرامي من بين الف رجل. الحرامي منا كانت له قيمته وشخصيته. اليوم اختلط الحابل بالنابل، لم نعد نعرف الحرامي من غير الحرامي. ضاعت الطاسة. كنت اخبرتك انني حرامي منذ نعومة اظافري، لكن احد الواطين، مسح تاريخي كله بـ«استيكة». خدعني بمظهره المزيف. ايش انتكة وايش ابهة، وفي الاخر يطلع حرامي ابن حرامي وينهبني كل ما جمعته طوال عمري المديد في عالم اللصوصية. اصبحت مسخرة. انا اللص العتيد ينصب عليّ لص الانابيب هذا؟!
كرمى لله، فليتدخل احد. انجدونا يا هووه. نصف حرامية اليوم ما يسوى الواحد منهم فرنك. مسحوا بكرامتنا البلاط. شي هايص لايص. تجدهم على قفا من يشيل. وبامكانك ان تشتري منهم بالكيلو.
دعني اقول لك شيئا: زمان كانت للصوصية قواعد. كانت لها مواثيق، لم يكن احد يتجرأ على كسرها. كان اللص منا له هيبته. لو اردت ان تخيف جنّيا ازرق فما عليك الا ان تصرخ فيه من بعيد: «حرااامي». ولن ترى بعدها الا اثار غبار هذا الجني السنكوح من الرعب. هل هناك حرامي في هذا الزمن بهذه المواصفات؟. قطعا كلا. نزعوا البركة من المهنة بكثرتهم الكاثرة. انا اقترح عليك اقتراحا. خذني على قدر عقلي واسمع لشيبتي. اذهب الى أي تجمع. هناك. اذهب الى هذا الحراج الذي يتجمع فيه اناس كثيرون. هنا هنا. توقف هنا.
هل تريد ان تتأكد؟ هل ترغب في تصديقي؟ الا تريد ان تفهم قصدي؟
أخرج العجوز رأسه من نافذة التاكسي وراح يصرخ: «حرامي.. امسكوه».. «دورية دورية».. وحينها.. اطلق كثيرون.. اكثر مما كنت اتوقع.. سيقانهم للريح.