-A +A
د. طلال صالح بنان
من أهم ميزات النظام العربي الرسمي خضوع القرارات الجوهرية فيه لمبدأ الإجماع. حدث هذا في مواقف عديدة، عدا مرة واحدة، وإن كان الكثير من فقهاء القانون الدولي يجادلون فيها، وهي حالة دعوة الجامعة العربية لقوات دولية من أجل استعادة الأهلية الدولية لدولة عضو في الجامعة العربية (الكويت)، اعتدت عليها دولة عربية اخرى عضو في الجامعة العربية (العراق)، في الثاني من أغسطس 1990. إلا أنه تاريخياً، وبالرغم مما يبدو من خلافات بين الدول العربية حول التعامل مع قضايا الأمة المصيرية.. أو إدارة أزمات على مستوى النظام العربي، عادةً ما يُجمع العرب على القرارات المصيرية التي يتخذونها من خلال مؤسسات العمل العربي المشترك، في إطار الجامعة العربية. بل أن هذا التوجه نحو الإجماع لاتخاذ قرارات مصيرية في النظام العربي، يشكل ضغطاً على الدول الأعضاء، ليكملوا نصاب الإجماع. حتى أنه، في حالات معينة، كان الخروج على الإجماع من قبل أية دولة عربية، بمثابة الخروج الفعلي من مؤسسات العمل العربي المشترك، بل وحتى المقاطعة الدبلوماسية لتلك الدولة.
الإجماع، إذن، من أهم ميزات ومعالم وآليات العمل العربي المشترك، الذي يؤسس لشرعية إقليمية لمؤسسات العمل العربي المشترك وقراراتها، تتعدى توجهات أعضائها، التي تضطر إلى عدم الخروج عن الإجماع، في اتخاذ قرارات عربية مصيرية. هذا يفسر قول وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، في مؤتمر صحفي جمعه، أول أمس، مع أمين عام الجامعة العربية: أنه لم يحدث في تاريخ المملكة أن خرجت الرياض عن الإجماع العربي، في إشارة واضحة لموافقة المملكة على حضور مؤتمر أنا بوليس، حتى لا تخالف إجماع العرب على ذلك... الأمر الذي يعني دبلوماسياً، أن هناك تحفظات سعودية على القرار، حتى لا يتحول حضور العرب الجماعي المؤتمر، إلى مخالفة قرارات مهمة سبق للعرب ان اتخذوها، جماعياً.

على أي حال سيذهب العرب إلى أنا بوليس، على الأقل حتى لا يُقال انهم فوتوا فرصة تاريخية.. وحتى لا تظهر إسرائيل، وحدها، أمام العالم بأنها دولة السلام الوحيدة في المنطقة.. وحتى لا يُترك الفلسطينيون وحدهم يذهبون إلى المؤتمر، ويستفرد بهم الإسرائيليون والأمريكيون. ثم ليست هذه هي السابقة الأولى للعرب في حضور مؤتمر يضمهم مع الاسرائيليين، حصل ذلك في مؤتمر جنيف 1974، وتكرر ذلك في مؤتمر مدريد عام 1991، وأخيراً أثناء عدوان إسرائيل على لبنان، في مؤتمر روما أغسطس 2006. بالإضافة إلى ان العرب نجحوا في إقناع الولايات المتحدة، بوصفها الدولة الداعية للمؤتمر، بتوسيع أجندته ليتجاوز موضوع إقامة الدولة الفلسطينية، إلى مناقشة قضايا الخلاف بين إسرائيل والدول العربية، وفي مقدمتها مناقشة احتلال إسرائيل لهضبة الجولان السورية عقب حرب الأيام الستة 1967.
العرب، إذن، ذاهبون جميعاً إلى أنا بوليس. إجماعهم هذا على حضور المؤتمر، من أهم أوراق قوتهم التفاوضية في المؤتمر، وما يعقب المؤتمر من مشاركة في آليات وفعاليات من أجل مواصلة مفاوضات السلام. ثم أن حضور العرب لمؤتمر أنا بوليس، يوفر لهم منبراً دبلوماسياً واعلاميا، لشرح وجهة نظرهم للسلام الذي يتطلعون إليه.. ويصب في توجهات ومواقف المجتمع الدولي، بأسره، كما عكستها مقررات مؤسسات الشرعية الدولية، وفي مقدمتها مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وأحكام محكمة العدل الدولية، التي تعاملت مع الأزمة، منذ نشوئها، لأكثر من ستة عقود. المؤتمر، أيضاً، سوف يجعل العالم أقرب لتفهم توجه العرب السلمي لحل الأزمة، كما تطرحه مبادرتهم السلمية، التي سوف يدفعون بها في المؤتمر لتصبح وثيقة رسمية من بين مشاريع التسوية السلمية المطروحة، جنباً إلى جنب مع مشروع خارطة الطريق.
بالإضافة إلى أن حضور العرب الجماعي لمؤتمر أنا بوليس، يفرض التزامات على أعضاء الجامعة العربية، بتحري هذا الإجماع في كل مراحل التفاوض... وأهم، من ذلك في إقرار أية مشاريع للتسوية السلمية في المستقبل. كما أن العرب يذهبون جماعياً إلى مؤتمر أنا بوليس، ولهم موقف رسمي مسبق في ألا يتمخض عن المؤتمر أي سلوك فردي أو جماعي فيه مخالفة صريحة للموقف العربي، كما رسمته مبادرة السلام العربية التي أقرها مؤتمر القمة العربي في بيروت 2002.. وأكدت عليها قمة الرياض، في مارس الماضي. بعبارة أخرى: موافقة العرب الجماعية على حضور مؤتمر أنا بوليس، تعني شيئاً واحداً رئيسياً ومهماً: الحيلولة دون أية محاولة لفرض التطبيع مع إسرائيل، قبل التسوية النهائية الشاملة.
من أهم إمكانات العرب الدبلوماسية، في مؤتمر أنا بوليس، التي ستفرض حضوراً عربياً قوياً في فعاليات المؤتمر، قرار وزراء خارجية الدول العربية أول أمس في القاهرة الموافقة الجماعية من قبل أعضاء الجامعة على حضور المؤتمر. هذا، يكفي، في الوقت الحاضر، للاطمئنان على موقف العرب ودورهم في المؤتمر.