-A +A
عبدالله بن فخري الأنصاري
المحاماة مهنة تهدف إلى مكافحة العنف لا التحريض عليه، وتسوية المنازعات بطرق سلمية عن طريق الحوار الجدلي لإثبات الحجة دون اللجوء إلى استخدام القوة. لكن داخل أروقة البيت الأبيض ووزارة العدل الأمريكية عمل نخبة من محامي السلطة التنفيذية والمستشارين القانونيين في وزارة العدل، منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر وإعلان الحرب على الإرهاب، على تجنب القواعد الأساسية للإجراءات القانونية، وتبني الإجراءات الاستثنائية، وخلق السياسات المتصلة بتبرير أعمال الاعتقال والتعذيب لمن تصنفهم الإدارة الأمريكية بـ «المقاتلين الأعداء» في مناقضة صريحة لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الخاصة بحقوق الإنسان ومناهضة التعذيب، واعتداء صارخ على مهنة المحاماة. فقد أصبحت مهنة المحاماة عند البعض هي تأمين «الغطاء الفكري» لتبرير أي عمل أو نشاط مهما كانت صورته ومهما كان مداه. فقد صاغ هؤلاء المبررات للسلطة التنفيذية للتوسع في دائرة سلطات الرئيس الأمريكي الدستورية عن طريق التذرع بعدة نظريات غامضة في تفسير الدستور والبناء التشريعي، وإصدار الأحكام المستقلة عن مدى سلطة الرئيس الدستورية والتي تهدف إلى تجاوز العديد من التحفظات الدستورية والتشريعية على إقرار التعذيب والمعاملة اللاإنسانية والمهينة، ولتبرير الحرب على العراق، وإجازة عمليات التنصت من غير إذن قضائي...إلخ. وبدلا من احترام أخلاقيات المهنة اختار هؤلاء الاستعانة بكل حجة أو خدعة متاحة لدعم سياسات الإدارة الأمريكية. ومن تلك الحيل، والتي أشار إليها البروفيسور تريفور موريسون والبروفيسور جيفرسون باول في مقال لهما، هي الاستعانة غير القانونية بمذهب تجنب أو تفادي الدستور. فمنذ زمن تلجأ المحاكم الأمريكية أحيانا لفقه تجنب أو تفادي الدستور عندما يكون هناك شك حول دستورية تشريع ما. فتنظر المحكمة في البناء التشريعي للنظام في محاولة لتبني التفسير الذي لا يشكل خرقا خطيرا لمواد الدستور، على افتراض أن السلطة التشريعية (الكونجرس) تشرع في ضوء القيود الدستورية، وأن أعضاء الكونجرس الذين أقسموا بالتمسك بالدستور قصدوا التفسير الذي لا يثير خروقا دستورية، وذلك في محاولة من المحكمة للمحافظة على التشريعات التي أقرتها السلطة التشريعية المنتخبة من قبل الشعب. إلا أن محاميي السلطة التنفيذية استعانوا بهذه النظرية لتحقيق أهداف عكسية وهي التوسع في السلطات الممنوحة للسلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية ومن ثم الإخلال بميزان القوى بين السلطتين. فمن أمثلة ذلك، استعانة محاميي السلطة التنفيذية بهذه النظرية في محاولة لتجنب التشريعات الأمريكية التي أدخلت الاتفاقية الدولية المناهضة للتعذيب حيز التنفيذ، والتي جعلت ارتكاب أو محاولة ارتكاب التعذيب جريمة فيدرالية. ففي مذكرة التعذيب الشهيرة الصادرة عن وزارة الدفاع في أغسطس، 2002 والتي أعطت الضوء الأخضر لاستخدام وسائل تعذيب كانت محظورة سابقا، احتج بعض المستشارين القانونيين للإدارة الأمريكية بأن تشريعات الكونجرس المجرمة للتعذيب يجب ألا تنطبق نصوصها على عمليات الاستجواب لمن ينطبق عليهم صفة «المقاتل العدو» والتي تمت بموجب السلطات الممنوحة للرئيس الأمريكي. وذلك لأن مثل هذا التفسير من شأنه أن يثير خرقا دستوريا «خطيرا» للسلطات الممنوحة للرئيس لتسيير شؤون الدولة الخارجية، وسلطاته باعتباره القائد الأعلى لاعتماد أي أسلوب أو إستراتيجية لازمة لحماية الأمن القومي. وبالتالي فإن العدول عن هذا التفسير إلى تفسير آخر فيه تجنب للخوض في هذه المسالة الدستورية الخطيرة. إلا أن هؤلاء أرادوا تجاهل القاعدة الهامة التي تحكم هذه النظرية وهي أن نظرية «تجنب الدستور» لا يمكن اللجوء إليها إلا في حالة وجود غموض واضح يكتنف التشريع. والتشريعات المناهضة للتعذيب لا يكتنفها أي غموض حتى يتم اللجوء لهذه النظرية. أضف إلى ذلك الخطر الناتج من الاحتجاج بهذه النظرية وتأثيره السلبي على مبدأي الفصل بين السلطات واحترام سيادة القانون وهكذا تمت الاستعانة بحفنة من المحامين ذوي الميول الحزبية الذين قاموا باستخدام المهارات المهنية ليس إحقاقا للعدالة وإنما لتبرير أي فعل تقوم به السلطة التنفيذية عن طريق ليّ النصوص القانونية في أي اتجاه، وإصدار «الفتاوى القانونية»: وجعل الحجج غير المقنعة والمضللة والضعيفة تبدو قوية لتوفير غطاء قانوني لأغراض غير ديمقراطية ومنع أي مسؤولية قضائية مستقبلية عن أي فعل يرتكب تحت مظلة الحرب على الإرهاب. ولك أن تتخيل كمّ الانتهاكات لحقوق الإنسان التي نتجت عن فتوى قانونية صادرة من مكتب محام بارع توّاق لتطويع وتحريف النصوص لتبرير سياسات لا إنسانية. إنه بالتأكيد أمر يستحق منا الازدراء لهؤلاء الذين دنسوا هذه المهنة الشريفة.
afansary@yahoo.com