جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
سلمان العودة
سلمان العودة
-A +A
يعدّها: علي مكّي
في كل أسبوع تستضيف «عكاظ» اسماً مثيراً للجدل وتجلسه على منصة المواجهة ثم ترشقه بالأسئلة المضادة والمشاكسة.. هو حوار ساخن هنا كل يوم ثلاثاء، وضيفنا هذا الأسبوع هو الدكتور محمد علي المحمود الكاتب الإسلامي المعروف والباحث المتخصص في الدراسات الفكرية الثقافية والقضايا الدينية.

• توصف بالكاتب التنويري، لكن لغتك ضد المختلفين معك -الإسلاميين تحديدا- لغة حادة وإقصائية جدا؟ أليس التنوير سلاماً في الأصل؟


•• توصيف اللغة (لغتي بالإقصائية) يحتاج للإثبات بأدلة من نصوصي، والآن، ليس أمامي النصوص محل الاتهام؛ لأدفع عن نفسي، أو أعترف، وأعتذر. لكن، أيا كان الأمر، هذا الاتهام هو ما يستشعره كثير من المتابعين لما أكتب. وسبب ذلك عدم التدقيق في اللغة والموضوع.

قد لا تكون لغتي إقصائية إنما حادة، وهناك فرق بين هذا وذاك. حِدّية اللغة أو عنفها ليست مني ابتداء، بل مرجعها إلى عنف الموضوع الموصوف؛ أي اللغة العنيفة تعكس واقعا عنيفا. مثلا، عندما تجد أمامك خطابا تكفيريا يدعو للقتل والتفجير، فهل تستخدم في وصفه لغة التسامح والمحبة والسلام؟. هل تُظهره مجرد خطأ عابر يمكن التعايش معه، وهو يستبطن -باعتقاد إيماني عميق- مقولات: «يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل».

علينا أن نتنبّه إلى خطورة التسامح مع أعداء التسامح. حتى في الديموقراطيات المستقرة في أوروبا لا يُسمح بالأحزاب النازية مثلا، مع أنها أقل خطورة من خطاب التقليدية الذي أنتج لنا القاعدة وداعش. لقد أدرك الأوروبيون خطأهم التاريخي؛ عندما تسامحوا مع النازية في البداية، وسمحوا لها بالصعود عبر الآلية الديموقراطية؛ دون أن يتفحصوا حقيقة أفكارها، ودون أن يستشرفوا مآلات هذه الأفكار في الواقع العملي.

قد لا يعرف كثيرون حقيقة الأصول الاعتقادية ذات المنحى التكفيري داخل التقليدية، ولكني أعرف ذلك، وأيضا، أعرف اللغة الماكرة المراوغة التي يستخدمونها الآن. لهذا، تجدني لا أصف هؤلاء المتأسلمين وِفْقَ ما يُعلنون به عن أنفسهم، بل وِفقَ ما تُؤسس له المنظومة العقائدية التي يتكئون عليها. لا يمكن أن آخذ من الإسلاموي ظاهر ما يقوله؛ إلا في حال أعلن البراءة من المنظومة العقدية التي يُعلن الانتساب إليها. أما وهو يدافع عنها، بل ويعتبرها صريح الدين وصَحيحه؛ مع كل ما فيها من تكفير ودفع للقتل؛ فلا أملك إلا أن أعده تكفيريا قاتلا، حتى إن لم يقتل ولم يُكفّر صراحة.

• تقول: «قبل هذا اليوم، لم أتخيل أن أحدا سيعلن وقوفه بصراحة مع # داعش تحت أي مبرر. لكن بُوركت # معركة_الموصل التي أماطت اللثام عن الامتداد الداعشي!».. الامتداد الداعشي إلي أين؟ هل المجتمع السعودي في أرضية مناسبة لتقبل هذا الامتداد؟ ما هي الأسباب؟ وكيف يمكن رفض هذا الامتداد تلقائيا أو وعيا وممارسة دون تدخل أمني أو حتى وعظي؟

•• لنبدأ من حيث داعش. هناك سؤال محوري وعميق، بل وجذري: هل صدر عن داعش سلوك واحد ليس له تشريع صريح في المنظومة التقليدية الرائجة عربيا، خاصة في ما بعد منتصف السبعينات من القرن الميلادي الماضي؟. حتى إحراق البشر، موجود في تراثنا، ومبرر عند بعض الفقهاء، استنادا إلى أفعال بشر مقدسين في التاريخ الإسلامي. نَحْرُ البشر المخالفين كما تُنحر الخِراف، شيء مبرر في تاريخنا، بل إن مباركة هذا الفعل المتوحش مسطورة في نونية ابن القيم، تلك القصيدة العقائدية المشهورة التي يتدارسها طلاب العلم الشرعي ويشرحونها ويستظهرونها صباح مساء، بل ويتغنون بها!. يقول ابن القيم ـوهو رمز تقليدي كبيرـ مُثنيا على قيام والي العراق لهشام بن عبدالملك (خالد القسري) بذبح (بنحر) الجعد بن درهم عند المنبر يوم عيد الأضحى، وعدّ الجعد أضحية له:

ولأجل ذا ضحَّى بجعدٍ خالدُ الـ... ـقسريُّ يومَ ذبائحِ القربانِ

ثم يقول:

شكر الضحيةَ كلُ صاحب سنة... لله دَرُّك من أخي قربــان

ابن القيم يجعل فعل خالد محلّ تقدير من «كل صاحب سنة»، بل ويبدي أقصى درجات الإعجاب بهذا الفعل الشنيع!.

إذن، ذبح إنسان بعد تكفيره كما تذبح النعاج، وعند أصل المنبر، ليس عملا مرذولا عند التقليديين الذين يشتمون داعش بأطراف ألسنتهم، بل هو عمل رائع، وهم يذكرون هذا العمل مشيدين بفاعله لأيما إشادة. إنه ليس مجرد حادثة في التاريخ، بل عمل يراد له الاستمرار، إذ يُشاد به في القصائد المنظومة لتقرير العقائد في التراث التقليدي.

الآن، لنسأل أنفسنا: الشاب الذي يبدأ دروسه العقائدية بقصائد تقرر الذبح لمن يطرح رأيا عقائديا مخالفا؛ هل تتوقع أن تكون لديه حصانة ضد الخطاب الداعشي الصريح؟. كيف تقنع الشاب أن ما تفعله داعش من نحر البشر خطأ، بينما أنت تُثني -ثناء مضفورا بالصوابية العقائديةـ على ما فعله خالد القسري في أوائل القرن الثاني؟

تسألني عن كيفية التأسيس لمناعة ضد هذا الامتداد الداعشي. طبعا، التأسيس لا يكون بالشتم العشوائي لداعش، بل بنقض الأسس العقائدية والمنهجيات السلوكية التي تنتهجها داعش، ليس فقط في خطاب داعش المعلن، بل حتى داخل تراثنا الطويل بعمق تاريخنا الإسلامي، الذي تمتاح منه داعش، وتُحاجج به أبناءنا؛ فيصدّقون داعش ويكذبوننا؛ لأن داعش أصدق منا في عرض مكنون التاريخ. أدرك أنها عملية صعبة وخطيرة ومؤلمة، ولكن لا مناص من هذا الطريق الوعر للخروج من جحيم الإرهاب.

• قلت إن جمال خاشقجي اتهمك بأنك كنت متشددا فاعتدلت. وأضفت: «أطالبه بذكر واقعة أو مقال أو حتى كلمة عابرة تدل على تشددي (إلا إن كان يقصد اللحية!)».. ربما كان الأستاذ جمال يقصد ذلك في مرحلة ماضية؟ خاصة أن أغلب الناقدين بقوة وشراسة للتيارات الدينية الحركية (الصحوة) مثالا كانوا (صحويين) في السابق؟

•• طبعا، هو يزعم أن ذلك في مرحلة ماضية، وأني تحولت عنها، فأخذت أتشدد في نقدها؛ كرد فعل. ولكني طالبته بأن يذكر واقعة، أو حادثة، أو موقفا، أو مقالا، أو حتى كلمة عابرة، تدل على تشددي الديني في أي مرحلة من مراحل حياتي. وطبعا، لم يستطع ولن يستطيع. وقد حذف التغريدة محل الاتهام كاعتذار ضمني عن اتهام لا أساس له.

من ناحيتي أدرك أن أخي جمال التبس عليه الأمر كما التبس على كثيرين بسبب (اللحية الكثة) في مراحل سابقة. إذا كانت اللحية فقط هي ما يقصده بالتشدد؛ فنعم. لكن، كيف أكون متشددا، وأنا لم أكن سلفيا قط، بل ولا حتى صحويا، إلا في نمط التدين العام. أنا لم أنتمِ إلى أي تجمع ديني، أو نشاط شبابي ذي طابع ديني، بل وفي عمري الممتد بين سن 15، وسن 30، حيث اللحية هوية معلنة، وحيث هي السن التي يتوقع كثيرون تشددي فيها (بسبب اللحية أيضا)؛ لم ألتحق بأي مركز صيفي، مع أن المركز الصيفي النّشِط آنذاك، والذي كان معقلَ الصحوية، لا يبعد عن منزلنا أكثر من 150 مترا.

في المرحلة المتوسطة والثانوية والجامعية (وهي المرحلة التي يتوقع فيها جمال وغيره أني كنت متشددا)، كنت مهووسا بعالم الأدب قبل أي عالم آخر، حتى قبل العالم الواقعي الذي أعيش فيه. إذ كنت قد استعرت في هذه المرحلة أكثر من 2000 كتاب من المكتبة العامة والمكتبة الخيرية ومكتبة الجامعة، فأكثر من 90% منها لم تكن دينية، بل كانت في الشعر والأدب والنقد واللغة أساسا، وفي التاريخ والتراجم والسياسة عموما. وهذا ليس مجرد قول أو دعوى، فمن يريد التأكد فأظن سجلات الاستعارة في تلك المكتبات لا تزال موجودة. إن المتنبي وأبا تمام وأبا العلاء المعري والجاحظ وطه حسين والعقاد وأحمد أمين...إلخ هم من صنع وعيي؛ لا ابن تيمية ولا ابن القيم ولا سيد قطب ولا القرضاوي ولا سفر الحوالي. مثلا، في مرحلة المراهقة وما بعدها بقليل، استطاع المعري أن يُشكل جزءا مهما من رؤيتي للعالم، لقد حدد موقفي الحاسم من الزواج والإنجاب...إلخ. نعم، تحررت منه فيما بعد، واجتذبتني عوالم أخرى، ولكن في (مرحلتي الصحوية!) كنت أستفتيه -أي المعري- كما أستفتي مُتمردي التاريخ من الأدباء، قبل أن أستفتي أي شيخ ديني.

هذا من حيث النشاط الخاص. لكن، من حيث البيئة العامة، فقد كنت فعلا أعيش في حضن عالم سلفي ترفرف فيه أعلام الصحوية في كل الاتجاهات. عشت العالم السلفي الصحوي بكل تفاصيله، كنت أتنفسه كما أتنفس الهواء؛ لأنه هو عالمي المتاح على مستوى الحضور الجسدي، لا العقلي. كان عقلي متشعرنا يعيش عالم الشعر خصوصا، والأدب عموما. الواقع الكتابي يشهد: قبل أربع وخمس وست سنوات من انتظامي الكتابي، نشرت قصائد ذات منحى غزلي حداثي في كل من اليمامة والفيصل وملحق الأربعاء والرياض.

على أي حال، ليس لدي مشكلة لو كنت متشددا. هذا لا يعني شيئا في جدليات الفكر الراهن. الآن، وبصراحة، أتمنى لو أنني كنت متشددا لفترة محدودة؛ كي أخوض التجربة على المستوى الروحي والعقلي. في اعتقادي أن سنتين مثلا في تجربة داخل تنظيمات الحراك المتطرف، لم تكن لتقتطع من شبابي الكثير، ولكنها كانت ستمدّني بخبرة لا تستطيع آلاف الأوراق أن تمنحنيها.

• «التغريدة التي يقول فيها سلمان العودة إنه لم ينم فرحا باحتلال داعش للموصل، هل تصح نسبتها له، وإن صحت؛ فكيف هي ليالي العودة الآن» هكذا غردت مع بداية الغارات على داعش في الموصل.. أليست تغريدتك هذه تحمل إسقاطا باتهام خطير للعودة بأنه داعشي؟

•• لم أتهم أخي سلمان العودة بأنه داعشي. فقط تساءلت عن صحة تغريدة خطيرة مصورة، هل هي له؟. إن كانت له، وهي تحكي فرحا بسيطرة داعش، فهذا موقف يحتاج لتوضيح منه، إما بنفي التغريدة أو بتصحيح فهمنا لها. من ناحيتي، يكفي أن يصرّح بأنها ليست له، وسأصدقه، فلا يثبت للإنسان إلا ما أثبته لنفسه، وأما ما ينفيه فهو ليس له حكما، لأنه إن كان له ونفاه، فهذا بمثابة التراجع عنه.

• هل المسألة بينكم وبين الإسلاميين تصفية حسابات؟ أم انتقامات شخصية؟ لماذا لا يكون هناك حوار تصلون به إلى صياغة رؤية مشتركة للمستقبل، خاصة أنكم جميعا في مركب واحد هو «الوطن»؟

•• مسألة: «تصفية حسابات أو انتقامات شخصية» لا محل لها في سياق تنازع الأفكار؛ بمعنى أن الرصد على هذا النحو يقود إلى أمر يتعلق بالنيات. ومهمة فحص النيات لا مجال لها في النقد الفكري. يعني، مثلا، عندما أنتقد خطاب القرضاوي، فكيف يُحدّد الآخرون نيتي في ذلك، هل هو نقد علمي، أم تصفية حسابات؟. الأصل هنا أن النقد هو ممارسة علمية: نقد الأفكار. وما يظهر كنقد بدوافع غير فكرية، أي شخصية، فعلى النقد المضاد بيان ذلك. ولو أننا تركنا كل نقد بحجة أنه سيكون شخصيا أو تصفية حسابات، أو أنه سيُفسر بذلك، فلن نتحرك ولو خطوة في عالم الفكر.

هذا من حيث المبدأ. أما من ناحيتي، فلم أنتقد قط شخصا بيني وبينه عداوة شخصية. عندما أنتقد ابن تيمية مثلا، أية حسابات أصفيها مع ابن تيمية وهو قد مات قبل سبعة قرون؟. انتقدت سفر الحوالي، ولكني لم ألتق بسفر الحوالي قط. عندما أنتقد الآن داعش، أية حسابات أصفيها معها... وقس على ذلك كل من تعرضت له من قريب أو بعيد بشيء من النقد.

يجب علينا أن ننظر إلى النقد -مهما كان تصادميا- نظرة إيجابية، ولا نجزع من تنامي حدة الصراع الفكري فهذه ظاهرة صحية. والمجتمعات الميتة هي التي لا تسمع لها حسا. ومن هنا، فالمصالحة لا معنى لها، لا يوجد -علينا- شيء اسمه: عقد مجالس مصالحة فكرية. هذا يمكن أن يكون في المشكلات الاجتماعية، ولكن ليس في عالم الفكر. الصراع الفكري طبيعي في مراحل التحول، وفرض شيء على هذا الصراع من خارجه يؤدي إلى كارثة (إعاقة) على مستوى نمو الوعي المجتمعي. ولك أن تتخيل لو أن فرنسا في القرن الثامن عشر(قرن التنوير)، اتخذت قرارا بالمصالحة الفكرية، وأغمدت أقلامها، هل كانت إيديولوجيا التنوير ستجتاح أوروبا، ومن ثم ستُغيّر وعي العالم؟!

• قلت في مقال قبل أكثر من 10 سنوات «أعتقد أن وصول الإخوان إلى الحكم في مصر -فيما لو حدث!- سيكون بداية النهاية للجماعة، ليس كحركة فحسب، وإنما كفكرة أيضا».. برأيك لماذا فشل الإخوان؟ وهل ترى فعلا أنهم لا يستطيعون العودة سواء في مصر أو غيرها؟

•• لماذا فشل الإخوان؟. سؤال شائك وإشكالي. لكن، وعلى كل حال، فشل الإخوان لأكثر من سبب: أولا: لأنهم اصطدموا بالقوة الفعلية في مصر: الجيش، ولم يديروا علاقتهم معه على الوجه الذي يُجنّبهم المواجهة. ثانيا: لأنهم استحوذوا على السلطة بعد ثورة رفعت سقف التطلعات، فمن جهة لن يستطيعوا النجاح في تحقيق الحد الأدنى من المأمول، ومن جهة ثانية، أثاروا مخاوف الشركاء الوطنيين أن يتحول هذا الاستحواذ الانتخابي إلى استحواذ سلطوي دائم. ثالثا: لقد وصلوا بطريقة ديموقراطية؛ ليحكموا بطريقة ديموقراطية؛ بينما المجتمع -بكل مكوناته- لم يستوعب الرؤية الديموقراطية. رابعا: لم يستطيعوا إدارة علاقاتهم الإقليمية والدولية بما يطمئن القوى الفاعلة إقليميا ودوليا.

هذه أهم الأسباب، وهناك غيرها كثير. أما هل سيعودون، فهذا رهن بالتطورات داخل مصر وخارجها. لكن، في المدى المنظور، لن يستطيعوا العودة كما كانوا بأي حال. لقد كانوا يُروّجون لحلم، حلم اكتشف الجميع أنه كاذب. ربما بعد مصالحة سياسية، سيعودون لنوع من الشراكة غير الفاعلة، كما كانوا في عهد مبارك، أقل قليلا، أو أكثر قليلا. وحتما، لن يتجاوزوا هذا الحد في العقدين أو الثلاثة القادمة.

• «الخطاب الوعظي المتزمت أساء إلى الوطن كثيرا وكثيرا. وقائع الهيئة مثلا، الفتوى بقتل ملاك القنوات.. إلخ، كانت حديث الإعلام العالمي # قانون_جاستا».. هكذا تقول أنت، فهل من المعقول أن يكون هدف قانون جاستا هو الرد على الخطاب الوعظي المتزمت؟ أم هو وسيلة ابتزاز لاعتبارات سياسية؟

•• لا، ليس هدف قانون جاستا الرد على الخطاب الوعظي، لم أقل هذا، لكن قلت: إن وقائع الهيئة وفتوى قتل ملاك القنوات وأمثالها من الفتاوى المُحرجة دوليا، أعطت الآخرين المتربصين أدلة مادية ثابتة، تستخدمها للتحريض ضدنا. مَن يريد أن يبتزّك؛ لا بد أن «يمسك عليك شيئا»، والمتطرفون لدينا كانوا يتبرعون بكل ما يجعل وصف الآخرين لنا بالطرف قابلا للتصديق، خاصة عندما تكون الأقوال أو الأفعال المدانة صادرة عن شخصيات محسوبة رسميا علينا. مثلا، عندما يخطب أحدهم في جامع كبير، فيشتم اليهود والمسيحيين، ويُحرّض عليهم، أو يحرض على الشيعة، وفي الوقت نفسه يكون هذا الجامع تابعا لوزارة الشؤون الإسلامية، ومنها يأخذ الخطيب مرتبّه الشهري، فلا يُحاسب ولا يُعاقب، فهذا تصرف محسوب علينا كوطن، ولن نستطيع الخروج من ذلك بالقول إنه مجرد تصرف فردي.

• تعيد تغريدات حول هاشتاقات مثل المطالبة بفتح المحلات وقت الصلاة والمطالبة بإسقاط الولاية عن النساء، لكننا لم نر لك رأيا مباشرا فيها أو على الأدق رأيا قويا حول ذلك، كيف ترى القضيتين؟ ولماذا نظل نخوض في قضايا تجاوزها غيرنا منذ زمن في بلدان هي أقل منا اقتصاديا؟

•• أظنك أجبت عني بقولك: «ولماذا نظل نخوض في قضايا تجاوزها غيرنا منذ زمن في بلدان هي أقل منا اقتصاديا؟». أنا لم أشارك كثيرا في هذه الهاشتاقات لأنها تتناول مسائل قتلناها بحثا حتى أصبحت محل سأم كبير. مخجل، بل مخجل جدا أن نناقش قضايا واضحة جدا، وحقوق مبدئية معروفة في العالم كله. حوالى 57 دولة إسلامية في العالم، لا أحد يُغلق للصلاة إلا نحن، هل كلهم على خطأ، ونحن وحدنا على صواب؟، هل نحن وحدنا الذين نصلي، بينما بقية المسلمين لا يُصلّون؟! أما مسألة الولاية على المرأة، فهي تتضمن أن تجعل شخصا يستعبد شخصا. شخصا راشدا يتحكم في شخص راشد. هذا غير مقبول في أي مكان في العالم، فكيف أناقش مثل هذه القضية التي من المفترض أنها ليست محل نقاش أصلا؟!

• تشير إلى تجارة الدين وتقول «أعظم الأرباح المادية والمعنوية موجودة في سوق الوعظ الديني. أتخيّل الواعظ بعد كل هذه المكاسب يقول: لو لم أكن واعظا لتمنّيت أن أكون واعظا».. أستاذ محمد أين الخلل هنا؟ هل هو في الواعظ؟ أم في الجمهور؟ وكيف يمكن تحرير هذا الجمهور المُختطف؟

•• الخلل في الواعظ، وفي الجمهور أيضا، فالواعظ لم يكن ليمتهن هذه المهنة، ويتاجر بها، لو لم يجد جمهورا ساذجا يتماهى معه إلى درجة الذوبان التام. الفقر الثقافي المدقع عند هذه الجماهير، هو الذي جعلها تستجيب لخطاب بسيط وساذج، بل وخرافي أحيانا؛ لأنه يتلاءم مع مستواها الثقافي. إنها بسماعها للواعظ الحكواتي تسمع صدى آمالها وطموحاتها، المواعظ تحلق بها في عالم آخر، لا تبصر به حقيقة خيباتها وانكساراتها. أما سؤالك عن تحرير الجمهور المختطف، فأظن ذلك لا يكون إلا بالتنمية الثقافية. إنك لن تجد مثقفا واسع الإطلاع يستجيب لهذا الهراء الوعظي.

• قلت: «تلتزم قناة المجد الذكورية، بعدم ظهور المرأة مطلقا، ولكنها اليوم نقضت هذا الالتزام بالبث المباشر من عرفات، حيث ظهرت امرأة، وبوجه مكشوف أيضا!».. أنت تسخر هنا؟ لماذا لا تكون المجد وشبيهاتها مثالاً على التعددية مع قنوات انفتاحية أخرى؟ ألست مع التعددية والتنوع؟ فلماذا تحاربها هنا؟ لماذا تريدون الإعلام لوناً واحداً وفكراً واحداً؟

•• لا بأس بالتعددية، ولكن ليس بالعنصرية. لا بأس أن تكون بعض القنوات محافظة، وتمارس خياراتها في هذا المجال، ولكن ليس باتخاذ موقف عنصري من نصف المجتمع: المرأة. العنصرية الجندرية ليست خيارا، ولن تكون. لاحظ أن قناة المجد وأشباهها لا تخرج المرأة فيها أبدا، ولا حتى منقبة. يعني حتى المنقبة الملتزمة بأقصى صور الحجاب السلفي غير مسموح لها بالظهور في هذه القناة. وهذا يعني أن المسألة لا تتعلق بخيار فقهي، بل بسلوك عنصري، يلغي وجود المرأة تماما على مستوى الإعلام.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فأنا لم ألغِ التعددية بهذا النقد. أنا مارست النقد على مستوى الفكر، ولم أطالب بإلغاء القناة أو إغلاقها على مستوى الفعل. ولو كان بيدي إغلاقها؛ ما أغلقتها، بل لأبقيتها كخيار، كشاهد على وعي مضمر. إذن، لتمارس هي ما تشاء من سلوكيات، ولنمارس نقد سلوكياتها كما نشاء.