-A +A
شايع بن هذال الوقيان
لا يمكن لنا أن نقفَ ضدَّ حركية التاريخ وتغيّر الواقع، فهما يحملان معهما صيرورةً تطالُ كلَّ ما اتفقَّ عليه الآباء والأجداد منذ القدم. والإجماعُ أو الاتفاق الجمعي لدى جماعات من الناس يكون مصدراً أساسياً وقوياً لتشريع الأحكام وتسنين القوانين وبناء تصورات أخلاقية ملائمة. ولكن آلية الإجماع هذه تظل مرتبطة بمفهوم آخر وهو «العادة» والعادةُ تسمحُ لما أُجمِع عليه أن يستمرَّ ويدوم عبر الزمن.. ومن ثم فالإجماع هو حل وعلاج واقعي يصير بسبب العادة وفي كثير من الأحيانِ مشكلة تحتاج إلى حلّ وعلاج هي أيضاً! فهل نبحث عن إجماعٍ آخر يقف ضد هذه الإجماع السابق؟!
إن «العادة»- وهي تختلف عن «العرف» من حيث أن الأولى قد تكون سلبية أو إيجابية – تشريعٌ ضمنيٌّ يصعب الفكاكُ منه إلا بإجماعٍ آخر أو بعادة أخرى. فلو أخذنا ظاهرة ختان البنات في بعض البلدان العربية مثلاً لوجدنا أنها إجماع قديم، حاول البحثَ لاحقاً عن مبرر شرعي له من خلال التأويل المتعسف، وأصبح له حضور قوي لما تحول إلى «عادة» والتخلص من هذه العادة والتصورات التي تحيط بها ليس يسيراً.

إن المفاهيم والتصورات الأخلاقية التي يتبناها المرء العربي ويعكسها في سلوكه، باعتباره عضواً في مجتمع شامل له ثقافته الخاصة،لم يطرأ عليها تغير من حيث هي مفاهيم وتصورات وإنما من حيث هي سلوك وممارسات في بعض الأحيان. وهذا الجمود يفسِّر وجود التناقض والازدواجية التي نلمسها لدى المرء العربيّ في مستوى الأخلاق بين التصورات والممارسات. إن الواقع الفعلي والمتطور يجبرك على أن تقوم بـ( فعل ) ما، بـ( ارتكاب ) سلوك ما ؛ قد يكون سلوكاً متمشّياً مع منظومة المفاهيم والتصورات الأخلاقية الموروثة، وقد يصطدم معها بقوةٍ ويعارضها. فمن أين أتى الخطأ، من أين جاء الخلل؟ هل هو من التصورات الأخلاقية الموروثة أو من الممارسات الواقعية واليومية؟!
قبل أن نجيب على السؤال أودّ أن أوضح الفرق بين التصورات والممارسات في هذا المجال الذي نتحدث عنه، وهو مجال الأخلاق.
إن ثمة تقسيماً منهجياً للأخلاق بعامةٍ يمكن أن يكشف لنا عن وجود مواضع الخلل التي تساءلنا عنها. فهناك أولاً القيم الأخلاقية العليا، وهي قيمٌ يتفق عليها الناس قاطبة، كالعدالة والكرم والوفاء والإخلاص و غيرها، وبالتأكيد فثمة قيمٌ مضادّةٌ مرفوضة من جميع الناس وهي الظلم والبخل والسرقة والاستعباد ونحوها. وهناك ثانياً تصوراتٌ وتمثُّلاتٌ أخلاقية خاصة بكل مِهادٍ ثقافيٍّ وكل بيئة اجتماعية، قد تتفق فيها مع بعض المجتمعات وقد تختلف. وهناك أخيراً ما يسمى بالممارسات الأخلاقية وهي السلوك العملي المترتب على – تحديداً – القسم الثاني، وأقصد به التصورات، حيث إن التصورات تسلِّم بداهة بالقيم الأخلاقية ولكن الاختلاف يحدث في الطريقة التي يتم بها تأويل أو تجسيد هذه القيم وتحقيقها واقعياً وعملياً. والممارسات – كما أسلفنا – إما أن تكون منسجمة ومتفقة مع التصورات الأخلاقية الخاصة بالجماعة أو قد تعارضها وتخالفها، وذكرنا أنها تخالفها لأن جمود التصورات إزاءَ التغير الواقعي والتطور التاريخي أحدث فجوة وفراغاً كبيرين، فوقع الأفراد في ازدواجية حادة، حيث يقرّون ويؤمنون بالتصور الأخلاقي ولكنهم يمارسون خلافه، بل نقيضه تماماً في الوقت ذاته.
وللإجابة على السؤال الذي طرحناه أظن أن فشل التصورات وعدم مرونتها ومواكبتها للتغير الواقعي والتطور التاريخي هو المسؤول عن الفشل الأخلاقي ككل، وعن حدوث هذه الأزمة وهذه الفجوة.
ماذا يحتاج العالَم الحديث من تصورات أخلاقية لكي ينسجم مع نفسه ومع معطياته، وما هي القيم التي يجب أن تكون لها الأولوية وأن نجتهد في تحديد تصورات واقعية لها في عصر العولمة لكي نظل داخل التاريخ والعصر وليس خارجه؟!
هل هي قيم الكرم والطاعة والانصياع والتفاخر والتغني بنقاء الهوية، أم قيم العمل والتسامح والانفتاح والتواصل وحب النظام؟
لا نزال – نحن العربَ – نحمل تصورات قديمة وموروثة لهذه القيم التي لم تعد ذات فعالية في عصرنا هذا بنفس التصور القديم، ولم نعد نجد مجالاً لتطبيقها تطبيقاً صحيحاً، فاضطررنا لتطبيقها بشكل مشوه وبشع.. وعلى سبيل المثال، فالكرم كتصوُّر وليس كقيمة ولأنه لم يعد فعالاً في عصرنا أصبح إسرافاً وبطراً، والتفاخر أصبح تعصباً، والانغلاق أصبح تأخراً، والاعتداد بالفحولة أضحى تسلطاً.. وهكذا.
والمشكلة ليست فينا، بل في أن تصورنا الموروث لهذه القيم لم يعد ذا جدوى في هذا العصر المعولم والمعمم، هذا العصر الذي طرح قائمة من القيم والتصورات الجديدة التي ينبغي علينا أن نتعامل معها بوعي وواقعية.. كتقدير العمل والعلم، والاحتفاء بالآخر، وبالتسامح والسلام، وحب الحياة وتمجيدها، والإيمان بالحرية وبالنظام، وأهم هذه القيم على الإطلاق والتي غابت طويلاً - ولا تزال - عن فضائنا العربي هي الحرية الفردية ؛ الحرية بمدلولاتها الاجتماعية والاقتصادية، وليست الحرية الميتافيزيقية، فنادراً ما يترتب على التصور الميتافيزيقي فعلٌ مباشر وواضح.
والفردانية هي أساس كل القيم الحديثة – برأيي – فلا معنى للديمقراطية والحرية إذا كان النسق القبلي والجماعي سائداً، فالفرد إذا كان منتمياً لجماعة داخلية - أقصد إذا كانت هناك انتماءات عفوية وغير مقننة، كالانتماء للقبيلة أو للطائفة أو للمذهب حيث تغيب حرية وإرادة الفرد وتحضر إرادة المجموع – فإنه سيغلَّب هذا الانتماء على كثير من القيم التي تنبني عليها الدولة الحديثة، وسيحدث النزاع إما بشكل مباشر أو غير مباشر.
كما أن الإبداع ظاهرة فردية قبل كل شيء، فإذا شعر الفرد بان جهده الفردي لن يُحتفى به ولن ينال عليه التقدير، بينما سيحظى بالتقدير إذا ما بقي أميناً وطائعاً لتعاليم الجماعة طاعة عمياء، فإنه سيكفّ عن مواصلة عمله كفرد حر، وينخرط في الجماعة وفي ما تقرره وما تنص عليه. وهذا ما يؤكده عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم الذي أعطى للمجتمع دوراً هاماً في حفز الإبداع إذا ما آمنَ بحرية أفراده وشجعهم على الإبداع وإذا ما كان النموذج المثالي السائد عندهم هو الفرد الحر المبدع وليس الفرد المطيع والخاضع خضوعاً أعمى لسلطة المجتمع التي اكتسبها من «العادة» ومن «الإجماع»، أي من رحم الماضي عموماً وحضوره الدائم فينا بشكل طاغٍ يفضي لغياب الحاضر والمستقبل معاً ؛ أي لغياب مفهوم الزمان الذي ينطوي على فكرة التقدم والسير نحو آفاقٍ جديدة جداً.
فمن هو النموذج المثالي السائد لدينا عربياً؟ هل هو المبدع؟ هل هو الفيزيائي؟ هل هو الكيميائي؟ هل هو المخترع؟ هل هو الفيلسوف؟ هل هو المغامر الفردي الذي يجوب الأمصار والأقطار ويدون رحلاته في كتاب؟ هل هو المخلص والمحب لعلمه؟ هل هو المحافظ على النظام والمطبق له؟ للأسف لا. ونظرة خاطفة على الفضائيات – كمثال - سترشدنا إلى النموذج المثالي عربياً، وهو نموذج سلبي تماماً بكل أسف.
يجب أن نقرّ أن تصورنا للأخلاق والذي اختزلناه في عدد من المفاهيم القديمة والتي لم تعد ذات فائدة لعصرنا هذا هو سبب الداء ومكمن الخلل.. فهناك تصورات أخلاقية حديثة غائبة عنا، بل إننا نسخر منها ونزدريها كحب النظام والعمل والحرية والمساواة والتسامح. والصورة تتضح في هذه العبارة التي سأختم بها مقالي هذا، محيلاً كثيراً من التفاصيل إلى المقال القادم، وهي اننا نقف على التخوم التي تفصل بين عصرين، بين نمطين أخلاقيين: فلا نحن طبقنا النمط القديم تطبيقاً صحيحاً ولن نستطيع ذلك أساساً لأن هذا النمط صالح للقدماء وليس لنا.. وفي المقابل لا نحن احترمنا واستلهمنا واستوعبنا القيم الأخلاقية الحديثة - وهي قيم إنسانية قبل كل شيء، بدليل أننا نتفق حول أهميتها ولو مبدئياً - والتي ستساعدنا حتماً على تجاوز الفجوة التي خلفها هذا التباعد وهذا التنافر بين التصورات والممارسات، وبالتالي تجاوز كثيراً من شغَب الإشكالية العربية المزمنة: إشكالية الأصالة والمعاصرة.