يصنف باروت ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب بأنهما ينتميان إلى السلفية الصلبة في خطها المتشدد، ويرى أنهما أثرا سلبياً في حسن البنا والمودودي وسيد قطب! ووفق سياق تحليله كان من الممكن لجماعة حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين أن تكون امتداداً (كاملاً وأميناً) للسلفية النهضوية الإصلاحية المرنة لو أنها لم تتكون وتنشأ في ظل الضيق الذي طرأ على بنية السلفية المرنة، أو لو لأنها اتجهت إلى محمد عبده مباشرة وغرفت من معينه، وقفزت على مرحلة تحول رشيد رضا أو شطبت تأثيرها عليها! وهذا الضيق الذي طرأ على بنية السلفية المرنة تسبب فيه عنده رشيد رضا بفعل «عوامل سياسية وثقافية مركبة» أدت «إلى إيقاظ العناصر المتشددة النائمة في سلفيته العامة المرنة»، والتي مثالها الوحيد عنده هو تحوله «إلى مدافع عن بنية السلفية المغلقة في رؤيتها للآخر... والذي كان ممركزاً حول الشيعة» حين «كتب كتاباً يدافع فيه عن موقف الوهابية من الشيعة».
ونظراً إلى أن حسن البنا مؤسس الجماعة – كما قال – كان معنياً من الناحية الدفاعية بالدفاع عن (الإسلام الجامع) اُعتُبرت حركته في (بعض اللحظات) امتداداً للسلفية النهضوية الإصلاحية المرنة لكن عبر توسط رشيد رضا واستنفار الآليات الدفاعية التي تميز كل أيديولوجيا صلبة تواجه امتحاناً مصيرياً.
وقال عنه: إنه «عاد بجماعته في إطار (المفهوم الجامع) إلى بنية السلفية التاريخية، واعتمد بشكل أساس على شرح العقيدة الطحاوية، الذي أصبح ركناً أساسياً في الترسيمة السلفية المعاصرة، من ناحية دقة تبويبها ووضوحها في مختصر، مع أنها تتميز بالكثير من التشدد الاعتقادي».
وهو هنا كما هو وارد في إحالته يعتمد في تقسيمه للسلفية على تقسيم زميله في الندوة أنور أبو طه لها (السلفية التاريخية، السلفية المدرسية، السلفية النهضوية... إلخ)، والسلفية التاريخية عند الأخير ظهرت على يد ابن حنبل، وبلغت أوجها مع ابن تيمية، وعدّد علماؤها، وفي مرحلتها الأخيرة أشار إلى اسم أبي العز الحنفي صاحب كتاب شرح العقيدة الطحاوية، وهو الشرح الذي قال عنه، إنه أصبح عمدة السلفية التاريخية والإطار المرجعي لها.
وبحسب ما يرى باروت، فإن سلفية حسن البنا لم تصل قط إلى مستوى بنية السلفية المذهبية الصلبة، وخلافاً لهذه البنية الأخيرة، يجمع البنا في جماعته بين (الطريقة السلفية) و(الطريقة الصوفية). وهو لا ينظر إلى مسألة الاستشفاع بالأولياء على أنها مسألة اعتقادية بل فرعية. وهنا في رأيه كمنت جذور (الوسطية الإخوانية)، التي لن تعيد بناء هويتها الوسطية – كما قال – إلا بدءاً من أواخر الستينات مع كتاب (دعاة لا قضاة) لحسن الهضيبي.
تعليقاً على ما قال، أقول: لم يستطع باروت أن يقدم طوال بحثه دليلاً ملموساً على أن البنا والمودودي وقطب قد تأثروا بالدعوة الوهابية، مع أن هذا الادعاء هو موضوع بحثه. ومرة ثالثة، سأقوم بتصحيحات وتصويبات لأغلاطه ومغالطاته.
البنا في رسالته (العقائد) كان مفوضاً في الصفات، كما كان يحفظ أرجوزة (جوهرة التوحيد) التي نظمها إبراهيم اللقاني. وجوهرة التوحيد هي أحد أهم متون العقيدة الأشعرية، والكتاب المعتمد في العقيدة عند الإخوان المسلمين، هو هذا الكتاب، وليس كتاب شرح العقيدة الطحاوية.
يدعي باروت أن البنا يرى أن جماعته هي جماعة من المسلمين وليست جماعة المسلمين، مع أن واقعها العملي وممارستها الفعلية تقول بخلاف ذلك. وأول من أدرك هذا الأمر بنفاذ هو عباس محمود العقاد في سلسلة مقالات هاجم فيها الإخوان المسلمين في أربعينات القرن الماضي، فقال إن الإخوان المسلمين يعتبرون أنفسهم هم المسلمون وليسوا جماعة من المسلمين، وقد استطاعوا أن يوقفوا مقالاته بترويعه بإطلاق الرصاص عليه في منزله. وعندما انشق محمد الغزالي على قيادة الهضيبي استعاد هذا القول واتهم فيه الإخوان المسلمين لا في عهد البنا، وإنما في عهد خصمه الهضيبي! إننا حين نقلّب في كتب التثقيف الحزبي عند الإخوان المسلمين وعند حزب التحرير الإسلامي، لا نجد من بينها أي كتب لمحمد بن عبدالوهاب أو لأئمة الدعوة السلفية، ولا للوهابيين المتأخرين.
وكتاب (دعاة لا قضاة) الذي اعتبره أتى «في سياق محاولة رد التأثير المودودي – القطبي، الذي يعود إلى اعتقادية السلفية الصلبة في خطها المتشدد، من ابن تيمية إلى ابن عبدالوهاب»، كتاب لم يؤلفه الهضيبي، وإنما ألّفه جماعة من علماء الأزهر بتكليف من أمن الدولة في عهد عبدالناصر. وعلى خلاف ما يدعيه الإخوان المسلمين وما آمن به باروت وصدق كان الهضيبي متبنياً لفكر قطب، ولي قراءة حول هذا الكتاب نشرت في مجلة (المجلة) بعنوان: (هل ألّف المستشار حسن الهضيبي دعاة لا قضاة: بحث في كتاب مغموز النسب؟)، أنصحه بالرجوع إليها. ففيها معلومات وتحليلات مفصلة لكل ما يتعلق بالكتاب.
وسيد قطب لم يتأثر في مرحلته الإسلامية لا بابن تيمية ولا بالدعوة الوهابية ولا بالإخوان المسلمين، وروافده الإسلامية الكلاسيكية والإسلامية المحدثة، غير مجهولة للمختصين، وهو قبل أن يتعرف إلى المودودي كان متأثراً برافد شيعي كلاسيكي وبمحمد أسد، وبالهندي مولانا محمد علي الذي هو قادياني.
إننا لو افترضنا جدلاً أن المودودي وسيد قطب والإخوان المسلمين تأثروا بابن عبدالوهاب وابن تيمية، فكيف تأتّى للإسلام الشيعي أن يتأثر بهاتين الشخصيتين ويروج لفكرهما، وينشأ عن تأثره هذا، وبخاصة بالأول إسلام شيعي حركي، وهو الإسلام الذي يمقت ابن عبدالوهاب وابن تيمية، لتناقض عقيدتهما الحاد معه أشد المقت؟ وكيف سمح الشيعة الهنود لأنفسهم أن ينضموا للجماعة الإسلامية بقيادة المودودي؟ وكذلك كيف سمح الشيعة العراقيون لأنفسهم، قبل أن ينشئوا تنظيمياً إسلامياً خاصاً بهم، أن ينضموا إلى جماعة الإخوان المسلمين في العراق؟ إن ما يدعيه باروت هو ضرب من المستحيل الأيديولوجي.
الحق أنه يغالط، فهو يعرف جيداً أطروحة المودودي، وله دراسات تنم عن معرفته الجيدة بها. إذ لا يوجد في كل ما كتبه المودودي ما يشير إلى تثمينه الديني للحركة الوهابية ولا تثمينه الإسلامي للحالة السياسية والأيديولوجية السعودية. ألم يلفت نظره أن المودودي في كتابه (موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه) الذي ألفه عام 1940 لم يدرج محمد بن عبدالوهاب ضمن المصلحين والمجددين؟ ولما ترجم الكتاب إلى العربية اضطر مقدم الترجمة خليل الحامدي إلى تقديم سببين غير مقنعين لعدم عد مؤلف الكتاب محمد بن عبدالوهاب من ضمن المصلحين المجددين، الأول أن المؤلف لم يرد استقصاء الجهود المبذولة في باب الإصلاح والتجديد وإحياء الدين، والآخر أن مسعود الندوي - وهو من أعضاء الجماعة الإسلامية - قام بنشر كتاب مستقل مسهب عن حياة محمد بن عبدالوهاب هو (محمد عبدالوهاب، مصلح مظلوم ومفترى عليه) ولشعور المقدم بالحرج كان يحيط اسم ابن عبدالوهاب بألفاظ التكريم والتبجيل.
إن ما قاله في السبب الأول هو غير صحيح، فقارئ الكتاب يلمس أن المودودي كان في وارد حصر المصلحين المجددين. وما قاله في السبب الآخر هو كلام غير دقيق من جهتين، أولاهما أنه صحيح أن مسعود الندوي من أتباع المودودي لكن هو إضافة إلى هذا سلفي العقيدة والتوجه، فهو ألف كتابه بوازع ذاتي يخصه هو ولا علاقة له بتوجه الجماعة. والأخرى أن المؤلف ذكر أسماء لمصلحين مجددين وتحدث عن دورهم وإسهامهم في باب التجديد والإصلاح مع أنه قد سبق لبعض أعضاء الجماعة أن أفردوا مقالات وكتباً عنهم.
إن ذينك التبريرين قيلا بتنسيق مع المودودي بعد أن نشأت له مصالح لفكرته ودعوته في السعودية ومع السعودية منذ مطلع ستينات القرن الماضي.
وما يمكن تقريره في هذه القضية أن أنموذج الثورة الإيرانية هو أقرب إلى قلب المودودي وعقله من الأنموذج السعودي. ذلك أن الأنموذج الأول هو أقرب إلى تنظيره اللا هوتي السياسي من الأنموذج الثاني، إضافة إلى معرفته بأنه من آباء الأنموذج الأول.
إن لباروت كتاباً اسمه (يثرب الجديدة، الحركات الإسلامية الراهنة) صادر في عام 1994، لم يذكر فيه البتّة أثراً للوهابية في فكر المودودي وحسن البنا وسيد قطب والإخوان المسلمين، وكان يعزو التأثير الأكبر في الإسلام الحركي السني والشيعي للمودودي بل إنه عارض خلاصة انتهى إليها المثقف الماركسي هادي العلوي، فقال: «ولا نوافق إطلاقاً على استنتاج هادي العلوي بأن نظرية الحاكمية التي تبناها مفكرو الثورة الإسلامية هي نتاج انفتاح التشيع السياسي المعاصر على الفكر السني لحركة المودودي والإخوان المسلمين. إذ إن نظرية الحاكمية تقوم أساساً على القطعية مع نظرية تطبيق الشريعة الإسلامية الإخوانية، بل يمكن استنتاج عكس ما استنتجه العلوي، أي أن نظرية المودودي للحاكمية هي نتاج لانفتاحه على النظرية الشيعية للإمامة»، ثم يفصّل في اعتراضه على الخلاصة التي انتهى إليها العلوي.
وأضيف إلى ما ذكره في اعتراضه على استخلاص العلوي، أن الفكر الشيعي الحديث كان مهيأً لاستقبال التأثر بأفكار المودودي لمشاركته لهم في نظرية الإمامة وفي حكمه على أطوار التاريخ الإسلامي وفي موقفه من عدم الاعتراف بشرعية السلطة السنية في عصره، وفي معظم الأعصر الإسلامية الماضية.
وما أسماه باروت بانفتاح المودودي على النظرية الشيعية للإمامة، يرجع في أسبابه لصراع عقدي وتاريخي طويل بين الشيعة والسنة في الهند، وقد تجلى هذا الصراع في عهد السلطان أكبر الذي استهدف في مشروعه الاصلاحي التلفيقي الإسلام ونبيه محمد، واستهدف الإسلام السني، وفي خضم ذلك الصراع الطويل قدم الإسلام السني هناك تنازلات للفكر الشيعي.
وإذا كان في العالم العربي فرز واضح وبيّن بين التصورات والممارسات الدينية لدى السنة والشيعة، ففي الهند ثمة تداخل وخلط بينهما. فعلى سبيل المثال يوجد ما بين الهنود والباكستانيين سنة يحجون إلى النجف، وفي مقامات وأحوال هناك من يبتهل إلى علي بن أبي طالب لا إلى الله! أما المرجع البعيد لأفكار المودودي والإسلام الراديكالي في الهند وفي العالم العربي فهو ولي الدين الدهلوي وليس محمد بن عبدالوهاب. وبعض مقولات الإسلاميين المعاصرين التي لا ينفكون عن ترديدها مبثوث أصلها في بعض كتبه.
* باحث وكاتب سعودي
ونظراً إلى أن حسن البنا مؤسس الجماعة – كما قال – كان معنياً من الناحية الدفاعية بالدفاع عن (الإسلام الجامع) اُعتُبرت حركته في (بعض اللحظات) امتداداً للسلفية النهضوية الإصلاحية المرنة لكن عبر توسط رشيد رضا واستنفار الآليات الدفاعية التي تميز كل أيديولوجيا صلبة تواجه امتحاناً مصيرياً.
وقال عنه: إنه «عاد بجماعته في إطار (المفهوم الجامع) إلى بنية السلفية التاريخية، واعتمد بشكل أساس على شرح العقيدة الطحاوية، الذي أصبح ركناً أساسياً في الترسيمة السلفية المعاصرة، من ناحية دقة تبويبها ووضوحها في مختصر، مع أنها تتميز بالكثير من التشدد الاعتقادي».
وهو هنا كما هو وارد في إحالته يعتمد في تقسيمه للسلفية على تقسيم زميله في الندوة أنور أبو طه لها (السلفية التاريخية، السلفية المدرسية، السلفية النهضوية... إلخ)، والسلفية التاريخية عند الأخير ظهرت على يد ابن حنبل، وبلغت أوجها مع ابن تيمية، وعدّد علماؤها، وفي مرحلتها الأخيرة أشار إلى اسم أبي العز الحنفي صاحب كتاب شرح العقيدة الطحاوية، وهو الشرح الذي قال عنه، إنه أصبح عمدة السلفية التاريخية والإطار المرجعي لها.
وبحسب ما يرى باروت، فإن سلفية حسن البنا لم تصل قط إلى مستوى بنية السلفية المذهبية الصلبة، وخلافاً لهذه البنية الأخيرة، يجمع البنا في جماعته بين (الطريقة السلفية) و(الطريقة الصوفية). وهو لا ينظر إلى مسألة الاستشفاع بالأولياء على أنها مسألة اعتقادية بل فرعية. وهنا في رأيه كمنت جذور (الوسطية الإخوانية)، التي لن تعيد بناء هويتها الوسطية – كما قال – إلا بدءاً من أواخر الستينات مع كتاب (دعاة لا قضاة) لحسن الهضيبي.
تعليقاً على ما قال، أقول: لم يستطع باروت أن يقدم طوال بحثه دليلاً ملموساً على أن البنا والمودودي وقطب قد تأثروا بالدعوة الوهابية، مع أن هذا الادعاء هو موضوع بحثه. ومرة ثالثة، سأقوم بتصحيحات وتصويبات لأغلاطه ومغالطاته.
البنا في رسالته (العقائد) كان مفوضاً في الصفات، كما كان يحفظ أرجوزة (جوهرة التوحيد) التي نظمها إبراهيم اللقاني. وجوهرة التوحيد هي أحد أهم متون العقيدة الأشعرية، والكتاب المعتمد في العقيدة عند الإخوان المسلمين، هو هذا الكتاب، وليس كتاب شرح العقيدة الطحاوية.
يدعي باروت أن البنا يرى أن جماعته هي جماعة من المسلمين وليست جماعة المسلمين، مع أن واقعها العملي وممارستها الفعلية تقول بخلاف ذلك. وأول من أدرك هذا الأمر بنفاذ هو عباس محمود العقاد في سلسلة مقالات هاجم فيها الإخوان المسلمين في أربعينات القرن الماضي، فقال إن الإخوان المسلمين يعتبرون أنفسهم هم المسلمون وليسوا جماعة من المسلمين، وقد استطاعوا أن يوقفوا مقالاته بترويعه بإطلاق الرصاص عليه في منزله. وعندما انشق محمد الغزالي على قيادة الهضيبي استعاد هذا القول واتهم فيه الإخوان المسلمين لا في عهد البنا، وإنما في عهد خصمه الهضيبي! إننا حين نقلّب في كتب التثقيف الحزبي عند الإخوان المسلمين وعند حزب التحرير الإسلامي، لا نجد من بينها أي كتب لمحمد بن عبدالوهاب أو لأئمة الدعوة السلفية، ولا للوهابيين المتأخرين.
وكتاب (دعاة لا قضاة) الذي اعتبره أتى «في سياق محاولة رد التأثير المودودي – القطبي، الذي يعود إلى اعتقادية السلفية الصلبة في خطها المتشدد، من ابن تيمية إلى ابن عبدالوهاب»، كتاب لم يؤلفه الهضيبي، وإنما ألّفه جماعة من علماء الأزهر بتكليف من أمن الدولة في عهد عبدالناصر. وعلى خلاف ما يدعيه الإخوان المسلمين وما آمن به باروت وصدق كان الهضيبي متبنياً لفكر قطب، ولي قراءة حول هذا الكتاب نشرت في مجلة (المجلة) بعنوان: (هل ألّف المستشار حسن الهضيبي دعاة لا قضاة: بحث في كتاب مغموز النسب؟)، أنصحه بالرجوع إليها. ففيها معلومات وتحليلات مفصلة لكل ما يتعلق بالكتاب.
وسيد قطب لم يتأثر في مرحلته الإسلامية لا بابن تيمية ولا بالدعوة الوهابية ولا بالإخوان المسلمين، وروافده الإسلامية الكلاسيكية والإسلامية المحدثة، غير مجهولة للمختصين، وهو قبل أن يتعرف إلى المودودي كان متأثراً برافد شيعي كلاسيكي وبمحمد أسد، وبالهندي مولانا محمد علي الذي هو قادياني.
إننا لو افترضنا جدلاً أن المودودي وسيد قطب والإخوان المسلمين تأثروا بابن عبدالوهاب وابن تيمية، فكيف تأتّى للإسلام الشيعي أن يتأثر بهاتين الشخصيتين ويروج لفكرهما، وينشأ عن تأثره هذا، وبخاصة بالأول إسلام شيعي حركي، وهو الإسلام الذي يمقت ابن عبدالوهاب وابن تيمية، لتناقض عقيدتهما الحاد معه أشد المقت؟ وكيف سمح الشيعة الهنود لأنفسهم أن ينضموا للجماعة الإسلامية بقيادة المودودي؟ وكذلك كيف سمح الشيعة العراقيون لأنفسهم، قبل أن ينشئوا تنظيمياً إسلامياً خاصاً بهم، أن ينضموا إلى جماعة الإخوان المسلمين في العراق؟ إن ما يدعيه باروت هو ضرب من المستحيل الأيديولوجي.
الحق أنه يغالط، فهو يعرف جيداً أطروحة المودودي، وله دراسات تنم عن معرفته الجيدة بها. إذ لا يوجد في كل ما كتبه المودودي ما يشير إلى تثمينه الديني للحركة الوهابية ولا تثمينه الإسلامي للحالة السياسية والأيديولوجية السعودية. ألم يلفت نظره أن المودودي في كتابه (موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه) الذي ألفه عام 1940 لم يدرج محمد بن عبدالوهاب ضمن المصلحين والمجددين؟ ولما ترجم الكتاب إلى العربية اضطر مقدم الترجمة خليل الحامدي إلى تقديم سببين غير مقنعين لعدم عد مؤلف الكتاب محمد بن عبدالوهاب من ضمن المصلحين المجددين، الأول أن المؤلف لم يرد استقصاء الجهود المبذولة في باب الإصلاح والتجديد وإحياء الدين، والآخر أن مسعود الندوي - وهو من أعضاء الجماعة الإسلامية - قام بنشر كتاب مستقل مسهب عن حياة محمد بن عبدالوهاب هو (محمد عبدالوهاب، مصلح مظلوم ومفترى عليه) ولشعور المقدم بالحرج كان يحيط اسم ابن عبدالوهاب بألفاظ التكريم والتبجيل.
إن ما قاله في السبب الأول هو غير صحيح، فقارئ الكتاب يلمس أن المودودي كان في وارد حصر المصلحين المجددين. وما قاله في السبب الآخر هو كلام غير دقيق من جهتين، أولاهما أنه صحيح أن مسعود الندوي من أتباع المودودي لكن هو إضافة إلى هذا سلفي العقيدة والتوجه، فهو ألف كتابه بوازع ذاتي يخصه هو ولا علاقة له بتوجه الجماعة. والأخرى أن المؤلف ذكر أسماء لمصلحين مجددين وتحدث عن دورهم وإسهامهم في باب التجديد والإصلاح مع أنه قد سبق لبعض أعضاء الجماعة أن أفردوا مقالات وكتباً عنهم.
إن ذينك التبريرين قيلا بتنسيق مع المودودي بعد أن نشأت له مصالح لفكرته ودعوته في السعودية ومع السعودية منذ مطلع ستينات القرن الماضي.
وما يمكن تقريره في هذه القضية أن أنموذج الثورة الإيرانية هو أقرب إلى قلب المودودي وعقله من الأنموذج السعودي. ذلك أن الأنموذج الأول هو أقرب إلى تنظيره اللا هوتي السياسي من الأنموذج الثاني، إضافة إلى معرفته بأنه من آباء الأنموذج الأول.
إن لباروت كتاباً اسمه (يثرب الجديدة، الحركات الإسلامية الراهنة) صادر في عام 1994، لم يذكر فيه البتّة أثراً للوهابية في فكر المودودي وحسن البنا وسيد قطب والإخوان المسلمين، وكان يعزو التأثير الأكبر في الإسلام الحركي السني والشيعي للمودودي بل إنه عارض خلاصة انتهى إليها المثقف الماركسي هادي العلوي، فقال: «ولا نوافق إطلاقاً على استنتاج هادي العلوي بأن نظرية الحاكمية التي تبناها مفكرو الثورة الإسلامية هي نتاج انفتاح التشيع السياسي المعاصر على الفكر السني لحركة المودودي والإخوان المسلمين. إذ إن نظرية الحاكمية تقوم أساساً على القطعية مع نظرية تطبيق الشريعة الإسلامية الإخوانية، بل يمكن استنتاج عكس ما استنتجه العلوي، أي أن نظرية المودودي للحاكمية هي نتاج لانفتاحه على النظرية الشيعية للإمامة»، ثم يفصّل في اعتراضه على الخلاصة التي انتهى إليها العلوي.
وأضيف إلى ما ذكره في اعتراضه على استخلاص العلوي، أن الفكر الشيعي الحديث كان مهيأً لاستقبال التأثر بأفكار المودودي لمشاركته لهم في نظرية الإمامة وفي حكمه على أطوار التاريخ الإسلامي وفي موقفه من عدم الاعتراف بشرعية السلطة السنية في عصره، وفي معظم الأعصر الإسلامية الماضية.
وما أسماه باروت بانفتاح المودودي على النظرية الشيعية للإمامة، يرجع في أسبابه لصراع عقدي وتاريخي طويل بين الشيعة والسنة في الهند، وقد تجلى هذا الصراع في عهد السلطان أكبر الذي استهدف في مشروعه الاصلاحي التلفيقي الإسلام ونبيه محمد، واستهدف الإسلام السني، وفي خضم ذلك الصراع الطويل قدم الإسلام السني هناك تنازلات للفكر الشيعي.
وإذا كان في العالم العربي فرز واضح وبيّن بين التصورات والممارسات الدينية لدى السنة والشيعة، ففي الهند ثمة تداخل وخلط بينهما. فعلى سبيل المثال يوجد ما بين الهنود والباكستانيين سنة يحجون إلى النجف، وفي مقامات وأحوال هناك من يبتهل إلى علي بن أبي طالب لا إلى الله! أما المرجع البعيد لأفكار المودودي والإسلام الراديكالي في الهند وفي العالم العربي فهو ولي الدين الدهلوي وليس محمد بن عبدالوهاب. وبعض مقولات الإسلاميين المعاصرين التي لا ينفكون عن ترديدها مبثوث أصلها في بعض كتبه.
* باحث وكاتب سعودي