يناقش مجلس الشورى هذه الأيام نظاماً مهماً لتشريع نشاط جمعيات المجتمع المدني، وهو ما يوازي في أهميته الأنظمة الثلاثة التي صدرت في عهد المغفور له الملك فهد لتنظيم أجهزة الدولة. وحيث إن المرسوم الصادر بإقرار الأنظمة الثلاثة، قد أشار إلى أنها قابلة للتطوير والتعديل فإن الباب مفتوح قانونياً وموضوعياً لتطويرها بما يتوافق والمتغيرات المحلية والدولية، وبما يعزز العمل المؤسساتي، ويكفل المزيد من الحقوق الأساسية للمواطنين في العدالة والحرية والمساواة والمشاركة في صناعة القرار، واحترام مواثيق حقوق الإنسان التي وقعتها المملكة.
ولأن نظام «الهيئة الوطنية للجمعيات والمؤسسات الأهلية» قيد الدراسة، فإنه ينبغي مراجعة بنوده وصياغاته بشكل متأنٍ وشامل، وأن تعقد حوله الحوارات المستفيضة، داخل أروقة مجلس الشورى وخارجها عبر وسائل الإعلام والمنتديات المختلفة، بهدف الوصول إلى أفضل الصيغ الحضارية وأشدها وضوحاً وتكاملاً من الناحية القانونية، بما يكفل حرية عمل جمعيات المجتمع المدني في فضائها المدني المتعارف عليه في دول العالم الحديثة. وقبل التفصيل في ملاحظاتي على النظام المقترح، أود الإشارة إلى بعض الأفكار المتعلقة بالحيز الذي تشغله جمعيات المجتمع المدني، حيث يقول الكسيس دي توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»: إن الأمريكان من جميع الأعمار، ومن جميع المنازل، والمشارب المختلفة، نجدهم يكوّنون الجمعيات.. جمعيات عملاقة، وأخرى صغيرة جداً. إنهم يكونون جمعيات لوظيفة إقامة الحفلات، ولتأسيس الأديرة، ولبناء الفنادق في المناطق الريفية، ويؤسسون جمعيات للإبداع، ولنشر الكتب... إنهم يشكّلون الجمعيات باستمرار وفي كل مناحي الحياة. وفي كل مجال فأنت تجد على رأس كل مؤسسة ما في فرنسا حضور الدولة، وفي انجلترا حضور رجل الإقطاع، أما في أمريكا فلا تجد إلا الجمعيات.
قيل هذا الكلام في عام 1839م حين زار الفرنسي «توكفيل» أمريكا، وأعجب بتجربتها الديمقراطية، وبشبكة جمعيات المجتمع الكثيفة فيها، والتي تغطي كل مجالات الحياة، وعدّ تلك الجمعيات أساساً ضرورياً لترسيخ قيم التعددية وثقافة الانتخاب التي تعمل على اختيار الأكفأ، وتمارس دورها في الرقابة والمحاسبة، وإعداد الكوادر لتولي مهام العمل الديمقراطي بشكل شامل. ولذلك فإن ثمار تلك التجربة قد انتشرت فيما بعد لتغطي معظم فضاءات الدول المتقدمة في عصرنا الراهن.
أما حول الحيز القانوني والعملي المناط بجمعيات المجتمع المدني، فإن الدكتور كمال عبداللطيف يقول: «إن المجتمع المدني هو كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع العامة، دون تدخل أو توسط من الحكومة، لأن الأمر يتعلق بوضع المجتمع المدني أمام الدولة، لصياغة مواثيق جديدة تحمي المجتمع من هيمنة الدولة، وتتيح للمؤسسات التي ينشئها الأفراد إمكانية إعادة صياغة المجتمع السياسي، انطلاقاً من علاقات الصراع التي تحكم الوجود المجتمعي، وتنعكس بالضرورة على وجودهم السياسي».
ومن أجل ذلك فإن اعتماد هذا النظام الجديد للجمعيات في بلادنا، ينبغي أن ينطلق من فكرة تمايز مجال الدولة عن مجال المجتمع المدني، فهما يتكاملان في أداء أدوارهما المستقلة من أجل تفعيل آليات خدمة المجتمع، ولكن الفضاء المدني هو الذي يرسخ ثقافة الحقوق والشفافية والتعددية، ومبادئ المشاركة في اتخاذ القرار والمساءلة والمحاسبة، وحماية حقوق المجموعات الصغيرة، وبالتالي فإنه ينهض بدوره في حماية الأفراد والجماعات من تجاوزات المؤسسات الرسمية، الضخمة، وعليه فلا ينبغي أن يدمج في ظل المؤسسات الرسمية حتى لا يفقد هويته ووظيفته الأساسية.
ولكننا حين نتذكر حداثة تجربة مجتمعنا في هذا الشأن، فإن مبادرة الدولة بتشريع وقوننة عمل جمعيات المجتمع المدني قد تكون ضرورية لمن يبدأ من الصفر، إلا أننا نتطلع إلى قدرة الجمعيات على الخروج من عباءة الدولة في زمن قريب، حين تنجز التجربة مهام التأسيس وتتجاوز مشاق البدء، وتبني جسور الثقة مع الفضاء الرسمي، خلال الأعوام الأربعة القادمة بإذن الله.
وهنا أعود إلى مسودة النظام المنشورة في جريدة الجزيرة، لتدوين الملاحظات التالية:
1- أرى أنه من الأفضل الإشارة إلى جمعيات المجتمع المدني بدلاً من الجمعيات والمؤسسات الأهلية، لأن التسمية الأولى أصبحت عنواناً من عناوين التحديث والإصلاح في كافة دول العالم، وقد تجذّر هذا العنوان في أذهان المهتمين والمتابعين، كحزمة من القيم والآليات والقوانين لتعزيز الحقوق، ولممارسة الديمقراطية في مستوى البنية التحتية أي في الفضاء الاجتماعي والثقافي.
2- ورد في أكثر من موضع عبارة «بقرار من الوزير»، وحيث إن هذه الهيئة ستكون برئاسة سمو ولي العهد، فكيف تعود الهيئة بهذه الصفة إلى «الوزير»، وآمل أن يكون ذلك مجرد خطأ في الطباعة، لأن الضرورة العملية والقانونية تمنح هذه الهيئة استقلاليتها، كجهة اعتبارية خارج إطار الوزارات أو الوزير.
3- حفل النظام بصياغات فضفاضة للعديد من الأحكام، التي ينتج عنها عقوبات بحل الجمعيات أو تغيير مجالس إدارتها، مثل «ارتكاب خطأ جسيم»، أو «تجاوز العادات المرعية في المملكة»، (فما هو الجسيم، وما هي العادات) وسواها من اشتراطات مفتوحة تسهل لكل من أراد إيقاع العقاب بجماعة معينة، امتطاء صهوة هذه الكلمات والعبارات المطاطة، وكان ينبغي التركيز بدلاً من ذلك على «ضرورة الالتزام بالقوانين المكتوبة» التي أصدرتها الدولة.
4- هناك ضبابية في تعريف جمعيات النفع العام، والجمعيات الأهلية والمؤسسات الأهلية. وإذا كنت أتفق مع الضوابط الموضوعة لأنشطة الجمعيات التي لها علاقة بجمع الأموال والتبرعات، لإنفاقها في وجوه الخير، فإنني لا أرى ضرورة تطبيق تلك الضوابط على الجمعيات المهتمة بالشأن الاجتماعي الثقافي والإبداعي، وأرى أن تترك لها حرية العمل ضمن ضوابط احترام ثوابت الدين القطعية، والوحدة الوطنية، والشرعية السياسية.
5- ورد فيما يخص تشكيل أعضاء الهيئة العليا، مشاركة بعض الوزارات، وقد أغفلت وزارة الثقافة والإعلام، بينما هي الأقرب تماساً مع الأنشطة الثقافية والإبداعية، مما يستدعي حضورها كطرف هنا.
6- لم يشر النظام إلى أبرز مجالات أنشطة جمعيات المجتمع المدني في بلادنا، وهي ما يسمى بالمنتديات الثقافية الخاصة، والديوانيات الثقافية، والصالونات الأدبية، ولابد من إيضاح الصفة التي تحكم هذه الأنشطة.
7- نصت إحدى المواد على عدم جواز مشاركة أي جمعية في ملتقى خارجي، إلا بعد الحصول على موافقة الهيئة العليا، وفي اعتقادي أن في ذلك الشرط شكلاً من أشكال الحجر على أنشطة الجمعيات، بما يتنافى مع مفهوم جمعيات المجتمع المدني، وأرى أن يكتفى بالنص على «ضرورة التقيد بالأنظمة المكتوبة في المملكة وبضرورة احترام الثوابت الثلاثة، لكل من يساهم في تلك الملتقيات».
ويبقى الكثير من الملاحظات، مثل موقع المرأة والشباب، وحقوق الإنسان في هذه الجمعيات، غير أنني، وبالرغم من كل ما ذكرت، أشعر بغبطة خاصة، لأن بلادنا بتشريع عمل جمعيات المجتمع المدني، قد خطت خطوة هامة على طريق الإصلاح وإرساء دعائم المشاركة الشعبية في صناعة القرار.
alidumaini@yahoo.com
ولأن نظام «الهيئة الوطنية للجمعيات والمؤسسات الأهلية» قيد الدراسة، فإنه ينبغي مراجعة بنوده وصياغاته بشكل متأنٍ وشامل، وأن تعقد حوله الحوارات المستفيضة، داخل أروقة مجلس الشورى وخارجها عبر وسائل الإعلام والمنتديات المختلفة، بهدف الوصول إلى أفضل الصيغ الحضارية وأشدها وضوحاً وتكاملاً من الناحية القانونية، بما يكفل حرية عمل جمعيات المجتمع المدني في فضائها المدني المتعارف عليه في دول العالم الحديثة. وقبل التفصيل في ملاحظاتي على النظام المقترح، أود الإشارة إلى بعض الأفكار المتعلقة بالحيز الذي تشغله جمعيات المجتمع المدني، حيث يقول الكسيس دي توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»: إن الأمريكان من جميع الأعمار، ومن جميع المنازل، والمشارب المختلفة، نجدهم يكوّنون الجمعيات.. جمعيات عملاقة، وأخرى صغيرة جداً. إنهم يكونون جمعيات لوظيفة إقامة الحفلات، ولتأسيس الأديرة، ولبناء الفنادق في المناطق الريفية، ويؤسسون جمعيات للإبداع، ولنشر الكتب... إنهم يشكّلون الجمعيات باستمرار وفي كل مناحي الحياة. وفي كل مجال فأنت تجد على رأس كل مؤسسة ما في فرنسا حضور الدولة، وفي انجلترا حضور رجل الإقطاع، أما في أمريكا فلا تجد إلا الجمعيات.
قيل هذا الكلام في عام 1839م حين زار الفرنسي «توكفيل» أمريكا، وأعجب بتجربتها الديمقراطية، وبشبكة جمعيات المجتمع الكثيفة فيها، والتي تغطي كل مجالات الحياة، وعدّ تلك الجمعيات أساساً ضرورياً لترسيخ قيم التعددية وثقافة الانتخاب التي تعمل على اختيار الأكفأ، وتمارس دورها في الرقابة والمحاسبة، وإعداد الكوادر لتولي مهام العمل الديمقراطي بشكل شامل. ولذلك فإن ثمار تلك التجربة قد انتشرت فيما بعد لتغطي معظم فضاءات الدول المتقدمة في عصرنا الراهن.
أما حول الحيز القانوني والعملي المناط بجمعيات المجتمع المدني، فإن الدكتور كمال عبداللطيف يقول: «إن المجتمع المدني هو كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع العامة، دون تدخل أو توسط من الحكومة، لأن الأمر يتعلق بوضع المجتمع المدني أمام الدولة، لصياغة مواثيق جديدة تحمي المجتمع من هيمنة الدولة، وتتيح للمؤسسات التي ينشئها الأفراد إمكانية إعادة صياغة المجتمع السياسي، انطلاقاً من علاقات الصراع التي تحكم الوجود المجتمعي، وتنعكس بالضرورة على وجودهم السياسي».
ومن أجل ذلك فإن اعتماد هذا النظام الجديد للجمعيات في بلادنا، ينبغي أن ينطلق من فكرة تمايز مجال الدولة عن مجال المجتمع المدني، فهما يتكاملان في أداء أدوارهما المستقلة من أجل تفعيل آليات خدمة المجتمع، ولكن الفضاء المدني هو الذي يرسخ ثقافة الحقوق والشفافية والتعددية، ومبادئ المشاركة في اتخاذ القرار والمساءلة والمحاسبة، وحماية حقوق المجموعات الصغيرة، وبالتالي فإنه ينهض بدوره في حماية الأفراد والجماعات من تجاوزات المؤسسات الرسمية، الضخمة، وعليه فلا ينبغي أن يدمج في ظل المؤسسات الرسمية حتى لا يفقد هويته ووظيفته الأساسية.
ولكننا حين نتذكر حداثة تجربة مجتمعنا في هذا الشأن، فإن مبادرة الدولة بتشريع وقوننة عمل جمعيات المجتمع المدني قد تكون ضرورية لمن يبدأ من الصفر، إلا أننا نتطلع إلى قدرة الجمعيات على الخروج من عباءة الدولة في زمن قريب، حين تنجز التجربة مهام التأسيس وتتجاوز مشاق البدء، وتبني جسور الثقة مع الفضاء الرسمي، خلال الأعوام الأربعة القادمة بإذن الله.
وهنا أعود إلى مسودة النظام المنشورة في جريدة الجزيرة، لتدوين الملاحظات التالية:
1- أرى أنه من الأفضل الإشارة إلى جمعيات المجتمع المدني بدلاً من الجمعيات والمؤسسات الأهلية، لأن التسمية الأولى أصبحت عنواناً من عناوين التحديث والإصلاح في كافة دول العالم، وقد تجذّر هذا العنوان في أذهان المهتمين والمتابعين، كحزمة من القيم والآليات والقوانين لتعزيز الحقوق، ولممارسة الديمقراطية في مستوى البنية التحتية أي في الفضاء الاجتماعي والثقافي.
2- ورد في أكثر من موضع عبارة «بقرار من الوزير»، وحيث إن هذه الهيئة ستكون برئاسة سمو ولي العهد، فكيف تعود الهيئة بهذه الصفة إلى «الوزير»، وآمل أن يكون ذلك مجرد خطأ في الطباعة، لأن الضرورة العملية والقانونية تمنح هذه الهيئة استقلاليتها، كجهة اعتبارية خارج إطار الوزارات أو الوزير.
3- حفل النظام بصياغات فضفاضة للعديد من الأحكام، التي ينتج عنها عقوبات بحل الجمعيات أو تغيير مجالس إدارتها، مثل «ارتكاب خطأ جسيم»، أو «تجاوز العادات المرعية في المملكة»، (فما هو الجسيم، وما هي العادات) وسواها من اشتراطات مفتوحة تسهل لكل من أراد إيقاع العقاب بجماعة معينة، امتطاء صهوة هذه الكلمات والعبارات المطاطة، وكان ينبغي التركيز بدلاً من ذلك على «ضرورة الالتزام بالقوانين المكتوبة» التي أصدرتها الدولة.
4- هناك ضبابية في تعريف جمعيات النفع العام، والجمعيات الأهلية والمؤسسات الأهلية. وإذا كنت أتفق مع الضوابط الموضوعة لأنشطة الجمعيات التي لها علاقة بجمع الأموال والتبرعات، لإنفاقها في وجوه الخير، فإنني لا أرى ضرورة تطبيق تلك الضوابط على الجمعيات المهتمة بالشأن الاجتماعي الثقافي والإبداعي، وأرى أن تترك لها حرية العمل ضمن ضوابط احترام ثوابت الدين القطعية، والوحدة الوطنية، والشرعية السياسية.
5- ورد فيما يخص تشكيل أعضاء الهيئة العليا، مشاركة بعض الوزارات، وقد أغفلت وزارة الثقافة والإعلام، بينما هي الأقرب تماساً مع الأنشطة الثقافية والإبداعية، مما يستدعي حضورها كطرف هنا.
6- لم يشر النظام إلى أبرز مجالات أنشطة جمعيات المجتمع المدني في بلادنا، وهي ما يسمى بالمنتديات الثقافية الخاصة، والديوانيات الثقافية، والصالونات الأدبية، ولابد من إيضاح الصفة التي تحكم هذه الأنشطة.
7- نصت إحدى المواد على عدم جواز مشاركة أي جمعية في ملتقى خارجي، إلا بعد الحصول على موافقة الهيئة العليا، وفي اعتقادي أن في ذلك الشرط شكلاً من أشكال الحجر على أنشطة الجمعيات، بما يتنافى مع مفهوم جمعيات المجتمع المدني، وأرى أن يكتفى بالنص على «ضرورة التقيد بالأنظمة المكتوبة في المملكة وبضرورة احترام الثوابت الثلاثة، لكل من يساهم في تلك الملتقيات».
ويبقى الكثير من الملاحظات، مثل موقع المرأة والشباب، وحقوق الإنسان في هذه الجمعيات، غير أنني، وبالرغم من كل ما ذكرت، أشعر بغبطة خاصة، لأن بلادنا بتشريع عمل جمعيات المجتمع المدني، قد خطت خطوة هامة على طريق الإصلاح وإرساء دعائم المشاركة الشعبية في صناعة القرار.
alidumaini@yahoo.com