محمد الثبيتي
محمد الثبيتي
-A +A
عبد الرحمن العكيمي (تبوك)
يتهجّى الحلم كطفلٍ يفتح عينيه على عالم عريض، فتح (سيد البيد) محمد الثبيتي حواسه اليقظة ليبصر من حوله صحراء عريضة وأشجارا منوعة ومياه الحياة تحيط بالرمال.. أطل وجهه ذات صباحٍ في بلاد بني سعد (جنوبي مدينة الطائف)، حيث تبرعمت ونمت أسماله الصغيرة وراحت تحدق في الأشياء إلى جانب مفرداته الغزيرة التي اكتسبت من الصحراء اشتقاقاتها وجذورها المتفرعة، ومضت تحاول أن تمسك بغيمة مسافرة باتجاه جبال مكة والحجاز.. فعثر على (التضاريس).

كانت طفولته لا تشبه طفولة أبناء جيله؛ ذلك لأنه كان مثقلا بالحلم.. درس الثبيتي -يرحمه الله- حتى نال البكالوريوس في علم الاجتماع، حيث عمل معلما في التعليم العام ثم انتقل للمكتبة العامة.. تدفقت موهبته الشعرية في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات؛ فتفرد (سيد البيد) بلغة مختلفة وبرؤية عميقة تجاه الحياة والكون، ليصبح شاعر المرحلة ورمزا حداثيا مختلفا، وظاهرة غريبة في المشهد الشعري في المملكة والخليج العربي، حيث أجريت دراسات كثيرة حول تجربته الإبداعية، وقدمت رسائل ماجستير ودكتوراه في شعريته العالية..


يكتب الثبيتي قصيدته ثم يمضي، ونمضي معه إلى المعنى يتركنا في مواجهة الدلالات.. يضع المتلقي وجها لوجه مع الاحتمالات؛ احتمالات السواد من جهة واحتمالات المطر والغيم من جهة أخرى، لتجد نفسك موغلا في عوالم شعرية مهولة..

ألف الثبيتي ديوانه الأول تهجيت حلما تهجيت وهما، ثم ديوان عاشقة الزمن الوردي، ثم ديوانه الأهم التضاريس وتلاه بعدها ديوان (موقف الرمال) ثم ديوانه الأخير الأعمال الكاملة..

واجه (سيد البيد) أصوات الغسق عندما كانت الهجمة شرسة على شعر الحداثة، وكان شعر الثبيتي إنسانيا عاليا.. كانت الأصوات تعتلي المنابر وكان كتاب عوض القرني الحداثة في ميزان الإسلام يحمل الإقصاء ويلغي ويحرض تجاه اللغة المبدعة والمبدعين.. والثبيتي أحدهم وأكثرهم أهمية، لم يكترث لأحد، وظل شامخا مثلما يردد في قصيدة موقف الرمال: «يا أيها النخل.. يغتابك الشجر الهزيل.. ويذمك الوتد الذليل.. وتظل تسمو في فضاء الله.. ذا طلع خرافي.. وذا صبر جميل».

تقسو الليالي حالكة السواد على وجه شاعر بدوي مثقل باللغة والتآويل، تقسو الليالي في وجه سيد البيد وهو الذي واجه تلك القسوة بصمت عميق وبابتسامة القناعة والرضا.. ومضى باتجاه القصيدة وحيدا من كل شيء إلا من محبيه وأصدقائه في المملكة وفي الوطن العربي.. مضى يردد أبياته الشعرية تلك التي تحمل الدلالات، وهو الذي كان يدرك تحديات وهموم المرحلة التي يمر بها، وتحمل أبياته دلالات لا تقف عند سقف محدد وهو الذي قال: «عكاظ ليتهم حينما أسرجوا خيلهم.. وتنادوا إلى ساحتي.. أوقدوا نارهم تحت نافذتي.. واستراحوا».. أجدني محاطا بالحزن كلما قرأت بعض قصائد (سيد البيد) المسكونة بالدلالات، أقف حزينا على ما آلت إليه ظروف هذا الشاعر الكبير المحاط بعزة وكرامة البدوي النقي.

واجه هموم المرحلة بابتسامة وإيمان عميق، غير أن رحلة المرض كانت قاسية، والظروف التي تحيط به أقسى من المرض ذاته حتى رحل -يرحمه الله- وهو ما زال يتهجى الحلم العريض، لكن الأحلام الصغيرة كان لها نصيب مؤجل في حياته، وأبسط تلك الأحلام الصغيرة أن يمتلك مسكنا يؤوي به الأبناء بعد الرحيل.. غير أنه رحل وما زال الحلم مختبئا في ركن قصي..

أوقد (سيد البيد) الأسئلة في طرقات الرمل فصار عرافا للرمال وأوقد الأسئلة الخضراء في (عروق الثرى وفي حلوق المصابيح) وظل مخلصا لتجربته الشعرية التي أشرقت منذ صدور ديوانه الأول حتى ولادة ديوان (التضاريس)، ولعل المتتبع للرحلة الإبداعية سيعثر على تنوع كبير سواء على المستوى الأسلوبي أو على مستوى الرؤية؛ فهو أتقن بحرفية الفنان العالي قصيدة التفعيلة فراح يكتبها بغنائية وموسيقى داخلية خاصة.

تقول الناقدة شيمة الشمري في حديث لـ«عكاظ» عن تجربة سيد البيد: «من خلال اقتفائي لأثر الثبيتي الشعري، تبين أنه استقى معظم صوره وأخيلته من رحم الطبيعة وما بها من سماء ونجوم وأشجار وغصون ونباتات، كما أثرت الحياة اليومية التي كان يعايشها الشاعر في أحضان الطبيعة على أخيلته؛ فجاء شعره زاخرا بكثير من ألفاظ الطبيعة كالنور والضياء والبدر والقمر، لما لهذه الأشياء من مكانة رفيعة في حياة العرب». وتضيف: وهو رائد من رواد الحداثة الشعرية السعودية، عاش فيما بين عامي (1366ــ 1430هـ)، وهو متنوع المشارب، مختلف المنهج، مما مكن له تكوين صوت شعري مميز له حضوره في الساحة الشعرية السعودية فالعربية، وكتب لشعره السيرورة لفرادة نصوصه ومفارقتها لغيرها.

تحضر الصحراء بقيمها ومفرداتها الجميلة في شعر (سيد البيد)، وتشكل جزءا مهما في شعره، وتعتبر مكونا رئيسا في عالمه الشعري..

تؤكد شيمة الشمري بقولها: غرست صحراء الجزيرة العربية في أبنائها صفات يندر وجودها عند غيرهم، وتكونت مع الأيام علاقة ود ومحبة بين الصحراء وساكنيها، وظل العربي في كل الأزمنة يدين لصحراء الجزيرة العربية بالحب، ويجد فيها بيته الأول الذي إنْ ضاق به بقيت له في الفؤاد جملة من العواطف الفياضة الرقيقة لعل من أهمها تأكيد الانتماء والأصالة.. وقد ارتبط الثبيتي ببيئته؛ فوصف جبالها وسهولها وسواحلها وشواطئها، وتغنى بمعالمها.. بدافع الهرب من الحياة، والهيام بالطبيعة كما نجده عند أدباء الرومانسية، ويتضح ذلك في أبيات متعددة في شعره ومن ذلك قوله: «للنخل للكثبان للشيح الشمالي.. وللنفحات من ريح الصبا.. للطير في خضر الربى.. للشمس.. للجبل الحجازي.. وللبحر التهامي» وتستطرد: فقد كان حضور الصحراء في ديوان (موقف الرمال) للثبيتي لافتا قويا، كما يلاحظ كثرة ولوج الشعر إليها؛ فرارا من واقعه وشعوره بالاغتراب الذي تعيشه ذاته المرهقة.. مما يشي بحيرة وقلق الشاعر في أخريات حياته؛ كون الديوان آخر ما بثه الشاعر من أشعار، يقول الثبيتي: «سادرانِ على الرمسِ نبكي.. ونندبُ شمساً تهاوت.. وبدراً هلك.. وكلانا تغشته حُمى الرمال.. فلم يدر أي رياحٍ تلقى.. وأيَّ طريقٍ سلك».. إنه شعور النفس الداخلية، شعور القلق والضياع الداخلي الذي ينطلق من خلاله الشاعر إلى تلمس صداه في الطبيعة التي تقف أمامه، حيث تتغشى حمى الرمال الصديقين فيذهب كل واحد منهما اتجاها لا يعرف مداه أو صوابه، وهي في الحقيقة صورة روحه التي افتقدها، وطبيعته التي حولتها المدنية الحديثة إلى ضياع ما بعده ضياع...

إن الصحراء ارتبطت كثيرا بوجدان الشعراء المعاصرين عامة، بمعانيها المختلفة: الجدب والنضوب والتلاشي والزوال والانتهاء.. كما ارتبطت بهم خيرا وعطاء وانطلاقا أيضا، ومتى اقترنت مع الليل عند الثبيتي دلَّت على معانٍ أكثر إيلاما، يأسا وضياعا وحرمانا.. خاصة عند أولئك الشعراء الذين يحملون بين جوانحهم همًّا يعتصرهم، وألما يؤرقهم.

وتظهر لنا معاني اليأس والمعاناة عند الشاعر بحضور الليل بمكوناته (الهلال، النجوم) وممارساته (السرى، الإدلاج) في تلك الصحراء الواسعة؛ فالليل بسواده وطوله وحلكته مع الصحراء باتساعها وامتدادها وجدبها ومُحُولها، ووجودهما معاً يسوق الشاعر إلى صناعة صوره من خلال مخزونه الثقافي والوجداني الحياتي قراءة ومعايشة: «ليتهم حين أسرجوا خيلهم.. وتنادوا إلى ساحتي.. أوقدوا نارهم تحت نافذتي.. واستراحوا.. ليتهم حينما أدلجوا في غياهب ظني.. بلوا حناجرهم بنشيد السرى.. واستبانوا صباحي.. إذ يستبان صباح»..

إن التمني عبر البلاغة العربية الحاضرة في وعي الثبيتي هو تمني حصول المستحيل، وتأتي أداته (ليت) هنا مفعمة بالألم حين تستحضر صورة الراحلين الذين أساءُوا الظن والتقدير، فلم يستمعوا لأمر الثبيتي تماما، كما ضيع أصحاب دريد بن الصمة صرخاته وهو يقول: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى.. فلم يستبينوا الصبح إلا ضحى الغد.. فأي قسوة أشد عذابا من صرخات التحذير تعلن ولا تجاب إلا بمزيد من السير نحو الضلال، وما أشبه الليلة بالبارحة! إنها القرار الخاطئ الذي تتحمله الذات ضلالا في الحياة المدنية وتفاصيلها وسياستها كما كان ضلالا في السابق، لا يجد الشاعر خيرا من الصحراء وخطورتها، أليست هي الوهم الذي يبحث عنه الباحثون المغيبون عن الحقائق ليقود إلى الهلاك، يقول في قصيدته (الوهم): «كنا هناك قوافل في البيد يحدوها القمر.. وتغوص في جوف المدى المجهول والأفق الرحيب.. تستفُّ أكوام الرمال إذا ساءت مواعيد الثمر.. وتعبُّ ألوان السراب إن خانها ماء المطر.. فيهدُّها الليل الرهيب يغتال في أحداقها ضوء النهار.. ويسومها خطط الهزيمة كالموج يفتك بالسفينة ويهز أعماق البحار».

ولم تكن الصحراء، والثبيتي ابنها البار، رمزا للضلال والضياع فقط، لقد حضرت لديه في صورة استعارية خيالية، أما الصحراء في جانبها المضيء فقد كانت للشاعر كما كانت لأجداده الأمل والحياة والسكينة والأغاني العذبة الجميلة، إنها الصحراء التي تحضر عبر بعض مفرداتها مع الشاعر وهو يبحث في معادلها الموضوعي (المدينة) تحضر هنا عبر الأراك الذي لا يرى الشاعر في مدينته سوى صاحبه، الذي كان! صاحبه الذي يستحضره عبر روعة شجر الأراك: «يا طاعنًا في النأي اسلم، إذا عثرت خُطاك واسلم، إذا عثرت عيون الكاتبين على خَطاك وما خَطاك؟! أني أحدق في المدينة كي أراك.. فلا أراك إلا شميما من أراك» إنه (الأراك) الصاحب والحديقة المحبوبة التي يراها الشاعر عبر المدينة لونا من ألوان الصحراء الجميلة، وهو ما يؤكد للقارئ فحوى الديوان حيث الاغتراب والمفارقة، وحيث الرحيل والترك، والفرار من المدينة بأوجاعها، وحيث اللغة الموحية مع الجناس الموظف توظيفا راقيا صعد بفنية النص، وحيث الطبيعة تتعانق والذات المنطلقة نحو البيداء من مأزق المدينة، وتظهر معه جمالية السبك الشعري وفق هذا التعانق لوظائف الجناس الجمالية التي تمليها دفقاته اللغوية الرامزة.

تحضر الأنثى في عوالم محمد الثبيتي ملهمة، لكنه يؤسس لها عوالم أخرى يقول: «يا امرأة.. بيننا قدح صامت.. كيف أعبر هذا الفضاء السحيق لكي أملأه!.. يا امرأة بيننا برزخ من جنون.. وسهد تشرب ماء العيون.. وحزن يسد فضاء الرئة.. يا امرأة.. بيننا عاذل لا يرى.. وعين مجافية للكرى.. وليل قناديله مطفأة.. يا امرأة». تقول الشمري: أما عن الأنثى/‏ الأرض هي المعنية بخطاب الشاعر مثلما في قصيدته (يا امرأة)، كما تظهر في قصيدة (أغنية): «أأنت هنا قاب قوسين من أرقى العذب كي لا أنام.. أأنت هنا يا التي أسكنتني حدائقها وحبتني شقائقها وسقتني رحيق الغمام» ففي هذه اللقطة التصويرية تتضاعف لغة الخطاب الشعري، وتتكثف مفرداتها في تضاعيف الصورة الممتدة عبر المخزون الإنساني، التي تتشكل وفق قرائن الأنوثة المجازية والحقيقة الأرض/‏ المرأة، لترتسم تداعياتها في الذاكرة المتلقية رموزاً للخصوبة والسكنى والسكون، لتكشف عن صلات القربى بين الأنوثة/‏ المرأة والذات الشاعرة من جانب، وبين النموذج المقابل/‏ الأرض الصحراء في احتضانها لتكوينه وتَشَكُّلِ ذاتيته المبدعة من جانب آخر.

ولا غرو فهي المرأة الروح التي اعتاد أن تكون له الوطن: «ألفيتها وطني وبهجة صوتها شجني ومجد حضورها الضافي منادي وريقها الصافي مدامي».

هو شاعر لا يحفل بالجوائز وهي التي تفتش عنه، حصل على عدد من الجوائز في مسيرته الشعرية؛ كانت الجائزة الأولى في مسابقة الشعر التي نظمها مكتب رعاية الشباب في مكة عام 1397هـ عن قصيدة (من وحي العاشر من رمضان). ثم حصل على جائزة نادي جدة الثقافي عام 1991 عن ديوان (التضاريس)، كما فاز بجائزة أفضل قصيدة في الدورة السابعة لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري عام 2000 عن قصيدة (موقف الرمال.. موقف الجناس) ثم حصل على جائزة ولقب (شاعر عكاظ) عام 2007 في حفل تدشين فعاليات مهرجان (سوق عكاظ) التاريخي الأول.

القصيدة

إمَّا قَبَضْتَ عَلَى جَمْرِهَا

وأذَبْتَ الجَوارحَ فِي خَمرِهَا

فَهْيَ شَهدٌ علَى حدِّ مُوسْ

فَحَتَّامَ أَنْتَ خلالَ الليَالِي تَجُوسْ

وعلامَ تَذودُ الكَرَى

وتُقِيمُ الطُّقوسْ

وأَلْفٌ مِنَ الفَاتِنَاتِ الأنِيقَاتِ يَفْرَحْنَ

مَا بينَهُنَّ عرُوسْ

ولا أنتَ أوتيتَ حكمة لُقْمَا

ولا هُنَّ أوتِينَ فِتنَةَ يُوسْ

كيفَ تأتِي القَصِيدةُ

ما بينَ ليلٍ كئيبٍ ويومٍ عبوسْ؟

وماذَا تقولُ القصيدةُ بعدَ غروبِ المُنَى

واغتِرَابِ الشُّمُوسْ

فَعَلَى الطُّرَقَاتِ تُدَارُ المنايَا

وفِي الشُّرفَاتِ تدورُ الكؤُوسْ

والقَصَائدُ كالنَّاسِ تَحْيا

لهَا يومُ سعدٍ

لها يومُ بُوسْ.القصيدة

شعر:محمد الثبيتي