اختلط على عدنان إبراهيم الأمر، فحسب أن يوسف القرضاوي اشترك مع محمد الغزالي في المناظرة التي عقدت في معرض القاهرة الدولي للكتاب بعنوان (الدولة الدينية والدولة المدنية)، في 7 يناير 1992؛ فالمشاركان من الجانب الإسلامي مع الغزالي كانا محمد عمارة ومأمون الهضيبي، وشارك من الجانب العلماني فرج فودة ومحمد أحمد خلف الله. القرضاوي والغزالي ناظرا فؤاد زكريا- وليس فرج فودة - في دار الحكمة بنقابة الأطباء في صيف عام 1986. ولقد أصدر القرضاوي فيها كتابا اسمه (الإسلام والعلمانية وجها لوجه: رد علمي على د. فؤاد زكريا وجماعة العلمانيين)، والقارئ الذي كان متابعا لخبر المناظرة في الصحف، كان يتوقع أن الكتاب من خلال عنوانه، سيتضمن تدوينا لما قاله المتناظرون الثلاثة، وللنقاش الذي تلا المناظرة. ويفاجأ الذي حضر المناظرة والذي أتيح له مشاهدتها على شريط فيديو بأن القرضاوي لم يكن أمينا في حديثه عنها. ويندهش من ادعائه أنه قد انتصر فيها، ومن تعليله لسبب انتصاره المزعوم، الذي رأى أنه لم يكن لضعف فؤاد زكريا ولا لقوته هو، بل لضعف الباطل الذي نصب فؤاد زكريا نفسه للمحاماة عنه، وقوة الحق الذي كرمه الله هو بالدفاع عنه! وتعليله هذا -بصرف النظر عن لا علميته- هو تعليل محرج له وللإسلاميين. فبما أن ما جرى في تلك المناظرة عكس ما أخبر عنه، هل سيتمسك والإسلاميون بهذا التعليل ويقولون به؟!
في لقاء أجراه إيهاب الملاح مع فؤاد زكريا بـ(جريدة الشرق الأوسط) في 8 فبراير عام 2010 قال له إن المناظرة لم تسجل إلا من طرف واحد، وسأله: لماذا لا تقوم بتسجيلها وتدوينها حسب معطياتها ونتائجها من وجهة نظرك؟ أجاب فؤاد زكريا: بأنه لم يستطع القيام بتدوين هذه المناظرة كما جرت أحداثها؛ لأن التسجيل الذي يحتفظ به، استعاره أحد الأشخاص منه ولم يقم بإعادته إليه ثانية، فلم يتمكن -بالتالي- من تدوينها وكتابتها، وأنه حاول بعد ذلك أن يحصل على نسخة من هذا التسجيل لكنه لم ينجح في ذلك. ثم علق على كتاب القرضاوي بالتوضيح التالي: «أنا أعتقد أن ما كتبه الشيخ يوسف القرضاوي عن هذه المناظرة كان به تشويه كبير لما حدث فيها، لكي يظهر نفسه ويعلن أنه هو المنتصر في هذه المناظرة، ويظهرني أني كنت متهافتا. وما حدث في تلك المناظرة، كان عكس ما تم الترويج له تماما. أنا أعتقد أنني استطعت الدفاع عن العلمانية والتنوير في تلك المناظرة، بطريقة سببت الحرج الشديد للشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي».
كنت محظوظا فلقد شاهدت تلك المناظرة بعد حصولها بوقت وجيز على شريط فيديو مع بعض الزملاء في حصة معملية حين كنت طالبا في كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأشهد بأن ما قاله القرضاوي محض تلفيق، فقد بز فؤاد زكريا القرضاوي والغزالي في المناظرة، وهذا ما جعله يؤلف كتابه المذكور ليزيف الحقيقة، وجعل الإسلاميين يحتجزون شريط الفيديو رهينة عندهم فأخفوه عن أعين الناس إلى يومنا هذا. راح القرضاوي في كتابه المذكور يناقش بعض ما جاء في كتاب فؤاد زكريا: (الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة). ومع أن كتابه مكرس للرد على هذا الكتاب إلا أنه طوال كتابه لم يذكر اسمه سوى مرتين وعلى نحو مموّه واضح، فمرة ذكر أن فؤاد زكريا قال في ختام كتابه (الحقيقة والوهم) ومرة قال يقول فؤاد زكريا في مقدمة كتابه عن الحركة الإسلامية في حين أن الكتب التي كان يستشهد بها ليعضد بها حجته، كان يذكر عناوينها كاملة، ويذكر رقم صفحة الكتاب الذي يحيل إليه.
ولعلكم تعرفون سبب محاولة حجبه لاسم كتاب فؤاد زكريا موضع الرد. إنه يريد أن يعمّي عليه؛ لأنه كان مرعوبا منه، إذ يخشى على قارئه الصحوي أن يدفعه الفضول إلى قراءته مباشرة. وقد يحدث -كما يتصور- ما لا يحمد عقباه، فيتأثر به. أما جماعة العلمانيين الذين ألحقهم بفؤاد زكريا في عنوان الكتاب فما قاله عنهم مجرد تنديد في ثلاثة أسطر بحسين أحمد أمين ومناقشة سطرين مأخوذين من كتاب فرج فودة (قبل السقوط)، كان يلهج فيها بغرام مشبوب بمصر. وأما مضمون المناظرة، فلقد تحدث عنه -كما مر بنا- في المقدمة بطريقة مغالطة ومغلوطة، وفي متن الكتاب أورد حجتين لفؤاد زكريا في تأييد العلمانية، قال عن الأولى أنه رد عليها بكذا وكذا، وقال عن الثانية أنه لم يرد عليها لضيق الوقت؛ ولأنها شبهة أضعف من أن يرد عليها. ومع هذا قام بالرد عليها في كتابه!
كان نقاشه لكتاب فؤاد زكريا دون المستوى ومتكلفا، فعلى سبيل المثال في هامش إحدى صفحات كتابه علق على كلام لفؤاد زكريا بالقول: «أخطأ الدكتور، حين جعل التشريع في عصر الصحابة إلهيا مثله في عصر الرسول. والصحابة إنما هم مجتهدون يخطئون ويصيبون، وإن كان لاجتهاداتهم قيمة أكثر من غيرهم. أما إجماعهم فهو حجة بلا نزاع». وهو هنا يتكلف التخطئ، ففؤاد زكريا لم يخطئ في ما قاله، فهو قد قال: «ففي عصر الرسول والصحابة فقط، كان التشريع إلهيا» فهو يتحدث عن عصر واحد لا عصرين، هو عصر الرسول والصحابة حينما كان الرسول حيا وكان الوحي يتنزل عليه. ولم يقل في عصر الرسول وعصر الصحابة. ولا أظن أن القرضاوي يجهل دقائق الأسلوب العربي. وكان نقاشه دون المستوى حينما فهم من تقديم فؤاد زكريا منطق الإسلاميين بأقوى صورة ممكنة ليناقشه، بأنه تسليم منه بصحة دعواهم!
إن من مزايا فؤاد زكريا -ومزاياه كثيرة- أنه محاجج موضوعي. فلموضوعيته كان يقدم أقوال الإسلامين في أبرز نقاط قوتها، ثم يناقشها على هذا المستوى لكي لا يكون انتقائيا متحاملا، يعمد إلى مناقشتها من خلال نقاط ضعفها أو من خلال عرض مبستر ومخل ومشوه لها.
يدعي عدنان إبراهيم أنه كان مستاء منذ البداية من الطريقة التي عومل فيها نصر حامد أبو زيد إلخ...
ولتسمحوا لي أن أشكك في ما قاله، لأن الإسلاميين - في ما يعرف بقضية أبو زيد - كان جميعهم ساخطين وناقمين عليه.
ويدعي بصيغة الجمع -وهو يتحدث عن اغتيال فرج فودة- بأنه لم يرضنا على الإطلاق وأسخطنا قتل الرجل بتلك الطريقة البشعة الجبانة الغادرة. وهي القضية التي برز فيها موقف العلامة محمد الغزالي وأسيء فهمه، حيث أراد بعض الناس أن يؤكدوا أنه برر قتله، حينما قال: إن كل ما فعله الشباب المتهور أنهم افتأتوا على السلطة. بعد ذلك سمعت شهادة من الدكتور طه جابر العلواني قال فيها: «إنه سمع من الشيخ الغزالي -وقد أكدها بالحلف- إنما قال هذا ليدرأ عنهم حكم الإعدام، ولكنه لا يرضي عن فعلهم ولا يبرره وهو إن -شاء الله- صادق».
هذا الادعاء ليس صحيحا، فالإسلاميون كانوا فرحين باغتياله. وعندما نرجع لتصريحات محمد الغزالي عن عملية اغتيال فرج فودة، نجد أنه كان راضيا عنها. ورضاه عن اغتياله يعود إلى سببين: الأول، سبب عام يشترك فيه مع بقية الإسلاميين، وهو أن فرج فودة هز تقديم الإسلاميين تاريخ الدولة الإسلامية على نحو مثالي، وأنه أحرجهم في مناقشاته لأقوالهم الأساسية والتفصيلية. وسبب خاص يتعلق به شخصيا، فلقد أحنقه أن يتفوق بالمناظرة عليه طارئ على الإسلاميات، كفرج فودة، وهو الذي كان يؤلف كتبا في الإسلاميات منذ أواخر أربعينات القرن الماضي. وما رواه العلواني ليس لزاما علينا أن نصدق الغزالي فيه لأمرين هما: أن الغزالي كان أشد كاتب ومثقف إسلامي في نقده للإسلاميين المتزمتين المغالين، وكان يسخر منهم ويتهكم عليهم ويبغضهم بغضا شديدا. إن من المعروف عنه أنه يحذف ويزيد ويغير في مؤلفاته، تبعا لتغير مواقفه ومزاجه من دون أن يشعر القارئ بذلك. لذا على القارئ الذي يريد أن يرصد مواقفه بدقة أن يعود إلى الطبعة الأولى من بعض كتبه ويعتمدها.
يصنف الغزالي والقرضاوي على أنهما يمثلان الخط المستنير والمعتدل في الاتجاه الإسلامي. وينظر الإسلاميون إليهما بوصفهما مفكرين متمكنين من الثقافة المعاصرة، في شقها العربي والغربي. وفي الواقع أنهما مستنيران ومعتدلان بالمقارنة مع المتزمتين الدينيين وغلاة الإسلاميين، لكنهما ليسا مستنيرين ومعتدلين إذا أخرجناهما من هذا الحيز الضيق. فموقفهما من التحديث الفكري (ومن ضمنه التحديث الفكري الإسلامي) ومن العلمانية والتيارات السياسية والفكرية العلمانية ومن الغرب والثقافة الغربية، موقف متعصب ومتطرف. كذلك هما على غير ما يعتقد الإسلاميون، فهما ضعيفان في الثقافة المعاصرة وغير ملمين بها جيدا.
إن القرضاوي في كتابه المذكور وضع نفسه في مرتبة تعلو على مرتبة فؤاد زكريا في العلم والثقافة وفي الحجاج العلمي والعقلي والثقافي. وهذه جرأة معهودة من الإسلاميين يشترك فيها أغرارهم وكهولهم، هزلاهم وذوو المستوى الجيد منهم، المتعصبون والمعتدلون نسبيا فيهم. ربما لاعتقادهم بتعليل القرضاوي الذي قال به، حين زعم لنفسه القوة ورمى فؤاد زكريا بالضعف. ويعلم الله أن هذا لبهتان عظيم. فهو ليس من أكفائه ولا يجري معه في عِنان.
اشترك فؤاد زكريا مع فرج فودة في مناظرة كان عنوانها (مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية) عقدت في نادي نقابة المهندسين بالإسكندرية في 27 يناير 1992، وكان يمثل الجانب الإسلامي فيها محمد عمارة ومحمد سليم العوا. وكانت هذه المناظرة ثالث مناظرة لفؤاد زكريا في مواجهة الإسلاميين. وكانت الثانية أقامها بينه وبين الإخواني المستشار سالم البهنساوي الاتحاد الوطني لطلبة الكويت في الثامن من أبريل عام 1987. وقد دون الأخير-على غير ما فعل القرضاوي- المناظرة وكل ما يتعلق بها في كتاب عنوانه (الإسلام لا العلمانية: مناظرة مع فؤاد زكريا) دونها بأمانة.
ذكرت جريدة (الوطن) الكويتية في خاتمة تغطيتها للمناظرة، المنشورة في 10/4/1987 أن أحد الحضور طالب بإهدار دم د. فؤاد زكريا فصفق البعض لدعوته. ونفي سالم البهنساوي هذه المعلومة، وأحال إلى نص التعقيب المثبت في كتابه. ونص التعقيب الذي أحال إليه هو قول صاحبه عبدالله محمود محمود في مقدمة كلامه: «الاقتراح الأول الذي أتقدم به، إذا كان يراد أن يعقد مثل هذه الندوة في المستقبل، فمن الأجدر أن يطلق عليها الإسلام والكفر لإن العلمانية بحد ذاتها نظام كفر مناقض مناقضة تامة للإسلام إلخ...». رد عليه فؤاد زكريا بجواب باللهجة المصرية: «الأخ الكريم قال إن المحاضرة يجب أن يكون عنوانها: الإسلام والكفر. يعني ضمنا أن الجماعة اللي زي حالاتنا دول كفار». ثم أحال فؤاد زكريا إلى أول كلامه الذي قال فيه إن الإسلام في هذه المناظرة ليس طرفا والعلمانية في طرف آخر. فالإسلام ليس موضوع النقاش فيها، وإنما النقاش حول الصحوة الاسلامية. كتب المحسوب على النضالية العلمانية الليبرالية، في تسعينات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، الأكاديمي الكويتي أحمد البغدادي تعقيبا على المناظرة نشر في مجلة «المجتمع» الكويتية يوم الثلاثاء 14/4/1987، وكان عنوانه تراجع «العلمانية»، هاجم العلمانية وهاجم فكر وتهجم على فؤاد زكريا فيه. وانتهى إلى خلاصتين بخصوص فؤاد زكريا عد كل منهما جريمة. الجريمة الأولى: «جريمة ترتكب بحق الطلبة الذين يقوم بتدريسهم وهم على ضحالة من العلم، لا يخفى أمرها على العالمين بأحوال الجامعة». الجريمة الأخرى: «جريمة ترتكب بحق القارئ لـ «عالم المعرفة» والتي يستشار الدكتور فيما ينشر من معلومات إذ أنه حتما سيدس السم في العسل لذلك ليس غريبا ألا نجد كتابا واحدا لأحد علماء المسلمين عدا الدكتور محمد عمارة ومحمد خلف الله ذوي الاتجاه المماثل، وهما ليسا من المحسوبين على علماء المسلمين بأي حال من الأحول». ثمة هوامش معلوماتية وإيضاحية كان يجب وضعها هنا، تشرح خبايا هذا التعليق ومغالطاته لكن المجال لا يتسع لذكرها.
أتذكر أن جريدة «الحياة» ضمن حملة إعلامية محلية وعربية ودولية من أجل إطلاق سراح أحمد البغدادي من السجن، إثر اتهام محكمة كويتية له بالإساءة إلى مقام الرسول، استطلعت آراء مثقفين، كان من بينهم فؤاد زكريا وكان اللافت في هذا الاستطلاع، أن فؤاد زكريا أظهر فتورا في تأييده. هذا الفتور سببه ذلك التعقيب العدواني الذي عرضنا له في ما سبق وربما كان هذا التعقيب جزءا من حرب كان يشنها على فؤاد زكريا مع الأصوليين الإسلاميين في الكويت، لإعفائه من منصبه في جامعة الكويت وفي المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت.
خاض فهمي هويدي ابتداء من سنة 1986، معركة مع العلمانيين المشاركين في هذا السجال، المشاركين فيه سواء في كتب أو في مقالات أو في مناظرات، أو في ندوة، كما في ندوة «التطرف السياسي الديني» المنشورة في مجلة«فكر» في العدد الثامن، شهر سبتمبر سنة 1985. وجمعهم في حزمة واحدة، أسماها بتنظيم التطرف العلماني واستمرت معركته معهم سنوات طويلة. هويدي خاضها من موقعه ككاتب صحفي مقروء عند الإسلاميين وعند العلمانيين وعند العاديين، تنشر مقالته في «الأهرام» في أكثر من صحيفة عربية. وقد جمع مقالاته هذه في كتابين هما: تزييف الوعي«1987»، المفترون، خطاب التطرف العلماني في الميزان «1996».
كان فهمي هويدي في تلك الآونة ألمع محام عن الإسلاميين وهي الآونة التي اشتد فيها عنف حركتهم، وكان يعتذر لعنفهم، بأن من يصنعونه هم صغار في السن. وفي مماحكة مكشوفة في معركته مع العلمانيين المشاركين في السجال مع الإسلاميين ادعى أن بين العلمانيين تنظيمات مماثلة لتنظيمات متطرفة مثل التكفير والهجرة الموجودة عند الإسلاميين. واعتذر للمتطرفين الإسلاميين بأنهم شباب مندفع سلك طريقه على سبيل الخطأ، وأدان التنظيم العلماني الذي هو اختلقه بأن أصحابه شيوخ مجربون -بعضهم محترفون- اتخذوا مواقعهم عمدا ومع سبق الإصرار والترصد. وكان القرضاوي في تلك الآونة ينوع على مرافعة هويدي الاعتذارية، ففي كتابه المذكور رد على فؤاد زكريا بأن نقص الوعي، وتغييب العقل، وتغليب الطابع الشكلي في فهم الدين، لا يمثل إلا شريحة محدودة من شرائح الصحوة، وأن تشدادتهم وتطرفاتهم هي في أمور هينة. وعزا سببها إلى طبيعة الشباب المتحمس من جهة، وتطرف العلمانيين من جهة أخرى!
قد يكون سالم البهنساوي في نفيه للمعلومة التي مفادها أن أحدا من الحضور طالب بإهدار دم فؤاد زكريا محقا، فلربما كانت هذه المعلومة تزيدا من مراسل جريدة الوطن، لكن الذي نعلمه رغم تطمينات هويدي والقرضاوي وبرغم نفي البهنساوي إنه عقب المناظرة التي اشترك فيها فؤاد زكريا مع فرج فودة في نادي نقابة المهندسين بالإسكندرية، بما يزيد عن خمسة أشهر اغتيل فرج فودة بعد فتوى أهدرت دمه. وانسل فؤاد زكريا من ساحة محاورة الإسلاميين المخيفة في المنتصف الأخير من ثمانينات القرن الماضي ومطلع تسعيناته التي أريق على جوانبها الدم.
استرسلت في الحديث عن السجال العلماني الإسلامي، لأمرين: أولهما، لأبين أن عدنان إبراهيم دلس في بعض وقائعه لــ «صحبة أيدولوجية» ولـ «رفاقية» حزبية، مع أنه زعم للزميل أحمد العرفج أنه انفصل عن الحركة الإسلامية وهو في سن الواحدة والعشرين. وثانيهما، لأبين أن الإسلاميين -وعدنان إبراهيم أحدهم- غير مؤتمنين على الحقيقة وعلى التاريخ. فلننتبه ونتنبّه فندقق في ما يقولون ونتثبّت مما يروون.
*باحث وكاتب سعودي
في لقاء أجراه إيهاب الملاح مع فؤاد زكريا بـ(جريدة الشرق الأوسط) في 8 فبراير عام 2010 قال له إن المناظرة لم تسجل إلا من طرف واحد، وسأله: لماذا لا تقوم بتسجيلها وتدوينها حسب معطياتها ونتائجها من وجهة نظرك؟ أجاب فؤاد زكريا: بأنه لم يستطع القيام بتدوين هذه المناظرة كما جرت أحداثها؛ لأن التسجيل الذي يحتفظ به، استعاره أحد الأشخاص منه ولم يقم بإعادته إليه ثانية، فلم يتمكن -بالتالي- من تدوينها وكتابتها، وأنه حاول بعد ذلك أن يحصل على نسخة من هذا التسجيل لكنه لم ينجح في ذلك. ثم علق على كتاب القرضاوي بالتوضيح التالي: «أنا أعتقد أن ما كتبه الشيخ يوسف القرضاوي عن هذه المناظرة كان به تشويه كبير لما حدث فيها، لكي يظهر نفسه ويعلن أنه هو المنتصر في هذه المناظرة، ويظهرني أني كنت متهافتا. وما حدث في تلك المناظرة، كان عكس ما تم الترويج له تماما. أنا أعتقد أنني استطعت الدفاع عن العلمانية والتنوير في تلك المناظرة، بطريقة سببت الحرج الشديد للشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي».
كنت محظوظا فلقد شاهدت تلك المناظرة بعد حصولها بوقت وجيز على شريط فيديو مع بعض الزملاء في حصة معملية حين كنت طالبا في كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأشهد بأن ما قاله القرضاوي محض تلفيق، فقد بز فؤاد زكريا القرضاوي والغزالي في المناظرة، وهذا ما جعله يؤلف كتابه المذكور ليزيف الحقيقة، وجعل الإسلاميين يحتجزون شريط الفيديو رهينة عندهم فأخفوه عن أعين الناس إلى يومنا هذا. راح القرضاوي في كتابه المذكور يناقش بعض ما جاء في كتاب فؤاد زكريا: (الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة). ومع أن كتابه مكرس للرد على هذا الكتاب إلا أنه طوال كتابه لم يذكر اسمه سوى مرتين وعلى نحو مموّه واضح، فمرة ذكر أن فؤاد زكريا قال في ختام كتابه (الحقيقة والوهم) ومرة قال يقول فؤاد زكريا في مقدمة كتابه عن الحركة الإسلامية في حين أن الكتب التي كان يستشهد بها ليعضد بها حجته، كان يذكر عناوينها كاملة، ويذكر رقم صفحة الكتاب الذي يحيل إليه.
ولعلكم تعرفون سبب محاولة حجبه لاسم كتاب فؤاد زكريا موضع الرد. إنه يريد أن يعمّي عليه؛ لأنه كان مرعوبا منه، إذ يخشى على قارئه الصحوي أن يدفعه الفضول إلى قراءته مباشرة. وقد يحدث -كما يتصور- ما لا يحمد عقباه، فيتأثر به. أما جماعة العلمانيين الذين ألحقهم بفؤاد زكريا في عنوان الكتاب فما قاله عنهم مجرد تنديد في ثلاثة أسطر بحسين أحمد أمين ومناقشة سطرين مأخوذين من كتاب فرج فودة (قبل السقوط)، كان يلهج فيها بغرام مشبوب بمصر. وأما مضمون المناظرة، فلقد تحدث عنه -كما مر بنا- في المقدمة بطريقة مغالطة ومغلوطة، وفي متن الكتاب أورد حجتين لفؤاد زكريا في تأييد العلمانية، قال عن الأولى أنه رد عليها بكذا وكذا، وقال عن الثانية أنه لم يرد عليها لضيق الوقت؛ ولأنها شبهة أضعف من أن يرد عليها. ومع هذا قام بالرد عليها في كتابه!
كان نقاشه لكتاب فؤاد زكريا دون المستوى ومتكلفا، فعلى سبيل المثال في هامش إحدى صفحات كتابه علق على كلام لفؤاد زكريا بالقول: «أخطأ الدكتور، حين جعل التشريع في عصر الصحابة إلهيا مثله في عصر الرسول. والصحابة إنما هم مجتهدون يخطئون ويصيبون، وإن كان لاجتهاداتهم قيمة أكثر من غيرهم. أما إجماعهم فهو حجة بلا نزاع». وهو هنا يتكلف التخطئ، ففؤاد زكريا لم يخطئ في ما قاله، فهو قد قال: «ففي عصر الرسول والصحابة فقط، كان التشريع إلهيا» فهو يتحدث عن عصر واحد لا عصرين، هو عصر الرسول والصحابة حينما كان الرسول حيا وكان الوحي يتنزل عليه. ولم يقل في عصر الرسول وعصر الصحابة. ولا أظن أن القرضاوي يجهل دقائق الأسلوب العربي. وكان نقاشه دون المستوى حينما فهم من تقديم فؤاد زكريا منطق الإسلاميين بأقوى صورة ممكنة ليناقشه، بأنه تسليم منه بصحة دعواهم!
إن من مزايا فؤاد زكريا -ومزاياه كثيرة- أنه محاجج موضوعي. فلموضوعيته كان يقدم أقوال الإسلامين في أبرز نقاط قوتها، ثم يناقشها على هذا المستوى لكي لا يكون انتقائيا متحاملا، يعمد إلى مناقشتها من خلال نقاط ضعفها أو من خلال عرض مبستر ومخل ومشوه لها.
يدعي عدنان إبراهيم أنه كان مستاء منذ البداية من الطريقة التي عومل فيها نصر حامد أبو زيد إلخ...
ولتسمحوا لي أن أشكك في ما قاله، لأن الإسلاميين - في ما يعرف بقضية أبو زيد - كان جميعهم ساخطين وناقمين عليه.
ويدعي بصيغة الجمع -وهو يتحدث عن اغتيال فرج فودة- بأنه لم يرضنا على الإطلاق وأسخطنا قتل الرجل بتلك الطريقة البشعة الجبانة الغادرة. وهي القضية التي برز فيها موقف العلامة محمد الغزالي وأسيء فهمه، حيث أراد بعض الناس أن يؤكدوا أنه برر قتله، حينما قال: إن كل ما فعله الشباب المتهور أنهم افتأتوا على السلطة. بعد ذلك سمعت شهادة من الدكتور طه جابر العلواني قال فيها: «إنه سمع من الشيخ الغزالي -وقد أكدها بالحلف- إنما قال هذا ليدرأ عنهم حكم الإعدام، ولكنه لا يرضي عن فعلهم ولا يبرره وهو إن -شاء الله- صادق».
هذا الادعاء ليس صحيحا، فالإسلاميون كانوا فرحين باغتياله. وعندما نرجع لتصريحات محمد الغزالي عن عملية اغتيال فرج فودة، نجد أنه كان راضيا عنها. ورضاه عن اغتياله يعود إلى سببين: الأول، سبب عام يشترك فيه مع بقية الإسلاميين، وهو أن فرج فودة هز تقديم الإسلاميين تاريخ الدولة الإسلامية على نحو مثالي، وأنه أحرجهم في مناقشاته لأقوالهم الأساسية والتفصيلية. وسبب خاص يتعلق به شخصيا، فلقد أحنقه أن يتفوق بالمناظرة عليه طارئ على الإسلاميات، كفرج فودة، وهو الذي كان يؤلف كتبا في الإسلاميات منذ أواخر أربعينات القرن الماضي. وما رواه العلواني ليس لزاما علينا أن نصدق الغزالي فيه لأمرين هما: أن الغزالي كان أشد كاتب ومثقف إسلامي في نقده للإسلاميين المتزمتين المغالين، وكان يسخر منهم ويتهكم عليهم ويبغضهم بغضا شديدا. إن من المعروف عنه أنه يحذف ويزيد ويغير في مؤلفاته، تبعا لتغير مواقفه ومزاجه من دون أن يشعر القارئ بذلك. لذا على القارئ الذي يريد أن يرصد مواقفه بدقة أن يعود إلى الطبعة الأولى من بعض كتبه ويعتمدها.
يصنف الغزالي والقرضاوي على أنهما يمثلان الخط المستنير والمعتدل في الاتجاه الإسلامي. وينظر الإسلاميون إليهما بوصفهما مفكرين متمكنين من الثقافة المعاصرة، في شقها العربي والغربي. وفي الواقع أنهما مستنيران ومعتدلان بالمقارنة مع المتزمتين الدينيين وغلاة الإسلاميين، لكنهما ليسا مستنيرين ومعتدلين إذا أخرجناهما من هذا الحيز الضيق. فموقفهما من التحديث الفكري (ومن ضمنه التحديث الفكري الإسلامي) ومن العلمانية والتيارات السياسية والفكرية العلمانية ومن الغرب والثقافة الغربية، موقف متعصب ومتطرف. كذلك هما على غير ما يعتقد الإسلاميون، فهما ضعيفان في الثقافة المعاصرة وغير ملمين بها جيدا.
إن القرضاوي في كتابه المذكور وضع نفسه في مرتبة تعلو على مرتبة فؤاد زكريا في العلم والثقافة وفي الحجاج العلمي والعقلي والثقافي. وهذه جرأة معهودة من الإسلاميين يشترك فيها أغرارهم وكهولهم، هزلاهم وذوو المستوى الجيد منهم، المتعصبون والمعتدلون نسبيا فيهم. ربما لاعتقادهم بتعليل القرضاوي الذي قال به، حين زعم لنفسه القوة ورمى فؤاد زكريا بالضعف. ويعلم الله أن هذا لبهتان عظيم. فهو ليس من أكفائه ولا يجري معه في عِنان.
اشترك فؤاد زكريا مع فرج فودة في مناظرة كان عنوانها (مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية) عقدت في نادي نقابة المهندسين بالإسكندرية في 27 يناير 1992، وكان يمثل الجانب الإسلامي فيها محمد عمارة ومحمد سليم العوا. وكانت هذه المناظرة ثالث مناظرة لفؤاد زكريا في مواجهة الإسلاميين. وكانت الثانية أقامها بينه وبين الإخواني المستشار سالم البهنساوي الاتحاد الوطني لطلبة الكويت في الثامن من أبريل عام 1987. وقد دون الأخير-على غير ما فعل القرضاوي- المناظرة وكل ما يتعلق بها في كتاب عنوانه (الإسلام لا العلمانية: مناظرة مع فؤاد زكريا) دونها بأمانة.
ذكرت جريدة (الوطن) الكويتية في خاتمة تغطيتها للمناظرة، المنشورة في 10/4/1987 أن أحد الحضور طالب بإهدار دم د. فؤاد زكريا فصفق البعض لدعوته. ونفي سالم البهنساوي هذه المعلومة، وأحال إلى نص التعقيب المثبت في كتابه. ونص التعقيب الذي أحال إليه هو قول صاحبه عبدالله محمود محمود في مقدمة كلامه: «الاقتراح الأول الذي أتقدم به، إذا كان يراد أن يعقد مثل هذه الندوة في المستقبل، فمن الأجدر أن يطلق عليها الإسلام والكفر لإن العلمانية بحد ذاتها نظام كفر مناقض مناقضة تامة للإسلام إلخ...». رد عليه فؤاد زكريا بجواب باللهجة المصرية: «الأخ الكريم قال إن المحاضرة يجب أن يكون عنوانها: الإسلام والكفر. يعني ضمنا أن الجماعة اللي زي حالاتنا دول كفار». ثم أحال فؤاد زكريا إلى أول كلامه الذي قال فيه إن الإسلام في هذه المناظرة ليس طرفا والعلمانية في طرف آخر. فالإسلام ليس موضوع النقاش فيها، وإنما النقاش حول الصحوة الاسلامية. كتب المحسوب على النضالية العلمانية الليبرالية، في تسعينات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، الأكاديمي الكويتي أحمد البغدادي تعقيبا على المناظرة نشر في مجلة «المجتمع» الكويتية يوم الثلاثاء 14/4/1987، وكان عنوانه تراجع «العلمانية»، هاجم العلمانية وهاجم فكر وتهجم على فؤاد زكريا فيه. وانتهى إلى خلاصتين بخصوص فؤاد زكريا عد كل منهما جريمة. الجريمة الأولى: «جريمة ترتكب بحق الطلبة الذين يقوم بتدريسهم وهم على ضحالة من العلم، لا يخفى أمرها على العالمين بأحوال الجامعة». الجريمة الأخرى: «جريمة ترتكب بحق القارئ لـ «عالم المعرفة» والتي يستشار الدكتور فيما ينشر من معلومات إذ أنه حتما سيدس السم في العسل لذلك ليس غريبا ألا نجد كتابا واحدا لأحد علماء المسلمين عدا الدكتور محمد عمارة ومحمد خلف الله ذوي الاتجاه المماثل، وهما ليسا من المحسوبين على علماء المسلمين بأي حال من الأحول». ثمة هوامش معلوماتية وإيضاحية كان يجب وضعها هنا، تشرح خبايا هذا التعليق ومغالطاته لكن المجال لا يتسع لذكرها.
أتذكر أن جريدة «الحياة» ضمن حملة إعلامية محلية وعربية ودولية من أجل إطلاق سراح أحمد البغدادي من السجن، إثر اتهام محكمة كويتية له بالإساءة إلى مقام الرسول، استطلعت آراء مثقفين، كان من بينهم فؤاد زكريا وكان اللافت في هذا الاستطلاع، أن فؤاد زكريا أظهر فتورا في تأييده. هذا الفتور سببه ذلك التعقيب العدواني الذي عرضنا له في ما سبق وربما كان هذا التعقيب جزءا من حرب كان يشنها على فؤاد زكريا مع الأصوليين الإسلاميين في الكويت، لإعفائه من منصبه في جامعة الكويت وفي المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت.
خاض فهمي هويدي ابتداء من سنة 1986، معركة مع العلمانيين المشاركين في هذا السجال، المشاركين فيه سواء في كتب أو في مقالات أو في مناظرات، أو في ندوة، كما في ندوة «التطرف السياسي الديني» المنشورة في مجلة«فكر» في العدد الثامن، شهر سبتمبر سنة 1985. وجمعهم في حزمة واحدة، أسماها بتنظيم التطرف العلماني واستمرت معركته معهم سنوات طويلة. هويدي خاضها من موقعه ككاتب صحفي مقروء عند الإسلاميين وعند العلمانيين وعند العاديين، تنشر مقالته في «الأهرام» في أكثر من صحيفة عربية. وقد جمع مقالاته هذه في كتابين هما: تزييف الوعي«1987»، المفترون، خطاب التطرف العلماني في الميزان «1996».
كان فهمي هويدي في تلك الآونة ألمع محام عن الإسلاميين وهي الآونة التي اشتد فيها عنف حركتهم، وكان يعتذر لعنفهم، بأن من يصنعونه هم صغار في السن. وفي مماحكة مكشوفة في معركته مع العلمانيين المشاركين في السجال مع الإسلاميين ادعى أن بين العلمانيين تنظيمات مماثلة لتنظيمات متطرفة مثل التكفير والهجرة الموجودة عند الإسلاميين. واعتذر للمتطرفين الإسلاميين بأنهم شباب مندفع سلك طريقه على سبيل الخطأ، وأدان التنظيم العلماني الذي هو اختلقه بأن أصحابه شيوخ مجربون -بعضهم محترفون- اتخذوا مواقعهم عمدا ومع سبق الإصرار والترصد. وكان القرضاوي في تلك الآونة ينوع على مرافعة هويدي الاعتذارية، ففي كتابه المذكور رد على فؤاد زكريا بأن نقص الوعي، وتغييب العقل، وتغليب الطابع الشكلي في فهم الدين، لا يمثل إلا شريحة محدودة من شرائح الصحوة، وأن تشدادتهم وتطرفاتهم هي في أمور هينة. وعزا سببها إلى طبيعة الشباب المتحمس من جهة، وتطرف العلمانيين من جهة أخرى!
قد يكون سالم البهنساوي في نفيه للمعلومة التي مفادها أن أحدا من الحضور طالب بإهدار دم فؤاد زكريا محقا، فلربما كانت هذه المعلومة تزيدا من مراسل جريدة الوطن، لكن الذي نعلمه رغم تطمينات هويدي والقرضاوي وبرغم نفي البهنساوي إنه عقب المناظرة التي اشترك فيها فؤاد زكريا مع فرج فودة في نادي نقابة المهندسين بالإسكندرية، بما يزيد عن خمسة أشهر اغتيل فرج فودة بعد فتوى أهدرت دمه. وانسل فؤاد زكريا من ساحة محاورة الإسلاميين المخيفة في المنتصف الأخير من ثمانينات القرن الماضي ومطلع تسعيناته التي أريق على جوانبها الدم.
استرسلت في الحديث عن السجال العلماني الإسلامي، لأمرين: أولهما، لأبين أن عدنان إبراهيم دلس في بعض وقائعه لــ «صحبة أيدولوجية» ولـ «رفاقية» حزبية، مع أنه زعم للزميل أحمد العرفج أنه انفصل عن الحركة الإسلامية وهو في سن الواحدة والعشرين. وثانيهما، لأبين أن الإسلاميين -وعدنان إبراهيم أحدهم- غير مؤتمنين على الحقيقة وعلى التاريخ. فلننتبه ونتنبّه فندقق في ما يقولون ونتثبّت مما يروون.
*باحث وكاتب سعودي