توطين الوظائف في القطاع الخاص وحل مشكلة البطالة بين الشباب السعودي من الجنسين، كان ولا يزال الهاجس الأهم والموضوع القديم المتجدد الذي يشغل تفكير المواطن والدولة على حد سواء، إذ لا يخلو بيت من بيوتنا من عاطل أو عاطلة عن العمل، على رغم المؤهل العلمي النوعي والبحث الجاد عن لقيمة العيش.
البطالة التي تفترس أحلام شبابنا وتحرم بلادنا من مساهماتهم ومشاركاتهم في بناء مستقبلهم ومستقبل وطنهم ليس بسبب عدم قدرة الاقتصاد السعودي على خلق الوظائف، فعلى الرغم من تراجع الحركة الاقتصادية مع انخفاص أسعار البترول إلا أن الاقتصاد السعودي أضاف نحو 900 وظيفة بنهاية الربع الثالث من العام الماضي 2016 وفقاً لبيانات الهيئة العامة للإحصاء. ولكن مع كل أسف ذهب أكثر من 95% من هذه الوظائف لليد العاملة الأجنبية.
هذا التضارب الصارخ يوضح أن لدينا مشكلة كبيرة في سوق العمل والقوانين التي تنظمه. ولكي تدرك حجم المشكلة الحقيقية لك أن تتخيل أن بلدا يعاني لعقود من البطالة المزمنة التي يتجاوز معدلها بين المواطنين بشكل عام 12%، ومعدل البطالة بين شبابه الذين تتراوح أعمارهم من 25-30 سنة، وهم عماد قوته العاملة وصمام الأمان لمستقبله، تصل إلى 40% (وفقاً لأرقام الهيئة العامة للإحصاء). ومع هذا يصر على فتح الباب على مصراعيه لإغراق سوق العمل بالعمالة الأجنبية الرخيصة. فوفقاً لأرقام وزارة العمل المنشوره في 30 أكتوبر 2016، فقد تم إصدار أكثر من سبعة ملايين تأشيرة للوافدين للعمل في القطاع الخاص خلال الأعوام الخمسة الماضية، بينها أكثر من مليوني تأشيرة عمل في عام واحد فقط. هذه الأرقام لا تشمل تأشيرات عاملات المنازل.
المنافسة غير عادلة
نحن لسنا ضد الإخوة ممن يأتون بحثا عن لقمة العيش والحياة الكريمة لهم ولأسرهم، ولكن الخطأ وسوء إدارة سوق العمل لا يرضي أحدا. وربما يقول البعض الميدان يا حميدان. لماذا لا ينافس السعودي مثله مثل غيره. حسناً، شبابنا وشاباتنا، فيهم الخير والبركة وقادرون على المنافسة، ولكن يجب أن نوفر لهم بيئة المنافسة الشريفة والعادلة. أما الوضع الحالي فلا يسر العدو قبل الصديق. آلية سوق العمل السعودية مُعطلة، وفوق هذا يتم إغراقها بشكل محموم بالعمالة الرخيصة. كل يوم نقرأ ونسمع في الإعلام قصصا تدمي القلب عن شبابنا الذين يحملون مؤهلات نوعية ولكنهم تُركوا فريسة سهلة للبطالة.
فعلى سبيل المثال وليس الحصر كتب عبدالله الجعيثن في صحيفة الرياض في عدد (الجمعة) 22 ربيع الآخر عن معاناة أطباء الأسنان مع البطالة، وأورد قصة طبيبة سعودية تخرجت منذُ ثلاث سنوات ولم تجد أية فرصة عمل، إلى درجة أنها عرضت أن تعمل لدى كليات طب الأسنان دون مقابل حتى لا تفقد ما تعلمته، ولكن طلبها قوبل بالرفض. وكذلك نشرت الصحف السعودية الصادرة في اليوم نفسه، خبر ابتعاث هيئة المهندسين السعوديين لـ150 مهندساً عاطلاً عن العمل لبريطانيا لدراسة اللغة الإنجليزية، لعل ذلك يساعدهم في حل مشكلتهم مع البطالة التي سرقت منهم حلم المساهمة في بناء وطنهم والعيش بكرامة. هاتان القصتان ما هما إلا غيض من فيض.
قراءة هاتين القصتين أعادت بالذاكرة إلى نحو 15 عاماً مضت، عندما كُلفت ضمن فريق عمل يتكون من ثلاثة أشخاص برئاسة نائب وزير العمل الحالي أحمد الحميدان، لوضع أنظمة صندوق الموارد البشرية الذي أنشئ بموجب قرار من مجلس الوزراء في بداية 2001، الذي يعرف حاليا بـ«هدف»، والذي يهدف إلى «توطين» الوظائف في القطاع الخاص، والمساعدة على إيجاد فرص عمل للسعوديين لكبح جماح البطالة التي بدأت تستشري بين الشباب السعوديين في ذلك الوقت، إذ وصلت حسب الإحصاءات الرسمية آنذاك إلى نحو 8%. كانت البطالة وإيجاد فرص عمل للشباب السعودي، تحتل حيزا كبيرا من الرأي العام، واليوم وبعد مضي أكثر من 15 عاماً على إنشاء صندوق الموارد البشرية الذي وفرت له موارد مالية هائلة، إضافة إلى تعاقب العديد من الوزراء على كرسي وزارة العمل وتكليفهم بمهمة تكاد تكون وحيدة ألا وهي «توظيف السعوديين»، نجد أن مشكلة البطالة، قد تفاقمت حتى لا يكاد يوجد بيت من بيوت السعوديين دون وجود عاطل أو عاطلة عن العمل، حتى في عز الطفرات الاقتصادية التي مرت على الاقتصاد السعودي، فضلا عن حجم الإنفاق الحكومي السخي وغير المسبوق على مشاريع البنية التحتية والمشاريع الاستثمارية طويلة الأجل خلال الفترة المشار إليها. كل هذه العوامل مجتمعة لو توافرت لأي اقتصاد في العالم مهما كان حجمه، فسوف تكون هناك أزمة في إيجاد اليد العاملة وليس بطالة أو كساد في سوق اليد العاملة الوطنية على النحو المخيف الذي نراه ونلمسه جميعاً والذي طال كل بيت وكل أسرة إلا من رحم ربي.
البطالة السعودية ليست اختيارية
هناك مقطع فيديو متداول بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي للرئيس التنفيذي لشركة داو كيميكال خلال منتدى دافوس الاقتصادي، يتحدث فيه بإعجاب عن الشباب السعوديين، ممن اختارتهم الشركة عن طريق برنامج صدارة ويثني على كفاءتهم بينما نجد رجال الأعمال لدينا يعرضون عن الاستثمار في أبنائنا ويرفضون توظيفهم ويتعللون بالحجج والأعذار المعلبة التي يرددونها دائماً على مسامعنا، والتي مفادها أن معظم البطالة الحالية هي بطالة اختيارية، إذ إن السعوديين لا يبحثون إلا عن عملِ مكتبي ومكيف، أو إن مخرجات نظامنا التعليمي سيئة في الوقت الذي يتسابقون فيه على اليد العاملة الأجنبية الأقل تعليماً وكفاءة. إذن رداءة التعليم وانخفاض الكفاءة التي يدعونها ليست هي السبب الحقيقي، أنا لا أنكر أن مخرجات بعض الأقسام في جامعاتنا لا تتلاءم مع متطلبات سوق العمل كما لا أنكر أن هناك ضرورة لإعادة النظر في سياسة تشريع الباب على مصراعيه لبعض الأقسام في جامعاتنا لتخرج لنا سيلا من العاطلين عن العامل في نهاية كل فصلٍ دراسي، ولكن هذه ربما تكون جزءا يسيراً من المشكلة وليست كل المشكلة، فالمشكلة الحقيقية من وجهة نظري تكمن في عدم فاعلية سوق العمل السعودية أو بالأصح تعطيل آليتها أي تعطيل آلية قانون العرض والطب الخاص بسوق العمل وإغراقها باليد العاملة الأجنبية الرخيصة.
استبدال نظام «الكفالة»
ربما يتساءل البعض عن سبب تعطيل آلية سوق العمل لدينا. قانون العرض والطلب هو الآلية التي تبث روح الحياة في أي سلعة أو أي سوق، لتعمل بكفاءة وفاعلية وسوق العمل ليس استثناء. لكن هذه الآلية مشلولة في سوق العمل السعودية، حيث نظام الكفالة عطل آليتها وأغرقها بالأيدي العاملة الرخيصة. فنحن بالفعل لسنا ضد إخواننا الذين يأتون لهذا البلد للبحث عن لقمة العيش وحياة أفضل لهم ولأبنائهم، ويساهمون في بناء اقتصادنا، بل على العكس من ذلك، نحن في صفهم ضد نظام الكفالة، الذي يهضم كثيرا من حقوقهم. وكذلك لا يخفى على منصف بأن هناك جهودا مخلصة تبذل من قبل وزارة العمل لتوطين الوظائف والحد من مشكلة البطالة التي تفترس أحلام شباب هذا البلد من الجنسين، إلا أن المشكلة -من وجهة نظري- لن تحل مادام العلاج موجها للأعراض ولم يتطرق للسبب الأساسي للمشكلة، إذ جربنا حلولاً عدة، ولكنها لم توصلنا للنتيجة المرجوة. على سبيل المثال جربنا استجداء التجار ونخوتهم ولم ننجح، وجربنا دفع نصف تكاليف العمالة الوطنية لعدة سنوات ولم ننجح، وجربنا برنامج نطاقات بألوانه المختلفة ولم ننجح وجربنا المادة 77 من نظام العمل وزادت الطين بلة مثلما يقول المثل الشعبي.
من وجهة نظري لن تحل مشكلة البطالة ما لم يعالج السبب الأساسي الذي خلق المشكلة في المقام الأول ألا وهو «نظام الكفالة». هذا الرأي أدليت به قبل 15 سنة أمام مجلس إدارة الصندوق والذي كان يرأسه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز (يرحمه الله)، لم يكن موجوداً في الاجتماع، إذ ترأس المجلس نيابة عنه وزير العمل آنذاك الدكتور علي النملة. كما كتبت ذلك في مقال لصحيفة «الاقتصادية» قبل ثماني سنوات، وها أنا أطرحه اليوم في صحيفة «عكاظ» التي اعتدنا منها دائما طرح الهم الوطني بكل شفافية، لعله يمر على أحد من أهل الحكمة وهم كثر في هذا البلد ولله الحمد.
5 آليات لإنهاء البطالة
من أجل إصلاح سوق العمل وتحريرها وحمايتها وجعل آليتها تعمل من جديد، فهناك خمس خطوات مقترحة، من الضرورة أن تتخذ بالتوازي.
أولاً: إلغاء نظام الكفالة الحالي واستبداله بنظام تصاريح العمل (ربما يكون هناك استثناء لسائقي وخدم المنازل، حيث إن لهذه الفئة وضعاً خاصا)، وبذلك تكون الدولة هي الكفيل لمن يريد العمل وليس طالب العمل، سواء كان فردا أو شركة أو أي جهة أخرى، فعندما يتبنى هذا الإجراء تكون سوق العمل هي الآلية، التي تحدد أجر اليد العاملة حسب الدرجة العلمية والخبرات العملية والمهارات التي يتقنها طالب العمل وليس صاحب العمل، وبذلك تكون اليد العاملة مُقيمة وفقا للأجر العادل الذي تحدده سوق العمل، وكما يعرف المطلعون فإن هذه الآلية مغيبة، ومعطلة تماما في ظل نظام الكفالة الحالي، إذ إن رب العمل يتعاقد مع العمالة ويجلبهم للعمل تحت كفالته وبالأجر الذي يحدده والذي يكون في معظم الأحيان إلا ما ندر أقل بكثير من القيمة الحقيقية لتلك اليد العاملة، ويكون العامل مجبرا على العمل لدى الكفيل وإلا يتم تسفيره، وهذا هو السبب الحقيقي وراء تعطيل آلية سوق العمل، فعندما يتم إلغاء نظام الكفالة فإنه سيتم تحرير سوق العمل وجعل آليتها تعمل من جديد، وبذلك تخضع سوق العمل لقانون العرض والطلب، وهذا سيؤدي إلى تقييم اليد العاملة بأجرها الحقيقي بصرف النظر عن جنسيتها، وعند ذلك تكون النتيجة النهائية لدى رب العمل من حيث التكلفة سيان، سواء وظف سعوديا أو أجنبيا طالما أنه يؤدي عمله بكفاءة.
خطة خمسية
ثانياً: تمكين وزارة العمل من إنشاء نظام معلومات فاعل، وربطه بـ«هدف» للوقوف على احتياجات سوق العمل السعودية من الطاقات البشرية خلال السنوات الخمس القادمة من خلال تقدير اليد العاملة التي يمكن للسوق السعودية توفيرها خلال هذه الفترة «اليد العاملة الحالية مضافا إليها المخرجات المتوقعة للمؤسسات التعليمية»، فإذا كان الطلب المقدر على اليد العاملة «الوظائف» أكبر من المعروض من اليد العاملة «طالبي التوظيف» فإن الدولة عندئذ تسمح للشركات باستقدام اليد العاملة التي لا تستطيع السوق السعودية توفيرها، ولكن يلاحظ أن كفالة هؤلاء العمال المستقدمين تكون على الدولة من خلال منحهم تصاريح عمل محدد بفترة زمنية معينة كخمس سنوات على سبيل المثال، وليس على الشركات المستقدمة ويكون للعامل الحرية في الانتقال والعمل لدى من يشاء خلال هذه الفترة، وبهذا يكون صاحب العمل مجبراً على دفع الأجر الذي تحدده السوق لليد العاملة حتى يضمن ألا ينتقل العامل إلى صاحب عمل آخر.
ولكن يجب أن يطبق هذا النظام بالضوابط التالية: أن تبلغ الشركة إدارة الجوازات (عن طريق نظام مرتبط إلكترونياً بالجوازات) عن العامل الذي يترك مقر عمله لفترة معينة أو ينتقل للعمل لدى شركة أخرى. أن يعطى العامل الذي يترك عمله الحالي للبحث عن عمل آخر فترة زمنية معينة «60 يوماً مثلا» ويجب عليه أن يجد عملاً آخر خلال هذه الفترة، وإلا أصبح وجوده غير قانوني ويجب عليه مغادرة البلاد. أن يكون جميع العمال على علم مسبق بهذه القوانين وتقع مسؤولية ذلك على الشركة التي استقدمتهم لأول مرة وعلى إدارة الجوازات. أن تقوم الشركة التي انتقل إليها العامل بإبلاغ إدارة الجوازات آلياً خلال فترة لا تتجاوز أسبوعاً واحدا من تاريخ مباشرته للعمل.
إصدار تأشيرات العمل عن طريق «الشورى»
ثالثاً: لمنع إغراق السوق باليد العاملة الأجنبية ووضع حد لضعاف النفوس الذين يتاجرون بتأشيرات العمل أو التكسب من عرق العمالة الأجنبية على حساب الوطن وأبنائه من الأفضل ربط إصدار تأشيرات العمل الجديدة بمجلس الشورى وتحت ضوابط محددة ومدروسة بعناية، بحيث لا تصدر التأشيرات إلا مرة أو مرتين في السنة وبعد التأكد بأن سوق العمل المحلية لا تلبي المهارات والخبرات المراد استقدامها. هذا التنظيم معمول به في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.
ربما يتخوف البعض من التبعات الأمنية لإلغاء نظام الكفالة ويتوقع أن تكون هناك مشكلات أمنية نتيجة لحرية انتقال اليد العاملة من صاحب عمل لآخر. على الرغم بأني أتفهم هذا التخوف، ولكن لا أرى بأن لهذا الهاجس الأمني ما يبرر لسببين رئيسيين وهما: تصاريح العمل لا تعطى لمن هب ودب، وإنما تعطى فقط بقرار من مجلس الشورى وبعد أن يتأكد أعضاء المجلس الموقر بأن المهارات والخبرات المطلوبة في اليد العاملة المراد استقدامها لا تتوفر في سوق العمل السعودية. كذلك هذه التصاريح تمنح لفترة زمنة موقته وقابلة للتجديد لعدد محدد من المرات وبنفس شروط الإصدر.
شراكات إستراتيجية للتأهيل
تصبح إقامة اليد العاملة التي تمنح تصاريح عمل قانونية مدى سريان هذه التصاريح وتنتقل بشكل قانوني، ونحن بلد مستقر وقوي أمنياً وسياسياً، ولا أعتقد أن إلغاء نظام الكفالة وتحرير سوق العمل سيمثل مصدر خطر للأمن الداخلي. هذا هو النظام المعمول به في العالم المتقدم مثل أمريكا وكندا على سبيل المثال ولم يكشل تهديداً أمنياً لهما.
رابعاً: أن يعقد صندوق الموارد البشرية «هدف» شراكات إستراتيجية مع الجامعات السعودية الحكومية والأهلية لتبني خطة وطنية لإعادة تدريب وتأهيل أبنائنا وبناتنا الذين سبق أن أنهوا دراساتهم الجامعية في التخصصات غير المطلوبة في سوق العمل مثل الدراسات الإسلامية والتاريخ والتربية على سبيل المثال وليس الحصر، بحيث يتم تأهيلهم لبعض التخصصات المطلوبة في سوق العمل بما في ذلك دعمهم لدراسة برنامج الماجستير في إدارة الأعمال.
خامساً: على الجامعات الحد من طاقة القبول في بعض التخصصات والأقسام غير المطلوبة في سوق العمل وتوجيه الطلبة نحو التخصصات المطلوبة في سوق العمل.
* أستاذ المحاسبة المشارك
رئيس قسم المحاسبة بكلية إدارة الأعمال / جامعة الفيصل – الرياض
wathnani@alfaisal.edu
البطالة التي تفترس أحلام شبابنا وتحرم بلادنا من مساهماتهم ومشاركاتهم في بناء مستقبلهم ومستقبل وطنهم ليس بسبب عدم قدرة الاقتصاد السعودي على خلق الوظائف، فعلى الرغم من تراجع الحركة الاقتصادية مع انخفاص أسعار البترول إلا أن الاقتصاد السعودي أضاف نحو 900 وظيفة بنهاية الربع الثالث من العام الماضي 2016 وفقاً لبيانات الهيئة العامة للإحصاء. ولكن مع كل أسف ذهب أكثر من 95% من هذه الوظائف لليد العاملة الأجنبية.
هذا التضارب الصارخ يوضح أن لدينا مشكلة كبيرة في سوق العمل والقوانين التي تنظمه. ولكي تدرك حجم المشكلة الحقيقية لك أن تتخيل أن بلدا يعاني لعقود من البطالة المزمنة التي يتجاوز معدلها بين المواطنين بشكل عام 12%، ومعدل البطالة بين شبابه الذين تتراوح أعمارهم من 25-30 سنة، وهم عماد قوته العاملة وصمام الأمان لمستقبله، تصل إلى 40% (وفقاً لأرقام الهيئة العامة للإحصاء). ومع هذا يصر على فتح الباب على مصراعيه لإغراق سوق العمل بالعمالة الأجنبية الرخيصة. فوفقاً لأرقام وزارة العمل المنشوره في 30 أكتوبر 2016، فقد تم إصدار أكثر من سبعة ملايين تأشيرة للوافدين للعمل في القطاع الخاص خلال الأعوام الخمسة الماضية، بينها أكثر من مليوني تأشيرة عمل في عام واحد فقط. هذه الأرقام لا تشمل تأشيرات عاملات المنازل.
المنافسة غير عادلة
نحن لسنا ضد الإخوة ممن يأتون بحثا عن لقمة العيش والحياة الكريمة لهم ولأسرهم، ولكن الخطأ وسوء إدارة سوق العمل لا يرضي أحدا. وربما يقول البعض الميدان يا حميدان. لماذا لا ينافس السعودي مثله مثل غيره. حسناً، شبابنا وشاباتنا، فيهم الخير والبركة وقادرون على المنافسة، ولكن يجب أن نوفر لهم بيئة المنافسة الشريفة والعادلة. أما الوضع الحالي فلا يسر العدو قبل الصديق. آلية سوق العمل السعودية مُعطلة، وفوق هذا يتم إغراقها بشكل محموم بالعمالة الرخيصة. كل يوم نقرأ ونسمع في الإعلام قصصا تدمي القلب عن شبابنا الذين يحملون مؤهلات نوعية ولكنهم تُركوا فريسة سهلة للبطالة.
فعلى سبيل المثال وليس الحصر كتب عبدالله الجعيثن في صحيفة الرياض في عدد (الجمعة) 22 ربيع الآخر عن معاناة أطباء الأسنان مع البطالة، وأورد قصة طبيبة سعودية تخرجت منذُ ثلاث سنوات ولم تجد أية فرصة عمل، إلى درجة أنها عرضت أن تعمل لدى كليات طب الأسنان دون مقابل حتى لا تفقد ما تعلمته، ولكن طلبها قوبل بالرفض. وكذلك نشرت الصحف السعودية الصادرة في اليوم نفسه، خبر ابتعاث هيئة المهندسين السعوديين لـ150 مهندساً عاطلاً عن العمل لبريطانيا لدراسة اللغة الإنجليزية، لعل ذلك يساعدهم في حل مشكلتهم مع البطالة التي سرقت منهم حلم المساهمة في بناء وطنهم والعيش بكرامة. هاتان القصتان ما هما إلا غيض من فيض.
قراءة هاتين القصتين أعادت بالذاكرة إلى نحو 15 عاماً مضت، عندما كُلفت ضمن فريق عمل يتكون من ثلاثة أشخاص برئاسة نائب وزير العمل الحالي أحمد الحميدان، لوضع أنظمة صندوق الموارد البشرية الذي أنشئ بموجب قرار من مجلس الوزراء في بداية 2001، الذي يعرف حاليا بـ«هدف»، والذي يهدف إلى «توطين» الوظائف في القطاع الخاص، والمساعدة على إيجاد فرص عمل للسعوديين لكبح جماح البطالة التي بدأت تستشري بين الشباب السعوديين في ذلك الوقت، إذ وصلت حسب الإحصاءات الرسمية آنذاك إلى نحو 8%. كانت البطالة وإيجاد فرص عمل للشباب السعودي، تحتل حيزا كبيرا من الرأي العام، واليوم وبعد مضي أكثر من 15 عاماً على إنشاء صندوق الموارد البشرية الذي وفرت له موارد مالية هائلة، إضافة إلى تعاقب العديد من الوزراء على كرسي وزارة العمل وتكليفهم بمهمة تكاد تكون وحيدة ألا وهي «توظيف السعوديين»، نجد أن مشكلة البطالة، قد تفاقمت حتى لا يكاد يوجد بيت من بيوت السعوديين دون وجود عاطل أو عاطلة عن العمل، حتى في عز الطفرات الاقتصادية التي مرت على الاقتصاد السعودي، فضلا عن حجم الإنفاق الحكومي السخي وغير المسبوق على مشاريع البنية التحتية والمشاريع الاستثمارية طويلة الأجل خلال الفترة المشار إليها. كل هذه العوامل مجتمعة لو توافرت لأي اقتصاد في العالم مهما كان حجمه، فسوف تكون هناك أزمة في إيجاد اليد العاملة وليس بطالة أو كساد في سوق اليد العاملة الوطنية على النحو المخيف الذي نراه ونلمسه جميعاً والذي طال كل بيت وكل أسرة إلا من رحم ربي.
البطالة السعودية ليست اختيارية
هناك مقطع فيديو متداول بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي للرئيس التنفيذي لشركة داو كيميكال خلال منتدى دافوس الاقتصادي، يتحدث فيه بإعجاب عن الشباب السعوديين، ممن اختارتهم الشركة عن طريق برنامج صدارة ويثني على كفاءتهم بينما نجد رجال الأعمال لدينا يعرضون عن الاستثمار في أبنائنا ويرفضون توظيفهم ويتعللون بالحجج والأعذار المعلبة التي يرددونها دائماً على مسامعنا، والتي مفادها أن معظم البطالة الحالية هي بطالة اختيارية، إذ إن السعوديين لا يبحثون إلا عن عملِ مكتبي ومكيف، أو إن مخرجات نظامنا التعليمي سيئة في الوقت الذي يتسابقون فيه على اليد العاملة الأجنبية الأقل تعليماً وكفاءة. إذن رداءة التعليم وانخفاض الكفاءة التي يدعونها ليست هي السبب الحقيقي، أنا لا أنكر أن مخرجات بعض الأقسام في جامعاتنا لا تتلاءم مع متطلبات سوق العمل كما لا أنكر أن هناك ضرورة لإعادة النظر في سياسة تشريع الباب على مصراعيه لبعض الأقسام في جامعاتنا لتخرج لنا سيلا من العاطلين عن العامل في نهاية كل فصلٍ دراسي، ولكن هذه ربما تكون جزءا يسيراً من المشكلة وليست كل المشكلة، فالمشكلة الحقيقية من وجهة نظري تكمن في عدم فاعلية سوق العمل السعودية أو بالأصح تعطيل آليتها أي تعطيل آلية قانون العرض والطب الخاص بسوق العمل وإغراقها باليد العاملة الأجنبية الرخيصة.
استبدال نظام «الكفالة»
ربما يتساءل البعض عن سبب تعطيل آلية سوق العمل لدينا. قانون العرض والطلب هو الآلية التي تبث روح الحياة في أي سلعة أو أي سوق، لتعمل بكفاءة وفاعلية وسوق العمل ليس استثناء. لكن هذه الآلية مشلولة في سوق العمل السعودية، حيث نظام الكفالة عطل آليتها وأغرقها بالأيدي العاملة الرخيصة. فنحن بالفعل لسنا ضد إخواننا الذين يأتون لهذا البلد للبحث عن لقمة العيش وحياة أفضل لهم ولأبنائهم، ويساهمون في بناء اقتصادنا، بل على العكس من ذلك، نحن في صفهم ضد نظام الكفالة، الذي يهضم كثيرا من حقوقهم. وكذلك لا يخفى على منصف بأن هناك جهودا مخلصة تبذل من قبل وزارة العمل لتوطين الوظائف والحد من مشكلة البطالة التي تفترس أحلام شباب هذا البلد من الجنسين، إلا أن المشكلة -من وجهة نظري- لن تحل مادام العلاج موجها للأعراض ولم يتطرق للسبب الأساسي للمشكلة، إذ جربنا حلولاً عدة، ولكنها لم توصلنا للنتيجة المرجوة. على سبيل المثال جربنا استجداء التجار ونخوتهم ولم ننجح، وجربنا دفع نصف تكاليف العمالة الوطنية لعدة سنوات ولم ننجح، وجربنا برنامج نطاقات بألوانه المختلفة ولم ننجح وجربنا المادة 77 من نظام العمل وزادت الطين بلة مثلما يقول المثل الشعبي.
من وجهة نظري لن تحل مشكلة البطالة ما لم يعالج السبب الأساسي الذي خلق المشكلة في المقام الأول ألا وهو «نظام الكفالة». هذا الرأي أدليت به قبل 15 سنة أمام مجلس إدارة الصندوق والذي كان يرأسه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز (يرحمه الله)، لم يكن موجوداً في الاجتماع، إذ ترأس المجلس نيابة عنه وزير العمل آنذاك الدكتور علي النملة. كما كتبت ذلك في مقال لصحيفة «الاقتصادية» قبل ثماني سنوات، وها أنا أطرحه اليوم في صحيفة «عكاظ» التي اعتدنا منها دائما طرح الهم الوطني بكل شفافية، لعله يمر على أحد من أهل الحكمة وهم كثر في هذا البلد ولله الحمد.
5 آليات لإنهاء البطالة
من أجل إصلاح سوق العمل وتحريرها وحمايتها وجعل آليتها تعمل من جديد، فهناك خمس خطوات مقترحة، من الضرورة أن تتخذ بالتوازي.
أولاً: إلغاء نظام الكفالة الحالي واستبداله بنظام تصاريح العمل (ربما يكون هناك استثناء لسائقي وخدم المنازل، حيث إن لهذه الفئة وضعاً خاصا)، وبذلك تكون الدولة هي الكفيل لمن يريد العمل وليس طالب العمل، سواء كان فردا أو شركة أو أي جهة أخرى، فعندما يتبنى هذا الإجراء تكون سوق العمل هي الآلية، التي تحدد أجر اليد العاملة حسب الدرجة العلمية والخبرات العملية والمهارات التي يتقنها طالب العمل وليس صاحب العمل، وبذلك تكون اليد العاملة مُقيمة وفقا للأجر العادل الذي تحدده سوق العمل، وكما يعرف المطلعون فإن هذه الآلية مغيبة، ومعطلة تماما في ظل نظام الكفالة الحالي، إذ إن رب العمل يتعاقد مع العمالة ويجلبهم للعمل تحت كفالته وبالأجر الذي يحدده والذي يكون في معظم الأحيان إلا ما ندر أقل بكثير من القيمة الحقيقية لتلك اليد العاملة، ويكون العامل مجبرا على العمل لدى الكفيل وإلا يتم تسفيره، وهذا هو السبب الحقيقي وراء تعطيل آلية سوق العمل، فعندما يتم إلغاء نظام الكفالة فإنه سيتم تحرير سوق العمل وجعل آليتها تعمل من جديد، وبذلك تخضع سوق العمل لقانون العرض والطلب، وهذا سيؤدي إلى تقييم اليد العاملة بأجرها الحقيقي بصرف النظر عن جنسيتها، وعند ذلك تكون النتيجة النهائية لدى رب العمل من حيث التكلفة سيان، سواء وظف سعوديا أو أجنبيا طالما أنه يؤدي عمله بكفاءة.
خطة خمسية
ثانياً: تمكين وزارة العمل من إنشاء نظام معلومات فاعل، وربطه بـ«هدف» للوقوف على احتياجات سوق العمل السعودية من الطاقات البشرية خلال السنوات الخمس القادمة من خلال تقدير اليد العاملة التي يمكن للسوق السعودية توفيرها خلال هذه الفترة «اليد العاملة الحالية مضافا إليها المخرجات المتوقعة للمؤسسات التعليمية»، فإذا كان الطلب المقدر على اليد العاملة «الوظائف» أكبر من المعروض من اليد العاملة «طالبي التوظيف» فإن الدولة عندئذ تسمح للشركات باستقدام اليد العاملة التي لا تستطيع السوق السعودية توفيرها، ولكن يلاحظ أن كفالة هؤلاء العمال المستقدمين تكون على الدولة من خلال منحهم تصاريح عمل محدد بفترة زمنية معينة كخمس سنوات على سبيل المثال، وليس على الشركات المستقدمة ويكون للعامل الحرية في الانتقال والعمل لدى من يشاء خلال هذه الفترة، وبهذا يكون صاحب العمل مجبراً على دفع الأجر الذي تحدده السوق لليد العاملة حتى يضمن ألا ينتقل العامل إلى صاحب عمل آخر.
ولكن يجب أن يطبق هذا النظام بالضوابط التالية: أن تبلغ الشركة إدارة الجوازات (عن طريق نظام مرتبط إلكترونياً بالجوازات) عن العامل الذي يترك مقر عمله لفترة معينة أو ينتقل للعمل لدى شركة أخرى. أن يعطى العامل الذي يترك عمله الحالي للبحث عن عمل آخر فترة زمنية معينة «60 يوماً مثلا» ويجب عليه أن يجد عملاً آخر خلال هذه الفترة، وإلا أصبح وجوده غير قانوني ويجب عليه مغادرة البلاد. أن يكون جميع العمال على علم مسبق بهذه القوانين وتقع مسؤولية ذلك على الشركة التي استقدمتهم لأول مرة وعلى إدارة الجوازات. أن تقوم الشركة التي انتقل إليها العامل بإبلاغ إدارة الجوازات آلياً خلال فترة لا تتجاوز أسبوعاً واحدا من تاريخ مباشرته للعمل.
إصدار تأشيرات العمل عن طريق «الشورى»
ثالثاً: لمنع إغراق السوق باليد العاملة الأجنبية ووضع حد لضعاف النفوس الذين يتاجرون بتأشيرات العمل أو التكسب من عرق العمالة الأجنبية على حساب الوطن وأبنائه من الأفضل ربط إصدار تأشيرات العمل الجديدة بمجلس الشورى وتحت ضوابط محددة ومدروسة بعناية، بحيث لا تصدر التأشيرات إلا مرة أو مرتين في السنة وبعد التأكد بأن سوق العمل المحلية لا تلبي المهارات والخبرات المراد استقدامها. هذا التنظيم معمول به في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.
ربما يتخوف البعض من التبعات الأمنية لإلغاء نظام الكفالة ويتوقع أن تكون هناك مشكلات أمنية نتيجة لحرية انتقال اليد العاملة من صاحب عمل لآخر. على الرغم بأني أتفهم هذا التخوف، ولكن لا أرى بأن لهذا الهاجس الأمني ما يبرر لسببين رئيسيين وهما: تصاريح العمل لا تعطى لمن هب ودب، وإنما تعطى فقط بقرار من مجلس الشورى وبعد أن يتأكد أعضاء المجلس الموقر بأن المهارات والخبرات المطلوبة في اليد العاملة المراد استقدامها لا تتوفر في سوق العمل السعودية. كذلك هذه التصاريح تمنح لفترة زمنة موقته وقابلة للتجديد لعدد محدد من المرات وبنفس شروط الإصدر.
شراكات إستراتيجية للتأهيل
تصبح إقامة اليد العاملة التي تمنح تصاريح عمل قانونية مدى سريان هذه التصاريح وتنتقل بشكل قانوني، ونحن بلد مستقر وقوي أمنياً وسياسياً، ولا أعتقد أن إلغاء نظام الكفالة وتحرير سوق العمل سيمثل مصدر خطر للأمن الداخلي. هذا هو النظام المعمول به في العالم المتقدم مثل أمريكا وكندا على سبيل المثال ولم يكشل تهديداً أمنياً لهما.
رابعاً: أن يعقد صندوق الموارد البشرية «هدف» شراكات إستراتيجية مع الجامعات السعودية الحكومية والأهلية لتبني خطة وطنية لإعادة تدريب وتأهيل أبنائنا وبناتنا الذين سبق أن أنهوا دراساتهم الجامعية في التخصصات غير المطلوبة في سوق العمل مثل الدراسات الإسلامية والتاريخ والتربية على سبيل المثال وليس الحصر، بحيث يتم تأهيلهم لبعض التخصصات المطلوبة في سوق العمل بما في ذلك دعمهم لدراسة برنامج الماجستير في إدارة الأعمال.
خامساً: على الجامعات الحد من طاقة القبول في بعض التخصصات والأقسام غير المطلوبة في سوق العمل وتوجيه الطلبة نحو التخصصات المطلوبة في سوق العمل.
* أستاذ المحاسبة المشارك
رئيس قسم المحاسبة بكلية إدارة الأعمال / جامعة الفيصل – الرياض
wathnani@alfaisal.edu