-A +A
جابر الدبيش (جدة)
jjjaaarrr20133@

من نخلةٍ باسقةٍ استقت طيورُ ألحانه خيوطَ أعشاشها


ومن النخلة نفسها ارتوى عذوبةً وحباً

تلك هي جنته، الروضة التي تفيأ تحت ظلالها

معزوزة الدسوقي حين كانت ترتل القرآن الكريم انبلجت أنوار الكون في عينيه

وحين أنشدت «فرق ما بينا ليه الزمان.. دا العمر بعدك كله هوان»

تمايلت أشجارُ ألحانه وصبت حفيفها غناءً في وديان طيبة

لم تكن وفاة والده ـ وهو ابن الثالثة ـ إلا جريان نهر من الحياة في مخيلته

وهو وإن لم يحس بالفقد إلا أنه وقف مليّاً على جبل التأمل

سبر أغوار بحر العمر بمده وجزره علَّه يفسر كيف يشق حيزوم السفينة عباب الصعاب بكل أناة وتؤدة

تسللت موسيقى من مذياع خاله ـ ذات مساء ـ وهو في الرابعة من العمر

سرت في طرقات المدينة المنورة تراقص العابرين

تتصاعد لتعانق النوافذ، تحيي ينابيع نضبت

بكى غازي في ذلك المساء

كانت الموشحات التركية من إذاعة أنقرة توقظ شجنه

وتدني منه عناقيد الغناء

تمنحه ذائقة لحنية فاضت لتروي أرض طيبة

وقباء وزمزم..

وشكلت فيه اخضرار المكان

وإحياء التراث واكتشاف التاريخ

ما بين مدرستي النجاح والفلاح ارتسمت خطواته الأولى في لوحة العلم

شقت وهاد الحرف وسهول الكلمة

عشق التاريخ والأدب إلا أن الموسيقى كانت السحابة التي تظلله

تمطر متى ما تشبعت بماء حنينه

وما بين طيبة ـ بروحانيتها وسكينتها وبساتينها الغناء ونخيلها الباسق ـ

وجدة ـ برواشينها وبحرها العليل ـ

تسامت طفولته وانبثقت ينابيع ألحانه.

كان يجلس على البحر ليس حباً في الصيد الذي يعشقه وإنما لينمي شطآن التأمل ويبني جبال الصبر، وينازل الأمواج جيئةً وذهاباً لينسج منها معزوفة موسيقية للحياة.

على هودج الترحال تهادى في شعاب البحث عن فضاء الغناء الأصيل،

وإلى مدينة الفن والنيل القاهرة كانت وجهته وهو مازال شاباً غضاً لم يتجاوز السابعة عشرة

وبين عمالقة الفن رياض السنباطي وأبو بكر خيرت وإبراهيم شفيق وجورج ميشيل وحورية عزمي، دلف صاحب الصوت الأوبرالي ـ متسلحاً بعدد من الأعمال الغنائية سجلها قبلاً في الإذاعة السعودية وصوت العرب ـ دلف معهد الكونسرفتوار لتعلم الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية وفي المعهد نفسه تعمق في دراسة الموسيقى الشرقية مع افتتاح أول قسم لها..

وما بين الجملة الشعرية التي التقطها من فم إيليا أبو ماضي ومزاوجة المورفيم، بامتداد حركاته النغمية، مع الجمل اللحنية الفسيحة، كانت أعماله الغنائية الباذخة تسافر في فضاء الفن لترسخ لها في ذائقة المستمع عرشاً لا يشيخ.

سبع سنوات قضاها في القاهرة كانت كافية لتعلم الموسيقى، ومن عاصمة الفن إلى عاصمة الضباب كانت وجهته، لكن هذه المرة لتعلم اليوغا، ذاك العالم الفسيح لاستشراف النفس وجمالياتها وكيفية المزج بين العاطفة والعقل وصياغة عالم موسيقي متناغم.

حبه الأول والأخير انطفأ في ريعان شبابه على يد فتاة قبطية، هي الحديقة التي تأمل أزهارها ولم يقطف زهرة واحدة، بل ظلت تتجدد في عينيه على امتداد عمره المشارف للثمانين.

إنه الموسيقار غازي علي الذي اتخذ من شقة صغيرة برجاً فنياً لتعليم الموسيقى لطلبته، وانزوى لوحده ينثر جمال الفن تاركاً الساحة الفنية تعج وتموج بما رحبت.

إنه التراث الغنائي الذي يجب أن يوضع في متحف الفن.