alma3e@
يرى الكتابة الساخرة شكلاً من أشكال التلقّي، لأنها بالنسبة له ابتكار، والمرأة لدينا مأزومة بعقد كثيرة أقلها أنها تضع نفسها فوق النقد وتتعامل بحساسية مفرطة تجاه كل مقاربة لواقعها الاجتماعي.
العديد من الآراء الجريئة في هذا الحوار مع الكاتب والقاص محمد الراشدي.. فإلى نصّ الحوار:
• تفريغ عملك الكتابي من محتواه الهادف إلى مجرد الضحك.. ألا يغضبك؟
•• أعتقد أنك تتحدث هنا عن الكتابة الساخرة، وعنها أقول إن الضحك شكل من أشكال التلقي، ولأجل ذلك فهو لا يغضبني أبدا، بل لا أبالغ إن قلت لك إنه عاجل البشرى بالنسبة للكاتب الساخر؛ فالطرفة حين تعانق السمع أو النظر للوهلة الأولى فإن أول مؤشر لبراعتها قدرتها على تفجير الضحكة، أو انتزاع البسمة لدى سامعها أو قارئها، ثم لاحقا يكون إمعان النظر في حمولاتها ودلالاتها ومفارقاتها، والطرفة التي لا تبعث على الضحك – ولو كان ضحكا كالبكاء – طرفة باردة أيا كان عمقها أو مضمونها.
وتأكيدا لذلك فحين قدم الناقد الدكتور: عبدالله الغذامي لكتابي (نكز – نصوص ساخرة) أشار إلى فكرة الضحك هذه، لكنه أشار معها في المقدمة ذاتها إلى متعة نصوصية تعيد قارئها – والكلام للغذامي – إلى مقولة (لذة النص) لرولان بارت، وتلك المتعة واللذة بالنسبة لي – وربما – لكل كتاب السخرية؛ هي الجسر الذي يمكن أن نعبر فوقه برؤانا وأفكارنا ورسائلنا إلى المتلقي، ولذلك فمن المهم جدا أن يكون ذلك الجسر متينا، ورحبا، ومشرعا على الدوام، خصوصا والكتابة الساخرة في مجتمعنا تشبه السير في حقول الألغام؛ كل خطوة فيها يمكن أن تكون مشروع موت أو حياة!
ثم إن اقتناص ضحكة في زمن الشفاه الموصدة بالحزن وكآبة الواقع مكسب ليس باليسير، حتى وإن لم يبرح وعي قارئك تلك الضحكة!
• لماذا تعمد إلى تقديم أفكارك وقناعاتك في قالب ساخر؟
•• أعتقد أن الفكرة تستدعي قالبها المناسب، وإذا كنا هنا نتحدث عن السخرية والضحك، فالذين قرأوا نصوصي القصصية تحدثوا عن قدر كبير من الحزن والألم وتمثيلات القهر – كما وصفها الناقد الدكتور صالح زياد - أي أن كل فكرة تتموضع في إطار يناسبها وفق رؤية كاتبها. وبالنسبة للسخرية فمعلوم أنها لا تعني بالضرورة مجرد الضحك، ففي أكثر اللحظات حلكة ووجعا تتخلق أقسى السخرية وأعمقها وأعلقها بالذاكرة، وانظر في سير الشعوب الساخرة متى ابتدأت بوصلة البوح عندها تتجه إلى السخرية واستدرار الضحك!
السخرية موقف من الحياة والأشياء والأحداث، وسلاح نجابه به القبح والرداءة وما ينغص الواقع، ورئة نلوذ بها من اختناقاتنا وتأزمات الحياة من حولنا، وأعتقد شخصيا أنها الأعمق في مخاطبة الوجدان والذاكرة، والأبقى أثرا.
• سخرت في إحدى مقاماتك من «قيادة المرأة للسيارة» عنونت لها بـ «اللباب في آداب ركوب النساء للدواب».. هل أنت ابتداء ضد قيادة المرأة؟ ولماذا بدوت ساخرا منها؟
•• ابتداء لست ضد قيادة المرأة للسيارة، ولا القطار، ولا الباخرة!
ولو أذن للنساء رسميا بقيادة السيارات في بلادنا اليوم، لجلست من الغد في مقعد الراكب، وتركت لزوجتي دفة القيادة، ووعثاء الطريق، ومصائد ساهر!
أما نص «اللباب في آداب ركوب النساء للدواب» فالطريف في أمره أن المتحمسين لفكرة القيادة يشاركونه على صفحاتهم في مواقع التواصل باعتباره ينتصر لفكرة قيادة المرأة للسيارة، والممانعين يشاركونه في المقابل ظنا منهم أن يسخر من فكرة القيادة تلك!
والنص في حقيقته لا ينتصر للفكرة ولا يقف ضدها، إنما هو في الواقع إسقاط ساخر على هذا اللغط الذي رافقنا أكثر من ربع قرن، تغيرت فيها معالم الأرض، ومحيت من الوجود خرائط واستبدلت بخرائط وما زلنا نقتتل عند (دركسيون) السيارة!
• أنت تفرط في الكتابة عن الأنثى بما يجعلها تبدو فارغة.. هل أنت من أعداء المرأة؟ ولماذا تبدو في كتاباتك مهاجما بعكس كتّاب كثيرين يبدون مدافعين عنها؟
•• أعداء المرأة؟!.. هذا تصنيف ضخم، وحاد، وأنا شخصيا لا أعرف محددات الانتماء إليه، إلا أن سؤالك يحيل على الكتابة التي تنتقد الظواهر الاجتماعية في شقها المرتبط بالمرأة، وإن كان فهمي دقيقا، وعلى ضوء هذا التصنيف فأنا عدو المرأة والرجل معا!!، فنقد السلوك الاجتماعي أو الظاهرة عندي يطال الرجل والمرأة على حد سواء، وما يظهر في بعض الأحايين باعتباره هجوما أو سخرية بأحدهما هو محاولة لتجسيم السلوك السلبي عن طريق نقيضه لدى الطرف الآخر، خصوصا فيما يتعلق بالعلاقات المعقدة بين طرفي الحياة في مجتمع زاخر السطح والعمق معا بتجليات شتى من العلاقات الممعنة في التعقيد والتناقض معا.
وإذاً فالمسألة ليست عداء لجنس بعينه، والعداء في ذاته ليس فضيلة، مثلما أن الانحياز المطلق نقيصة لا تبررها على الدوام مزاعم الإنسانية أو التعاطف أو الشفقة.
وأصدقك القول إن المرأة لدينا مأزومة بعقد شتى ليس أقلها أنها تضع نفسها في منزلة فوق النقد، وتتعامل بحساسية مفرطة تجاه كل مقاربة لواقعها الاجتماعي إلا أن يكون تعاطفا صرفا أو وقع طبول محتدمة، وتلك الحساسية أرصدها في أصداء ما أكتب ؛ فثمة قيامة صغرى متوقعة مع كل طرح يلامس واقعا سلبيا لدى المرأة في الداخل!
• تخلى ناقد كبير كالغذامي عن النقد الأدبي وأحل مكانه النقد الثقافي، أنت ترجع ذلك إلى إخفاق المشروع الحداثي وقصوره دون غاياته التي كان يترامى إلى تحقيقها.. كيف تقرأ حركة الحداثة الإبداعية لدينا؟ وما الذي كان ينقصها؟
•• الحداثة لا تخفق.. ولن تخفق.. الحداثة حتمية وجودية وتاريخية، وصيرورة مستمرة لا تتوقف، والذي أخفق تحديدا هو مشروع ما، ولد في حقبة ما، أسهم ظرفها التاريخي ومعطياتها في وأد ذلك المشروع، وانصراف القائمين عليه إلى اشتغالات شتى سوى المشروع القديم.
ولأنك ذكرت الغذامي تحديدا في سؤالك وبغض النظر عن بواعث انصرافه عن النقد الأدبي إلى الثقافي – ومن المؤكد أن إخفاق المشروع الحداثي أحدها – إلا أن ذلك لا يشرعن أبدا إقامة معمار النقد الثقافي فوق أنقاض النقد الأدبي، ومسألة أن يتحول الناقد من مشروع إلى مشروع فذاك أمر يخصه، لكن ليس شرطا أن يعبر الجديد فوق جثمان القديم، والتحاور والتجاور إحدى أهم سمات العلوم والفنون الإنسانية.
أما الحداثة فباقية مستمرة، والمنجز الجميل لحداثة الثمانينيات وما بعدها تسرب لاحقا إلى أجيال جديدة قادرة على القراءة الواعية والفهم العميق والتحاور المثمر مع ذلك المنجز خارج إطاره التاريخي واللغط الذي رافق المرحلة حينها، وانظر على سبيل المثال حجم التداول القرائي والنقدي لتجربة الشاعر محمد الثبيتي حاليا، وهو الذي لم يستطع ذات يوم من عمر تلك المرحلة إقامة أمسية شعرية أو حضور حفل تكريم له بسبب التجاذبات والصراع الهائل في حينه!.
• لدينا كتاب قصة كثيرون لكن هناك من يرى أن القصة قليلة جدا وسط هذا الكم الكبير من الكتابة.. ما الذي يقلل من القيمة الأدبية فيما ينتجه كتاب القصة وكاتباتها لدينا؟
•• هذا ليس في القصة وحدها؛ إنما في الفنون جميعا، ومقولة: (ما أكثر الشعراء وما أقل الشعر) تصدق أيضا على بقية أجناس الإبداع عندنا؛ والقصة من تلك الفنون التي تحقق على مستوى الكم حضورا كبيرا، لكن ذلك الكم يوشك أن يكون صفرا حين يتعلق الأمر باشتراطات القصة القصيرة، وعوامل نضجها وتجاوزها واختلافها. أستطيع القول واثقا إن القصة القصيرة محليا توقفت إبداعيا عند نهايات التسعينات الميلادية، وهي الحقبة التي شهدت بدايات الطفرة الروائية، والمنجز القصصي في الفترة اللاحقة على تلك الفترة اتسم بالهزال الفني، والضعف، والارتباك، وأسهمت نافذة الـ (ق ق ج) في عبور عشرات الأسماء التي لا تعرف من القصة إلا رصف الكلمات في أقل مساحة ممكنة.
القصة فن راق يشترط وعيا كاملا بأدواته ومتطلباته، واطلاعا واسعا على الناضج من تجاربه، وذخيرة لغوية، وحسا إبداعيا مرهفا، ولأن هذه المتطلبات غابت تماما في التجارب القصصية الحديثة لدينا؛ تراجعت القصة حتى أوشك هذا الفن الجميل أن يندثر.
• نشرت العديد من المقالات النقدية عن أعمال إبداعية في القصة والرواية لكاتبات سعوديات، الملاحظ في كتاباتك النقدية أنك كنت مباشرا في التقليل من القيمة الفنية لتلك الأعمال.. هل يعود هذا إلى قناعتك بضعف المنتج الإبداعي النسوي لدينا أم ماذا؟.
•• تواضع القيمة الفنية، ورداءة المضامين الإبداعية؛ قاسم مشترك في أغلب المنتج الفني المحلي في حقل السرد لدى الجنسين، وليس في مهام الناقد أن يبرر للرداءة، أو أن يختلق للمنتج الإبداعي قيمة ليست له، مثلما أن جنس المبدع ليس شافعا له أن ينال تعاطف قارئه أو الناقد.
الإبداع النسائي المحلي يمثل حالة فريدة في استجلاب أعراس التصفيق، وحمى الطبول الاحتفائية، و«الفزعات» النقدية التي ساهمت في تكريس أسماء وأعمال بينها وبين الإبداع بقدر ما بين أولئك النقاد وبين النزاهة والموضوعية من مسافات زيف!
لكنني أستدرك فأقول إنني لا أنطلق في مقارباتي النقدية من قناعة سابقة ثابتة تجاه كل عمل، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومقاربة عمل ما تنطلق من داخله، إذ النص بنية لغوية تقرأ بمعزل عن كاتبها، ومثلما أن بعض طروحاتي النقدية تضمنت إشارات صريحة إلى تواضع القيمة الفنية في بعض الأعمال، فإنني في المقابل لا أغمط الجيد من الأعمال حقه بغض النظر عن هوية وجنس كاتبه، ثم لنقل أيضا إن النقد ليس مجرد إصدار فرمانات القبول أو الرفض تجاه المنتج الإبداعي، فثمة غوص فلسفي عميق، وقراءات سابرة فيما وراء التكوينات اللغوية والخزين النفسي والعاطفي؛ تكون المقاربة النقدية معها أشبه بكتابة موازية للكتابة الإبداعية.
• تعيب على أدباء وكتاب الإغراق في النقد وتصوير كل شيء على أنه قبح.. أليست عين الناقد كما نقول بصيرة ومن حقها أن تقرأ المشهد كما ترى؟
•• عين الناقد بصيرة، لكنها ليست عين سخط؛ وهذا هو الفرق. أشعر بغير قليل من الأسى حين أمر بصفحات بعض المبدعين والمثقفين في مواقع التواصل، أو أنصت لأحاديثهم، فلا أجد إلا السباب والشتائم، وهجاء كل شيء وكل أحد؛ وأتساءل: أأنت المبرأ الموفور؟!.
أعلم أن السيئات تملأ المشهد، لكن اللعائن لا تضيء في العتم شمعة، وما الذي يبقى من رواء المبدع حين يحترف الوقوف بكل طريق يهر السائرين، ويرجم العابرين بكل نقيصة.
الثقافة التي تمنحنا الوعي، وتنبه الناقد الحصيف في أعماقنا هي ذاتها التي تبصرنا بالجمال والوقوف عليه، وتتسامى فوق تضخم الذوات وفجوات النقص التي يحاول البعض ردمها بتصنع السخط وذم كل شيء.. وحتما: هو عبء على الحياة ثقيل من يرى في الحياة عبئاً ثقيلا!.
يرى الكتابة الساخرة شكلاً من أشكال التلقّي، لأنها بالنسبة له ابتكار، والمرأة لدينا مأزومة بعقد كثيرة أقلها أنها تضع نفسها فوق النقد وتتعامل بحساسية مفرطة تجاه كل مقاربة لواقعها الاجتماعي.
العديد من الآراء الجريئة في هذا الحوار مع الكاتب والقاص محمد الراشدي.. فإلى نصّ الحوار:
• تفريغ عملك الكتابي من محتواه الهادف إلى مجرد الضحك.. ألا يغضبك؟
•• أعتقد أنك تتحدث هنا عن الكتابة الساخرة، وعنها أقول إن الضحك شكل من أشكال التلقي، ولأجل ذلك فهو لا يغضبني أبدا، بل لا أبالغ إن قلت لك إنه عاجل البشرى بالنسبة للكاتب الساخر؛ فالطرفة حين تعانق السمع أو النظر للوهلة الأولى فإن أول مؤشر لبراعتها قدرتها على تفجير الضحكة، أو انتزاع البسمة لدى سامعها أو قارئها، ثم لاحقا يكون إمعان النظر في حمولاتها ودلالاتها ومفارقاتها، والطرفة التي لا تبعث على الضحك – ولو كان ضحكا كالبكاء – طرفة باردة أيا كان عمقها أو مضمونها.
وتأكيدا لذلك فحين قدم الناقد الدكتور: عبدالله الغذامي لكتابي (نكز – نصوص ساخرة) أشار إلى فكرة الضحك هذه، لكنه أشار معها في المقدمة ذاتها إلى متعة نصوصية تعيد قارئها – والكلام للغذامي – إلى مقولة (لذة النص) لرولان بارت، وتلك المتعة واللذة بالنسبة لي – وربما – لكل كتاب السخرية؛ هي الجسر الذي يمكن أن نعبر فوقه برؤانا وأفكارنا ورسائلنا إلى المتلقي، ولذلك فمن المهم جدا أن يكون ذلك الجسر متينا، ورحبا، ومشرعا على الدوام، خصوصا والكتابة الساخرة في مجتمعنا تشبه السير في حقول الألغام؛ كل خطوة فيها يمكن أن تكون مشروع موت أو حياة!
ثم إن اقتناص ضحكة في زمن الشفاه الموصدة بالحزن وكآبة الواقع مكسب ليس باليسير، حتى وإن لم يبرح وعي قارئك تلك الضحكة!
• لماذا تعمد إلى تقديم أفكارك وقناعاتك في قالب ساخر؟
•• أعتقد أن الفكرة تستدعي قالبها المناسب، وإذا كنا هنا نتحدث عن السخرية والضحك، فالذين قرأوا نصوصي القصصية تحدثوا عن قدر كبير من الحزن والألم وتمثيلات القهر – كما وصفها الناقد الدكتور صالح زياد - أي أن كل فكرة تتموضع في إطار يناسبها وفق رؤية كاتبها. وبالنسبة للسخرية فمعلوم أنها لا تعني بالضرورة مجرد الضحك، ففي أكثر اللحظات حلكة ووجعا تتخلق أقسى السخرية وأعمقها وأعلقها بالذاكرة، وانظر في سير الشعوب الساخرة متى ابتدأت بوصلة البوح عندها تتجه إلى السخرية واستدرار الضحك!
السخرية موقف من الحياة والأشياء والأحداث، وسلاح نجابه به القبح والرداءة وما ينغص الواقع، ورئة نلوذ بها من اختناقاتنا وتأزمات الحياة من حولنا، وأعتقد شخصيا أنها الأعمق في مخاطبة الوجدان والذاكرة، والأبقى أثرا.
• سخرت في إحدى مقاماتك من «قيادة المرأة للسيارة» عنونت لها بـ «اللباب في آداب ركوب النساء للدواب».. هل أنت ابتداء ضد قيادة المرأة؟ ولماذا بدوت ساخرا منها؟
•• ابتداء لست ضد قيادة المرأة للسيارة، ولا القطار، ولا الباخرة!
ولو أذن للنساء رسميا بقيادة السيارات في بلادنا اليوم، لجلست من الغد في مقعد الراكب، وتركت لزوجتي دفة القيادة، ووعثاء الطريق، ومصائد ساهر!
أما نص «اللباب في آداب ركوب النساء للدواب» فالطريف في أمره أن المتحمسين لفكرة القيادة يشاركونه على صفحاتهم في مواقع التواصل باعتباره ينتصر لفكرة قيادة المرأة للسيارة، والممانعين يشاركونه في المقابل ظنا منهم أن يسخر من فكرة القيادة تلك!
والنص في حقيقته لا ينتصر للفكرة ولا يقف ضدها، إنما هو في الواقع إسقاط ساخر على هذا اللغط الذي رافقنا أكثر من ربع قرن، تغيرت فيها معالم الأرض، ومحيت من الوجود خرائط واستبدلت بخرائط وما زلنا نقتتل عند (دركسيون) السيارة!
• أنت تفرط في الكتابة عن الأنثى بما يجعلها تبدو فارغة.. هل أنت من أعداء المرأة؟ ولماذا تبدو في كتاباتك مهاجما بعكس كتّاب كثيرين يبدون مدافعين عنها؟
•• أعداء المرأة؟!.. هذا تصنيف ضخم، وحاد، وأنا شخصيا لا أعرف محددات الانتماء إليه، إلا أن سؤالك يحيل على الكتابة التي تنتقد الظواهر الاجتماعية في شقها المرتبط بالمرأة، وإن كان فهمي دقيقا، وعلى ضوء هذا التصنيف فأنا عدو المرأة والرجل معا!!، فنقد السلوك الاجتماعي أو الظاهرة عندي يطال الرجل والمرأة على حد سواء، وما يظهر في بعض الأحايين باعتباره هجوما أو سخرية بأحدهما هو محاولة لتجسيم السلوك السلبي عن طريق نقيضه لدى الطرف الآخر، خصوصا فيما يتعلق بالعلاقات المعقدة بين طرفي الحياة في مجتمع زاخر السطح والعمق معا بتجليات شتى من العلاقات الممعنة في التعقيد والتناقض معا.
وإذاً فالمسألة ليست عداء لجنس بعينه، والعداء في ذاته ليس فضيلة، مثلما أن الانحياز المطلق نقيصة لا تبررها على الدوام مزاعم الإنسانية أو التعاطف أو الشفقة.
وأصدقك القول إن المرأة لدينا مأزومة بعقد شتى ليس أقلها أنها تضع نفسها في منزلة فوق النقد، وتتعامل بحساسية مفرطة تجاه كل مقاربة لواقعها الاجتماعي إلا أن يكون تعاطفا صرفا أو وقع طبول محتدمة، وتلك الحساسية أرصدها في أصداء ما أكتب ؛ فثمة قيامة صغرى متوقعة مع كل طرح يلامس واقعا سلبيا لدى المرأة في الداخل!
• تخلى ناقد كبير كالغذامي عن النقد الأدبي وأحل مكانه النقد الثقافي، أنت ترجع ذلك إلى إخفاق المشروع الحداثي وقصوره دون غاياته التي كان يترامى إلى تحقيقها.. كيف تقرأ حركة الحداثة الإبداعية لدينا؟ وما الذي كان ينقصها؟
•• الحداثة لا تخفق.. ولن تخفق.. الحداثة حتمية وجودية وتاريخية، وصيرورة مستمرة لا تتوقف، والذي أخفق تحديدا هو مشروع ما، ولد في حقبة ما، أسهم ظرفها التاريخي ومعطياتها في وأد ذلك المشروع، وانصراف القائمين عليه إلى اشتغالات شتى سوى المشروع القديم.
ولأنك ذكرت الغذامي تحديدا في سؤالك وبغض النظر عن بواعث انصرافه عن النقد الأدبي إلى الثقافي – ومن المؤكد أن إخفاق المشروع الحداثي أحدها – إلا أن ذلك لا يشرعن أبدا إقامة معمار النقد الثقافي فوق أنقاض النقد الأدبي، ومسألة أن يتحول الناقد من مشروع إلى مشروع فذاك أمر يخصه، لكن ليس شرطا أن يعبر الجديد فوق جثمان القديم، والتحاور والتجاور إحدى أهم سمات العلوم والفنون الإنسانية.
أما الحداثة فباقية مستمرة، والمنجز الجميل لحداثة الثمانينيات وما بعدها تسرب لاحقا إلى أجيال جديدة قادرة على القراءة الواعية والفهم العميق والتحاور المثمر مع ذلك المنجز خارج إطاره التاريخي واللغط الذي رافق المرحلة حينها، وانظر على سبيل المثال حجم التداول القرائي والنقدي لتجربة الشاعر محمد الثبيتي حاليا، وهو الذي لم يستطع ذات يوم من عمر تلك المرحلة إقامة أمسية شعرية أو حضور حفل تكريم له بسبب التجاذبات والصراع الهائل في حينه!.
• لدينا كتاب قصة كثيرون لكن هناك من يرى أن القصة قليلة جدا وسط هذا الكم الكبير من الكتابة.. ما الذي يقلل من القيمة الأدبية فيما ينتجه كتاب القصة وكاتباتها لدينا؟
•• هذا ليس في القصة وحدها؛ إنما في الفنون جميعا، ومقولة: (ما أكثر الشعراء وما أقل الشعر) تصدق أيضا على بقية أجناس الإبداع عندنا؛ والقصة من تلك الفنون التي تحقق على مستوى الكم حضورا كبيرا، لكن ذلك الكم يوشك أن يكون صفرا حين يتعلق الأمر باشتراطات القصة القصيرة، وعوامل نضجها وتجاوزها واختلافها. أستطيع القول واثقا إن القصة القصيرة محليا توقفت إبداعيا عند نهايات التسعينات الميلادية، وهي الحقبة التي شهدت بدايات الطفرة الروائية، والمنجز القصصي في الفترة اللاحقة على تلك الفترة اتسم بالهزال الفني، والضعف، والارتباك، وأسهمت نافذة الـ (ق ق ج) في عبور عشرات الأسماء التي لا تعرف من القصة إلا رصف الكلمات في أقل مساحة ممكنة.
القصة فن راق يشترط وعيا كاملا بأدواته ومتطلباته، واطلاعا واسعا على الناضج من تجاربه، وذخيرة لغوية، وحسا إبداعيا مرهفا، ولأن هذه المتطلبات غابت تماما في التجارب القصصية الحديثة لدينا؛ تراجعت القصة حتى أوشك هذا الفن الجميل أن يندثر.
• نشرت العديد من المقالات النقدية عن أعمال إبداعية في القصة والرواية لكاتبات سعوديات، الملاحظ في كتاباتك النقدية أنك كنت مباشرا في التقليل من القيمة الفنية لتلك الأعمال.. هل يعود هذا إلى قناعتك بضعف المنتج الإبداعي النسوي لدينا أم ماذا؟.
•• تواضع القيمة الفنية، ورداءة المضامين الإبداعية؛ قاسم مشترك في أغلب المنتج الفني المحلي في حقل السرد لدى الجنسين، وليس في مهام الناقد أن يبرر للرداءة، أو أن يختلق للمنتج الإبداعي قيمة ليست له، مثلما أن جنس المبدع ليس شافعا له أن ينال تعاطف قارئه أو الناقد.
الإبداع النسائي المحلي يمثل حالة فريدة في استجلاب أعراس التصفيق، وحمى الطبول الاحتفائية، و«الفزعات» النقدية التي ساهمت في تكريس أسماء وأعمال بينها وبين الإبداع بقدر ما بين أولئك النقاد وبين النزاهة والموضوعية من مسافات زيف!
لكنني أستدرك فأقول إنني لا أنطلق في مقارباتي النقدية من قناعة سابقة ثابتة تجاه كل عمل، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومقاربة عمل ما تنطلق من داخله، إذ النص بنية لغوية تقرأ بمعزل عن كاتبها، ومثلما أن بعض طروحاتي النقدية تضمنت إشارات صريحة إلى تواضع القيمة الفنية في بعض الأعمال، فإنني في المقابل لا أغمط الجيد من الأعمال حقه بغض النظر عن هوية وجنس كاتبه، ثم لنقل أيضا إن النقد ليس مجرد إصدار فرمانات القبول أو الرفض تجاه المنتج الإبداعي، فثمة غوص فلسفي عميق، وقراءات سابرة فيما وراء التكوينات اللغوية والخزين النفسي والعاطفي؛ تكون المقاربة النقدية معها أشبه بكتابة موازية للكتابة الإبداعية.
• تعيب على أدباء وكتاب الإغراق في النقد وتصوير كل شيء على أنه قبح.. أليست عين الناقد كما نقول بصيرة ومن حقها أن تقرأ المشهد كما ترى؟
•• عين الناقد بصيرة، لكنها ليست عين سخط؛ وهذا هو الفرق. أشعر بغير قليل من الأسى حين أمر بصفحات بعض المبدعين والمثقفين في مواقع التواصل، أو أنصت لأحاديثهم، فلا أجد إلا السباب والشتائم، وهجاء كل شيء وكل أحد؛ وأتساءل: أأنت المبرأ الموفور؟!.
أعلم أن السيئات تملأ المشهد، لكن اللعائن لا تضيء في العتم شمعة، وما الذي يبقى من رواء المبدع حين يحترف الوقوف بكل طريق يهر السائرين، ويرجم العابرين بكل نقيصة.
الثقافة التي تمنحنا الوعي، وتنبه الناقد الحصيف في أعماقنا هي ذاتها التي تبصرنا بالجمال والوقوف عليه، وتتسامى فوق تضخم الذوات وفجوات النقص التي يحاول البعض ردمها بتصنع السخط وذم كل شيء.. وحتما: هو عبء على الحياة ثقيل من يرى في الحياة عبئاً ثقيلا!.