alitawati@
لا أعلم ما الذي يمنع الإعلام العربي من توخي الصدق في إيصال المعلومة للمواطنين، خاصة فيما يتعلق بالقضايا المصيرية، مثل القضية السورية، في ضوء غموض الأمريكان وتآمر الروس والإيرانيين وتخاذل الأتراك وتواطؤ المندوب الأممي لسحب القضية إلى جادة فرعية قادت لأستانة (عاصمة كازاخستان)، بعيدا عن الطريق الرئيسي السريع الموصل لحل نهائي عبر جنيف والأمم المتحدة.
يذكرني ما يجري الآن في القضية السورية بما جرى للقضية الفلسطينية حينما فاجأتنا السلطة الفلسطينية بتوقيع ترتيبات أو اتفاقات أوسلو مع إسرائيل في 13 سبتمبر 1993. ولكن حينما نقضت إسرائيل الاتفاقات، فيما بعد، واستمرت في توسيع المستوطنات، حاول الفلسطينيون العودة للطريق الرئيسي عبر الأمم المتحدة ولكن العودة أصبحت عسيرة المنال.
والتاريخ اليوم يعيد نفسه، لتنطبق على العرب مقولة الناشط الاجتماعي الأمريكي راندال تيري Fool me once, shame on you; fool me twice, shame on me، تخدعني مرة، عيب عليك، أما أن تخدعني مرتين فعيب عليّ.
فبعد أن كانت روسيا وإيران ترفضان رفضا قاطعا إيجاد مناطق آمنة في سورية، فوجئنا بهما توافقان يوم الخميس الماضي على أربع مناطق تم التلاعب بالألفاظ في تسميتها لتبدو وكأنها (مناطق آمنة). والتسمية الغامضة المبتكرة لوصف المناطق الأربع المقترحة هي (مناطق خفض التصعيد) وتشمل أولاها (إدلب واللاذقية وحماة وحلب) وتشمل الثانية (شمال حمص) أما الثالثة فتشمل (غوطة دمشق) والرابعة تشمل (درعة والقنيطرة) في الجنوب. ولا تشمل المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري وحلفاؤه بالكامل ولا المناطق التي ينشط فيها الأكراد المدعومون أمريكيا، ولذلك فشلت تركيا في إقناع الحاضرين بمنطقة خامسة تضمن عدم تمدد الأكراد غربا لاستكمال السيطرة على كافة الحدود السورية الشمالية المحاذية لتركيا والحصول على منفذ لدويلة متوقعة على البحر المتوسط.
وبحسب تصريح لقائد عسكري روسي، يعيش في هذه المناطق المقترحة (2.67) مليون مدني إضافة لـ(41.500) مقاتل من المعارضة المسلحة. على أن تكون روسيا وإيران وتركيا ضامنة لتخفيف التوتر في هذه المناطق ويكون ذلك من خلال تشكيل قوات مراقبة خاصة من الدول الثلاث للدخول والخروج من هذه المناطق.
إذن، هذا الاتفاق لم ينشئ مناطق آمنة وإن كان يضفي الشرعية على وجود قوتين أجنبيتين معاديتين على الأراضي السورية، إضافة الى قوة متأرجحة تبدو صديقة رغم أننا لم نر منها على الأرض السورية ما يدل على ذلك. وليس هذا فحسب بل إن الاتفاق يعطي تلك القوى مهمات تنفيذية بمحاصرة مناطق تواجد قوات المعارضة والمجتمعات الحاضنة بدعوى المراقبة والتأكد من قطع كافة الإمدادات، خاصة العسكرية، التي يمكن أن تصل إليها وتقرير ما يجوز وما لا يجوز بعيدا عن الأمم المتحدة ومراقبيها.
وهذا ما أكده وليد المعلم، وزير خارجية النظام السوري، في مؤتمر صحفي بدمشق يوم الإثنين الماضي بأن اتفاق أستانة لم يتضمن نشر مراقبين دوليين تحت إشراف الأمم المتحدة، ولذلك فإن الحكومة السورية ترفض أي دور للأمم المتحدة أو لقوات تتبعها في مراقبة مناطق «خفض التصعيد» بالأراضي السورية.
كما أن هذا بالضبط هو ما حصل للفلسطينيين بعد أوسلو، حيث تم تشكيل فرق مراقبة مشتركة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في الضفة الغربية ما لبثت أن انقلبت إسرائيل عليها وألغتها بعد استنفاد أهدافها باعتقال من أمكن اعتقاله من الناشطين الفلسطينيين بدعوى الحفاظ على الأمن والسلام في الفترة الانتقالية التي لم تنته حتى هذه اللحظة، أي بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن. وحين حاول الفلسطينيون الاستعانة بمراقبين من الأمم المتحدة رفض الإسرائيليون ذلك وقالوا كلاما لا يختلف بالنص ولا بالمعنى عن كلام المعلم من أن اتفاقات أوسلو لم تنص على نشر مراقبين من الأمم المتحدة.
ويؤكد تصريح المعلم هذا مخاوف سبع مجموعات مسلحة ناشطة في مختلف المناطق السورية قبل توقيع الاتفاق من اعتبار إيران، التي هي قوة احتلال إقليمية، دولة ضامنة ورفضها لوجودها بهذه الصفة ولكن هذه المجموعات ما لبثت أن أذعنت في النهاية -طوعا أو كرها- بسبب علاقاتها الخاصة مع تركيا.
ويبقى أن أشير قبل الختام لدور مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية ستافان دي مستورا الذي لم توجه له انتقادات من الإعلام العربي مثلما وجهت لسلفيه الأخضر الإبراهيمي وكوفي عنان. فهذا الرجل الذي كان يقوم بدور «المعلق الرياضي» على معارك تدمير حلب وذبح سكانها، ولم يبد أي ردود أفعال ذات قيمة على حادثة الإبادة الجماعية بقصف خان شيخون بالكيماوي، ها هو اليوم وبعد مشاركته بمفاوضات أستانة وحضوره كشاهد زور باسم الأمم المتحدة على اتفاق يقرّ بأن إيران طرف أصيل في الصراع، يعلن بأنه سيستأنف محادثات السلام بين حكومة النظام والمعارضة في جنيف يوم الثلاثاء القادم، معبرا عن أمله في «التطبيق الكامل» لاتفاق أستانة وذلك لإضفاء الشرعية على هذا الاتفاق الذي يمكن السفاح من رقبة الضحية، ويثير التساؤلات أكثر مما يعطي من إجابات، ويعزز اليأس أكثر مما يبعث الأمل.
*كاتب ومحلل استراتيجي
altawati@gmail.com
لا أعلم ما الذي يمنع الإعلام العربي من توخي الصدق في إيصال المعلومة للمواطنين، خاصة فيما يتعلق بالقضايا المصيرية، مثل القضية السورية، في ضوء غموض الأمريكان وتآمر الروس والإيرانيين وتخاذل الأتراك وتواطؤ المندوب الأممي لسحب القضية إلى جادة فرعية قادت لأستانة (عاصمة كازاخستان)، بعيدا عن الطريق الرئيسي السريع الموصل لحل نهائي عبر جنيف والأمم المتحدة.
يذكرني ما يجري الآن في القضية السورية بما جرى للقضية الفلسطينية حينما فاجأتنا السلطة الفلسطينية بتوقيع ترتيبات أو اتفاقات أوسلو مع إسرائيل في 13 سبتمبر 1993. ولكن حينما نقضت إسرائيل الاتفاقات، فيما بعد، واستمرت في توسيع المستوطنات، حاول الفلسطينيون العودة للطريق الرئيسي عبر الأمم المتحدة ولكن العودة أصبحت عسيرة المنال.
والتاريخ اليوم يعيد نفسه، لتنطبق على العرب مقولة الناشط الاجتماعي الأمريكي راندال تيري Fool me once, shame on you; fool me twice, shame on me، تخدعني مرة، عيب عليك، أما أن تخدعني مرتين فعيب عليّ.
فبعد أن كانت روسيا وإيران ترفضان رفضا قاطعا إيجاد مناطق آمنة في سورية، فوجئنا بهما توافقان يوم الخميس الماضي على أربع مناطق تم التلاعب بالألفاظ في تسميتها لتبدو وكأنها (مناطق آمنة). والتسمية الغامضة المبتكرة لوصف المناطق الأربع المقترحة هي (مناطق خفض التصعيد) وتشمل أولاها (إدلب واللاذقية وحماة وحلب) وتشمل الثانية (شمال حمص) أما الثالثة فتشمل (غوطة دمشق) والرابعة تشمل (درعة والقنيطرة) في الجنوب. ولا تشمل المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري وحلفاؤه بالكامل ولا المناطق التي ينشط فيها الأكراد المدعومون أمريكيا، ولذلك فشلت تركيا في إقناع الحاضرين بمنطقة خامسة تضمن عدم تمدد الأكراد غربا لاستكمال السيطرة على كافة الحدود السورية الشمالية المحاذية لتركيا والحصول على منفذ لدويلة متوقعة على البحر المتوسط.
وبحسب تصريح لقائد عسكري روسي، يعيش في هذه المناطق المقترحة (2.67) مليون مدني إضافة لـ(41.500) مقاتل من المعارضة المسلحة. على أن تكون روسيا وإيران وتركيا ضامنة لتخفيف التوتر في هذه المناطق ويكون ذلك من خلال تشكيل قوات مراقبة خاصة من الدول الثلاث للدخول والخروج من هذه المناطق.
إذن، هذا الاتفاق لم ينشئ مناطق آمنة وإن كان يضفي الشرعية على وجود قوتين أجنبيتين معاديتين على الأراضي السورية، إضافة الى قوة متأرجحة تبدو صديقة رغم أننا لم نر منها على الأرض السورية ما يدل على ذلك. وليس هذا فحسب بل إن الاتفاق يعطي تلك القوى مهمات تنفيذية بمحاصرة مناطق تواجد قوات المعارضة والمجتمعات الحاضنة بدعوى المراقبة والتأكد من قطع كافة الإمدادات، خاصة العسكرية، التي يمكن أن تصل إليها وتقرير ما يجوز وما لا يجوز بعيدا عن الأمم المتحدة ومراقبيها.
وهذا ما أكده وليد المعلم، وزير خارجية النظام السوري، في مؤتمر صحفي بدمشق يوم الإثنين الماضي بأن اتفاق أستانة لم يتضمن نشر مراقبين دوليين تحت إشراف الأمم المتحدة، ولذلك فإن الحكومة السورية ترفض أي دور للأمم المتحدة أو لقوات تتبعها في مراقبة مناطق «خفض التصعيد» بالأراضي السورية.
كما أن هذا بالضبط هو ما حصل للفلسطينيين بعد أوسلو، حيث تم تشكيل فرق مراقبة مشتركة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في الضفة الغربية ما لبثت أن انقلبت إسرائيل عليها وألغتها بعد استنفاد أهدافها باعتقال من أمكن اعتقاله من الناشطين الفلسطينيين بدعوى الحفاظ على الأمن والسلام في الفترة الانتقالية التي لم تنته حتى هذه اللحظة، أي بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن. وحين حاول الفلسطينيون الاستعانة بمراقبين من الأمم المتحدة رفض الإسرائيليون ذلك وقالوا كلاما لا يختلف بالنص ولا بالمعنى عن كلام المعلم من أن اتفاقات أوسلو لم تنص على نشر مراقبين من الأمم المتحدة.
ويؤكد تصريح المعلم هذا مخاوف سبع مجموعات مسلحة ناشطة في مختلف المناطق السورية قبل توقيع الاتفاق من اعتبار إيران، التي هي قوة احتلال إقليمية، دولة ضامنة ورفضها لوجودها بهذه الصفة ولكن هذه المجموعات ما لبثت أن أذعنت في النهاية -طوعا أو كرها- بسبب علاقاتها الخاصة مع تركيا.
ويبقى أن أشير قبل الختام لدور مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية ستافان دي مستورا الذي لم توجه له انتقادات من الإعلام العربي مثلما وجهت لسلفيه الأخضر الإبراهيمي وكوفي عنان. فهذا الرجل الذي كان يقوم بدور «المعلق الرياضي» على معارك تدمير حلب وذبح سكانها، ولم يبد أي ردود أفعال ذات قيمة على حادثة الإبادة الجماعية بقصف خان شيخون بالكيماوي، ها هو اليوم وبعد مشاركته بمفاوضات أستانة وحضوره كشاهد زور باسم الأمم المتحدة على اتفاق يقرّ بأن إيران طرف أصيل في الصراع، يعلن بأنه سيستأنف محادثات السلام بين حكومة النظام والمعارضة في جنيف يوم الثلاثاء القادم، معبرا عن أمله في «التطبيق الكامل» لاتفاق أستانة وذلك لإضفاء الشرعية على هذا الاتفاق الذي يمكن السفاح من رقبة الضحية، ويثير التساؤلات أكثر مما يعطي من إجابات، ويعزز اليأس أكثر مما يبعث الأمل.
*كاتب ومحلل استراتيجي
altawati@gmail.com