-A +A
بدر بن سعود
الصحافة تستخدم شهادة العيان لاعطاء الاخبار شرعية ومصداقية، عملاً بالقول العربي القديم" ليس من سمع كمن رأى" وتحييداً لنشاط وكالة انباء"يقولون" صاحبة الجمهور الواسع في السعودية والخليج، بــل واصبحت الشهادة ملمحاً مهماً في الممارسات الصحفية الاحترافية، خصوصاً بعد التطور التقني في ادوات نقل الاخبار للجريدة والمحطة ، والمعلوم ان الصحـــــافة تستفيـــد من التفسيــــرات السائدة بين الناس لتمرير مواقفها او الملابسات الغامضة والمشكوك فيها، وان كانت متجاوزة، والصيغــة المتداولة حالياً للشهادة الصحفية او الاعلامية، قد تظهر بصورة اوضح، في النقل التلفزيوني المباشر، الاخبار العاجلة، او في برامج تلفزيون الواقع.
اما في عالم الجريمة فالشهادة دائماً محل نظر، وقاعدة سوء الظن من حسن الفطن، لها مكانها الاثير والمحفوظ في العقلية الجنائية، وكتب تيم غراهام (2003) بأن الشرطة في تحقيقاتها، لاتتعامل مع شهادة العيان باعتبارها ناقلا امينا للحقيقة، وتشكك في مصداقيتها واغراضها، ما لم تؤكدها ملابســات اخرى. واميل الى الــــرأي الأخير، وليت الاعلام يستفيد من تجارب الأمن في هذه المسألة، لان الشاهد قد يوظف انطباعاته الشخصية واستنتاجاته، وربما خياله في اعادة تأثيث الواقع، و النتيجة أن حضوره في المكان قد يأتي شكلياً ومكملا للمشهد وليس حقيقياً، أي أنه قد يكون "ساهم" او بالعامية "مسرح"، تماماً كـ"لوحة" معلقــة في ممر، و الشخص اياً كانت مهنته قد يبالغ احيـــاناً فـــي وصف الاشياء، والدليل ان كريستوفر كولمبوس، عندما اكتشف امريكا سنة 1492، قال ان فيها انهارا كثيرة مملـــــوءة بالذهب، وطبعاً الذهب موجود في عقل كولمبوس وليس على الأرض، والشهادة كائن متحفي ولد مشوهاً في بداياته الصحفية، فقد روجت المانيا في سنة 1511، شهادات ملفقة عن الاسطول الحربي الاسباني لخدمة مصالحها ومصالح اصدقائها، وايضاً المنحوتات التاريخية عن الحروب لم تكن دقيقة، واجتهدت في معظم الحالات لتمجيد من تُمثل، وينسحب مفهوم شهادة العيان، على هيئة المحلفين في المحاكم الغربية، لانها تعتمد فكرة المشاهدة الشخصية والمشاركة في تطبيق العدالة، و هنا ملاحظة تستحق التأمل فعلاً، فبعض المؤسسات القضائية في العالم العربي، استعانت بالمصادر الغربية في صياغة مجموعة من نصوصها القانونية، وتركت الممارسة المهمة لهيئة المحلفين مركونة على الرف.

ثم ان شهادة العيان الصحفية تستبد بها الرومانسية، ولا تختلف بأي حال عن كتابة التجارب الشخصية والسير الذاتية، او "الجوابات" والمراسلات البريدية الدافئة بين شخصين، وفيها تكريس لمجد شخصي، كما هو الحال في "يوميات برلين- 1941" للصحفي ويليام شايرر، او حكاية الصحفي ارني بايل في الحرب العالمية الثانية في فيلم" جي.آي. جاوي – 1945» ومعهما ابن بطوطة الالماني، او سندباد القرن السادس عشر، كـريستوف شورال، الذي وصفه مارتن لوثر بأنه "عين المانيا واذنها"، ولا ادري اذا كان يرى ويسمع على طريقة جهاز التسجيــــل وكاميرا الفيـــديو، او انه مزود بتقنية مونتـــاج لغـربلة المواقف غير المنسجمـة و الاصوات المزعجة، واليوم يتنافس على اللقب اكثر من صحفي عربي وخليجي ، وكتب كوتلر اندريوس (1955) بأن ما يميز المراسلة الصحافية في اوقات الحروب والازمات والكوارث، هـــو اعتمــادها على الاثارة، المبالغة، الكذب الصريح، التمجيد الوطني، تشويه سمعة المخالفين او الخصوم وشهادات العيان المتخيرة والملفقة.
بالتأكيد شاهد العيان الصحفي، قد يأخذ الشهادة من غيره حبياً او بمقابل مالي، ثم يبدأ في وضع سيناريو لها وفق تصوراته، ويصنع منها كوميديا او تراجيــــــديا، حسب المزاج والحالة النفسية، مع انه لم يشاهد بعينيه او يحضر، وفي العادة يركز على نقاط محددة ويستخدم صيغتي المتكلم والغائب في السرد، والقارئ او المشاهد لا يناقش هذه الصيغ و يقبل بها دون تحليل او محاولة للتفسير، والموضوع يحتاج الى اخصائي نفسي لتوضيح الاسباب، ولا انسى الطبيعة العاطفية للصورة او الكلمة ودورها المؤثر، وفي الحالة البريطانية ايام الحرب العالمية الاولى، كان الكولونيل ارنست سوينتون، مصدراً لمعظم شهادات العيان الصحفية في الصحافة البريطانية، وقد حققت الحكايات الانسانية التي قدمها للصحافة، ارقام توزيع عالية حول العالم في ذلك الوقت، والكولونيل وفر اخباره طوعاً وبدون مقابل خدمة للصالح العام، ودفع ثمناً مكلفاً للتعاون، لان الرقابة العسكرية على الاعلام كانت صارمة، والطريف ان العسكريين كانوا هم المصادر باستمرار، والمفاجأة الثانية ان غير المختص ، دخل على الخط، وصار شاهداً صحفياً ومنهم: صاحب كاميرا الفيـــديو الكلاسيكية التي صـورت سنة 1991 ضـــــرب رجال أمـــــــن بيض من شرطة لوس انجليس، للامريكي من اصل افريقي، رودني كنغ ، ومقاطع كاميرا الموبايل المصورة بمعرفة المتواجــــــدين في مواقع تفجيرات 7/7 اللندنية، وفي الحالتين استفاد الاعلام من تسجيلات الهواة في التغطيات وكشف المستور... شهادة العيان اعطت الصحفيين سلطة خطيرة في مواقف تاريخية مهمة، كالحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام وتحرير الكويت واحتلال العراق ومشهد اعدام صدام المصور بكاميرا الموبايل، وفي كتابة الصحفي لتجاربه الشخصية مع قيادات سياسية ماتت او لا زالت تتنفس، ولكنها لا تقرأ، والمفروض ان تدرس الشهادة قبل القبول بها كوثيقة او دليل، فالتحريف و الحذف والاضافة امور متوقعة وواردة جداً، والغريب ان الصحفي لا يتجرأ على الشهادة الا اذا كان الشاهد الوحيد عليها....!
binsaudb@ yahoo.com