-A +A
سمير عابد شيخ
من المؤسف حقًًّا أنّ زيادة المعاناة البشرية تفتح نافذة للمتربصين بسوء استغلالها لمصالحهم الذاتية. أعترف أن لبعض المؤسسات المستفيدة دورًا ايجابيًا في تخفيف معاناة المعوزين وإن كان ذلك بتكلفة عالية عليهم.. يبرز من بين هؤلاء بنك (جرامين) الذي نشط في بنجلاديش في عمليات "القروض متناهية الصّغر" (micro lending). يذكر أن هذا البنك ومؤسسه د.محمد يونس حصلا على جائزة نوبل لجهودهما في توفير الخدمات المالية لأفقر الفقراء، كما تقول مجلّة (التمويل والتنمية). وبرغم الحاجة لخدمات البنك، إلاّ أن عددًا من الاقتصاديين انتقدوا ارتفاع نسب الفوائد المفروضة على الفقراء التي تبلغ 35% سنويا أحيانًا. ومع اتساع رقعة الفقر على كوكب الأرض، تنامت أنشطة مؤسسسات (التمويل متناهي الصغر) حتى قفزت من 78 مؤسسة في عام 2000، حتى بلغت 420 مؤسسة أقرضت 64 مليونًا في عام 2006، حسب احصاءات صندوق النقد الدولي الواردة بالمجلة المذكورة أعلاه. الى هنا تظل القصّة جميلة ويمكن أن تكون (سيناريو) لفيلم قديم بطولة (شكري سرحان) مثلا! لكن بمجرّد أن تستيقظ البنوك الدولية لما يجنيه (بنك جرامين) من نسب فوائد فائقة، يتبدّل السيناريو ليصبح فيلمًا أمريكيًا عن مصاص الدماء (دراكولا)! فينتقل المنظر الى دولة المكسيك التي تعتبر مسرحًا عريضًا لشتى أنماط الفقر والعوز وما يرافقهما من التعاسة.
هناك تقوم أكبر مخازن التسوّق بالولايات المتّحدة بالحصول على ترخيص مصرفي (بعيد عن مجال عملها) من حكومة المكسيك، ثم تقوم بفتح فروع لبنوك تقسيط صغيرة داخل مخازنها التي تنتشر في المكسيك. هذه الخدمة التي يحتاجها الفقراء بالفعل، يتم استغلالها بفرض فوائد فلكية، كما تقرر مجلّة (بزنس ويك) الأمريكية بعدد 13\12\2007م، إذ تقول المجلّة: إن جهاز تلفاز حجم 32 بوصة يباع بمبلغ 957 دولارا نقدا، بينما يباع بالتقسيط بمبلغ 1476 دولارا، أي بزيادة تبلغ 86% خلال عام واحد فقط.

المحزن أن هؤلاء الفقراء لا يعرفون احتساب نسبة الفائدة التي سيدفعونها، كما أنّ لوحات الأسعار الكبيرة والجذّابة تركّز على القسط الأسبوعي وليس كامل المبلغ الذي سيدفعه الضحية خلال العام، لهذا فلقد أصبح من أبجديات هذا العمل التركيز والترويج على البيع بالتقسيط وتجنّب البيع النقدي، لأنّ التقسيط يحقق أرباحًا أضعاف ما يحقه البيع النقدي، كما أنّ البيع للفقراء يدرُّ أرباحًا أكثر من البيع للأغنياء. ولقد لخّص هذه الحكمة المريضة أحد مديري هذه الشركات قائلا: "اذا أردت أن تكون غنيا، عليك ان تبيع للفقراء".
فالسيطرة على الإنسان الفقير أيسر بكثير من رديفه الغني. فإذا عجز أحدهم عن الدفع سيجد مندوبي الشركة يستحوذون على مقتنياته الأخرى المرهونة للشركة، كما أنه قد يجد صورته معلّقة على أعمدة الانارة في القرية تشهيرًا بسمعته وطعنًا في أمانته وانذارًا بعدم التعامل معه. قد يقول القارئ إنّ هذه حالة فردية لشركة أمريكية جشعة! لكن الحقيقة أنّ هذا الجشع أخذ ينتشر بين كبرى المؤسسات المالية الدولية؛ فلقد اقتحمت مجموعة (سيتي جروب) الأمريكية هذا النشاط من خلال فروعها الـ 127 في المكسيك. كما قام بنك (اتش.اس.بي.سي) العملاق بشراء حصة في أحد البنوك المكسيكية المتخصصة في هذا النوع من الإقراض. ولقد أغرى جهل الفقراء المساكين شركات التأمين الغربية، فقامت شركة خدمات زيوريخ المالية السويسرية، بتسويق (بوالص) تأمين تباع بجانب هذه القروض الظالمة. والذي أخشاه هو انتقال هذا النوع من القروض إلينا، خصوصا بعدما أدى انهيار البورصة والغلاء الفاحش لانزلاق بعض الموطنين إلى خطوط الفقر. والذي أتمنّاه أن تستحدث وزارة التجارة نظامًا يفرض على مقدمّي خدمات التقسيط توضيح كامل المبلغ ونسبة الربح التي سيدفعها المستفيد من هذه الخدمات، حتى لا يقع المواطنون في شباك الجشع والطمع المقنّن.
Samirabid@Yahoo.com