-A +A
محمد سيدي *
يتبدَّى لنا الشعر ـ على الدوام ـ فن الفنون جميعها.. أو الفن الذي يحتوي كل الفنون ويتضمنها ويستثمرها في التعبير عن ذاته، وفي الكشف عن حضوره، وفي سعيه نحو التجسد والتمظهر والاكتمال.. فهو ـ أي الشعر ـ يستثمر اللغة بكافة مستوياتها وتجلياتها، بقدر ما يستثمر الصورة، ويستثمر القص والسرد، ويستثمر الموسيقى، ويستثمر المسرح، وما إلى ذلك. غير أنه يبقى ـ بعد ذلك كله ـ محتفظا بكينونته وهويته الخاصة، وهي الكينونة التي يصعب توصيفها أو القبض عليها. لكننا نشعر بها على الدوام ونستطيع التعرف عليها بسهولة، حالما نواجه خطابا أدبيا ما، فنسارع إلى وصفه بالشعر. ذلك أن الشعر يظل قادرا على الوصول إلينا والتأثير فينا، حتى وإن عجزنا نحن عن الوصول إليه أو القبض على جوهره وحقيقته.

في تجربة شاعرنا (محمد أبو شرارة).. تتبدى لنا في الشعر كل العناصر والسمات التي أشرنا إليها آنفا. فالشعر عنده استثمار لكل طاقات الخطاب الأدبي إن جاز الوصف. واستفادة من كل الأشكال الفنية التي يعبر بها الفنان عن نفسه. فقصيدة (أبي شرارة) مغامرة دائبة في فضاءات الكتابة الشعرية، من حيث الشكل أولا، ومن حيث المضامين والرؤى والأفكار ثانيا.. فهي تتوزع بين أشكال الكتابة الشعرية الثلاثة (العمودي، والتفعيلة، والنثر).. وتتغيا أن تعبر عن نفسها من خلال هذه الطرق الثلاث، مستثمرة الطاقات التعبيرية والإمكانات الإيقاعية لكل شكل من هذه الأشكال، بما يتلاءم مع مضمون النص، وجوه النفسي، وأفقه الفكري والحدسي، ومجازاته وصوره وفضائه البلاغي الخاص. فالقصيدة عند شاعرنا تجربة تختار شكلها وتتماهى به وتتجسد من خلاله، وتتواشج عضويا إلى الحد الذي لا يترك مجالا للتعسف أو الافتعال أو التوظيف السطحي العابر للشكل الشعري، حيث يتبدى الشكل عندها هو عين القصيدة والقصيدة عين الشكل.


أما مضامين شاعرنا وحدوسه وكشوفه ومناطق بحثه فهي تتوزع على رقعة واسعة من فضاءات ذاته الشاعرة. فإذا كان الإنسان ـ من حيث الأصل ـ (عالما أكبر) بحد ذاته، تتجمع فيه كل العوالم والأكوان، وتتجسد فيه كل الخبايا والأسرار؛ فإن الشاعر الحق هو أفضل من يمكن له أن يجلي لنا هذه الرحابة التي تنطوي عليها ذات الإنسان، وهذه القدرة على الجمع بين كل مكونات الوجود، بكل تمايزاتها واختلافاتها، وبكل ما قد يتراءى لنا بينها من تناقض أو تضاد. حيث تنتهي الذات الشاعرة أخيرا إلى أن تكون معرضا لآلاف الصور، وآلاف الأفكار، وآلاف المشاعر والمواقف والتمظهرات.

قصيدة (أبي شرارة) قصيدة مسكونة بالحرية والحب والموت والمشاعر القومية والقيم الأخلاقية واللغة الدينية واستحضار التراث. فالقصيدة عنده مصهر لكل هذه القضايا والمشاعر والموضوعات، وتعبير عن ذاته المرهفة والثائرة في ذات الآن: الشاعرة بأوجاع الإنسان وآلامه، المتعاطفة مع انكساراته وسقطاته، التائقة إلى هدهدته والتخفيف عنه، الحالمة بعالم أفضل يخلو من كل ما من شأنه أن يؤذي وجود الإنسان أو ينغص عليه، أو ينتهك حقا من حقوقه الإنسانية المعتبرة. والثائرة كذلك على كل ما يمكن له أن يحول بين الإنسان وبين أن يحقق وجوده، وأن ينعم بحريته وكرامته وأن يهنأ بالعيش اللائق والكريم.

يقول شاعرنا في نص بعنوان (مقتل كليب):

(سرقوا التفاح.. والزيتون.. واللوز وأفراخ الحمامة /‏ سرقوا ملح جبينك /‏ وشفاهك /‏ ونخيلا.. وكروما ورحيق الياسمينات وأشذاء الليالك /‏ سرقوا منك العمامة /‏ جففوا ماء الكرامة /‏ من ترابك).

ولا يتوقف نشدان الحرية عند شاعرنا عند حد المطالبة الصارخة، أو الشكوى المباشرة من ضياع المكتسبات والحقوق. بل يترقى الأمر عنده إلى التأكيد على أن الحرية هي جوهر الإنسان وحقه الممنوح له منذ الأزل، الذي لا يمكن له أن يتجسد أو يتحقق من دون الحصول عليه: (قال لي: ونفخت... /‏ فكن ما تشاء /‏ الفراديس بين يديك /‏ اجترح ما تشاء /‏ وخذ ما تشاء، ابتكر عالمك).

وتستمر الذات الشاعرة في بحثها الدائب عن التحقق، وفي توقها إلى التحرر من قيود الواقع وأثقاله، ثائرة ورافضة، وحالمة ومبشرة في ذات الوقت:

(تحاصرني أعين العابرين الذين ينامون فوق رصيف الحياة بلا أي معنى /‏ يسرون خلف الدراويش /‏ يلتقطون فتاة الحياة ولا يسأمون ولا يعلمون /‏ ألا أيها الليل إني أرى أنجما آفلات /‏ وفجرا يبدد هذا الحلك).

ويثور الشاعر ضد ذاته حتى، التي هي تلخيص للذات الجمعية التي يتوخى مواجهتها وهزها وإيقاظها من سباتها الطويل، حيث يقول في نص بعنوان (نفاق):

(أصبحت ضدي كل شيء منكر * حتى ثيابي صرت فيها منكرا

ثوبي يقيدني، وسمرة جبهتي * وجعي، وتاه بي السبيل لكي أرى

في داخلي ضدان، وجه حقيقتي: * أني سواي، وأن وجهي مفترى).

أما في الحب فتتجلى ذات شاعرنا شفافة حالمة، تتوسل لغة رقيقة ندية، حافلة بكل ما يمكن لها أن تحفل به من تعبيرات شعرية دافئة ومرهفة:

تجيئين لا تحتويك اللغى * أشف من الحلم المبتغى

تطلين من شرفة النهوند * من ضحكة الطفل لما نغا

ويقول في نص بعنوان (دوزنة):

بيدي سنبلت الحقول الخضر برعمت النخيلا

وجدلت أجنحة الشموس خلقت من ألق خيولا

ورسمت للتفاح نهدا واعتصرت الزنجبيلا

الحسن ترسمه يداي جدائلا وفما خجولا

ومن الحب إلى الموت الذي لا تراه الذات الشاعرة فناء أو نهاية، بقدر ما تراه ميلادا وشروقا جديدا.. يقول شاعرنا من نص نثري:

(الموت انعتاق وتخلق /‏ تخلع الروح قميصها /‏ وتحطم قضبان الطين /‏ كالبذر و تثقب جدار القشرة الأرضية /‏ كالينابيع الدافقة بالخصب والنماء /‏ كرصاصة تثقب السماء في عرس ريفي)

(الجسد قميص الروح الجبري /‏ قبر مل من تزاحم الأضداد).

وهكذا يستمر (محمد أبو شرارة) في ترحاله الدائم في فضاءات ذاته الشاعرة.. حالما، وثائرا، وعاشقا، ومتمردا على نفسه، وواقعه الاجتماعي، راغبا في تحقيق تحرره بأشمل ما يمكن أن يكون لذلك التحرر من معنى.. حين يكون تحررا حتى من سجن الجسد وظلماته الخانقة.. وتوقا حارا، وعارما إلى عالم روحي نقي ورائق وراق، لا تعيش فيه إلا الأرواح السامية.. التي لا تعرف الدنس، ولا يعلق بها شيء من أدران الوجود الأرضي الخانق والمظلم والكئيب!.

* شاعر وناقد