أسفل الصفحة في الجريدة إعلان مربع صغير، يشير إلى أن المتنزه الذي على طرف الصحراء سيقيم استعراضا للدلافين.
ملأت رائحة البحر حجرات صدري، غمر الزبد وجهي، وتناثر الرذاذ المالح فوق شحوب الظهيرة، بينما ازدحمت صالة منزلي بصفير الدلافين وصياح النوارس.
الدلافين وجلدها الفضي الصقيل، وزعانفها المصفقة بالضحكات، تنزلق في رغوة الموج، ثم ترتد مع المد وقد نبتت على زعانفها الأشرعة والأصداف.
طرت بإعلان الجريدة لزوجي قائلة: «سيكون خيارا مناسبا لعطلة نهاية الأسبوع، بدلا من التحديق في الظلمة الخاملة داخل مطعم تسورت ستائره بساتر، حتى إذا وصلنا لطاولتنا، وجدنا أن الناس نسوا ثرثرتهم فوقها وغادروا، فترتفع بقايا الثرثرة ودخانها بيني وبينك فلا أعود أراك».
لكن الآن سنغطس أرواحنا بموج الدلافين، ومن ثم سنبتاع فطائر نقضمها مع أكواب شاي على طرف الصحراء.
حين وصلنا لم يكن داخل المكان ما يميزه عن المتنزهات التي نبتت فوق كثبان «الثمامة»، أسوار أسمنتية تطوق بعض الغرف المتناثرة داخلها، وتلتف حولها ممرات أصفر عشبها، لم يكن هناك ما يشير إلى سرب دلافين وزبد موج. الجو المرتخي والعمال الهنود وخطواتهم المنهكة المتبرمة من المسؤوليات، ناشرين حول أجسادهم هالات بنية غامقة، ولكن كان باستطاعتهم أن يخبرونا عن موقع بحر الدلافين.
أشاروا إلى مبنى مستطيل مغلق بلا نوافذ يوجد في جداره الشرقي شق طويل، يبدو كمرآب سيارات هائل، مطلي بلونين علوي أبيض والجزء السفلي لربما كان أزرق في يوم ما، نرقى إلى مدخل المبنى عبر درج حديدي صعد بنا إلى بوابة صدئة، تنفتح على بركة ماء ضخمة تحفها ثلاثة مدرجات حديدية بلا طلاء، شعرت أن الذي صنعها هو نفس من صنع درج البوابة، بينما رائحة كلور نفاذة تعبق في المكان.
رائحة الكلور ذكرتني بالمسابح وسربت لي شهوة القفز والابتلال، لكن استوقفنا بعد بضع خطوات من البوابة الصدئة رجل صدئ أيضا، شفتاه مبرومتان كحبل متهرئ وأسنانه فوقها خطوط صفراء رفيعة، وأشار إليّ بأصبعه إلى مقاعد النساء فوق المدرجات الحديدية، وبذقنه دون أن يتحدث أشار لزوجي للجهة المقابلة حيث مقاعد الرجال، أطفالنا لم يكترثوا بالترتيبات بقدر ترقبهم الدلافين التي ستوزع علينا رذاذ الموج.
وسللت يدي من يد زوجي وتوجهت لمقعدي ولم ألتفت خلفي خفت أن أفر وأتراجع، كان صوت آلات فلاتر الماء يئز حولي، وأضواء الفلورسنت تنعكس على الماء فتظهر على شكل لطخات زرقاء معتمة.
لم يكن حولي فوق مدرجات الحديد سوى بضعة نساء يرقبن المشهد بخدر من خلف طمأنينة النقاب، وأطفالهن بأيديهم قراطيس رقائق بطاطس خشخشتها المتصلة تثير الحنق.
أحست بالوحشة، فأخذت أتبادل التلويحات مع أطفالي القابعين في الضفة المقابلة، وبالكاد نسمع كأكأة اثنين من الدلافين في أقصى حوض الماء، لم تبالِ بالاستعراض بقدر لهفتها على سميكات صغيرات يلوح بها المدرب الأشقر. ولتأخر العرض وإحساسي بالضمور، استغرقني تأمل الرسومات والبقع التي صنعها عبق الماء في السقف، كانت هناك قوافل وخيام وتلال.
ولم أفطن عندها إلى أحد الدلافين وقد خرج من المسبح حبواً على غفلة من المدرب ونبتت له أطراف، قبل أن يتحول إلى ناقة هائلة شربت ماء المسبح كله.... ثم مضت متوغلة في كثبان الثمامة وبطنها يرتج بالماء. وعندما فرغ المسبح من الماء، وجدت أنه لم يعد هناك من مسوغ لمكوثنا، أخذت أبحث عن باب الخروج الخاص بالنساء، لأفر من متنزه يقبع مستوحشا على طرف الصحراء.
* روائية سعودية
ملأت رائحة البحر حجرات صدري، غمر الزبد وجهي، وتناثر الرذاذ المالح فوق شحوب الظهيرة، بينما ازدحمت صالة منزلي بصفير الدلافين وصياح النوارس.
الدلافين وجلدها الفضي الصقيل، وزعانفها المصفقة بالضحكات، تنزلق في رغوة الموج، ثم ترتد مع المد وقد نبتت على زعانفها الأشرعة والأصداف.
طرت بإعلان الجريدة لزوجي قائلة: «سيكون خيارا مناسبا لعطلة نهاية الأسبوع، بدلا من التحديق في الظلمة الخاملة داخل مطعم تسورت ستائره بساتر، حتى إذا وصلنا لطاولتنا، وجدنا أن الناس نسوا ثرثرتهم فوقها وغادروا، فترتفع بقايا الثرثرة ودخانها بيني وبينك فلا أعود أراك».
لكن الآن سنغطس أرواحنا بموج الدلافين، ومن ثم سنبتاع فطائر نقضمها مع أكواب شاي على طرف الصحراء.
حين وصلنا لم يكن داخل المكان ما يميزه عن المتنزهات التي نبتت فوق كثبان «الثمامة»، أسوار أسمنتية تطوق بعض الغرف المتناثرة داخلها، وتلتف حولها ممرات أصفر عشبها، لم يكن هناك ما يشير إلى سرب دلافين وزبد موج. الجو المرتخي والعمال الهنود وخطواتهم المنهكة المتبرمة من المسؤوليات، ناشرين حول أجسادهم هالات بنية غامقة، ولكن كان باستطاعتهم أن يخبرونا عن موقع بحر الدلافين.
أشاروا إلى مبنى مستطيل مغلق بلا نوافذ يوجد في جداره الشرقي شق طويل، يبدو كمرآب سيارات هائل، مطلي بلونين علوي أبيض والجزء السفلي لربما كان أزرق في يوم ما، نرقى إلى مدخل المبنى عبر درج حديدي صعد بنا إلى بوابة صدئة، تنفتح على بركة ماء ضخمة تحفها ثلاثة مدرجات حديدية بلا طلاء، شعرت أن الذي صنعها هو نفس من صنع درج البوابة، بينما رائحة كلور نفاذة تعبق في المكان.
رائحة الكلور ذكرتني بالمسابح وسربت لي شهوة القفز والابتلال، لكن استوقفنا بعد بضع خطوات من البوابة الصدئة رجل صدئ أيضا، شفتاه مبرومتان كحبل متهرئ وأسنانه فوقها خطوط صفراء رفيعة، وأشار إليّ بأصبعه إلى مقاعد النساء فوق المدرجات الحديدية، وبذقنه دون أن يتحدث أشار لزوجي للجهة المقابلة حيث مقاعد الرجال، أطفالنا لم يكترثوا بالترتيبات بقدر ترقبهم الدلافين التي ستوزع علينا رذاذ الموج.
وسللت يدي من يد زوجي وتوجهت لمقعدي ولم ألتفت خلفي خفت أن أفر وأتراجع، كان صوت آلات فلاتر الماء يئز حولي، وأضواء الفلورسنت تنعكس على الماء فتظهر على شكل لطخات زرقاء معتمة.
لم يكن حولي فوق مدرجات الحديد سوى بضعة نساء يرقبن المشهد بخدر من خلف طمأنينة النقاب، وأطفالهن بأيديهم قراطيس رقائق بطاطس خشخشتها المتصلة تثير الحنق.
أحست بالوحشة، فأخذت أتبادل التلويحات مع أطفالي القابعين في الضفة المقابلة، وبالكاد نسمع كأكأة اثنين من الدلافين في أقصى حوض الماء، لم تبالِ بالاستعراض بقدر لهفتها على سميكات صغيرات يلوح بها المدرب الأشقر. ولتأخر العرض وإحساسي بالضمور، استغرقني تأمل الرسومات والبقع التي صنعها عبق الماء في السقف، كانت هناك قوافل وخيام وتلال.
ولم أفطن عندها إلى أحد الدلافين وقد خرج من المسبح حبواً على غفلة من المدرب ونبتت له أطراف، قبل أن يتحول إلى ناقة هائلة شربت ماء المسبح كله.... ثم مضت متوغلة في كثبان الثمامة وبطنها يرتج بالماء. وعندما فرغ المسبح من الماء، وجدت أنه لم يعد هناك من مسوغ لمكوثنا، أخذت أبحث عن باب الخروج الخاص بالنساء، لأفر من متنزه يقبع مستوحشا على طرف الصحراء.
* روائية سعودية