-A +A
وليد احمد فتيحي
أوقفني صاحبي وصديقي وزميل عملي وهو خارج من غرفة العمليات، وأنا أقوم بجولتي اليومية في المستشفى فقال لي: غاب عنا قلمك وأفتقدنا كلماتك التي كنا نقرأها في عمودك الأسبوعي .. فأجبته قائلاً: كلما رفعت قلمي لأخط به كلمات أحاول واجتهد أن أُصلح بها فاسداً مما أرى وأعايش كل يوم، تذكرت انني على مدى قرابة عقدين من الزمن قد تناولت الموضوع وكتبت عنه وفنّدَت وأسهبت وأقترحت مرة أو أكثر على قدر فهمي وعلمي. فلم أجد في واقع الحال للقلم والكلمة قوة التغيير التي رأيت وعايشت على مدى عقدين من الزمن وأنا في أمريكا، بل وكلما رفعت قلمي لأكتب كلمة لعلي أصلح بها فاسداً أتذكر نصائح كل من حولي من المخلصين العاملين معي في المستشفى وخارجها يناشدوني أن لا أنتقد وضعاً أو أكشف زيفاً وفساداً لأية جهة كانت حتى لا نصبح هدفاً لكل من انتقدناه وندفع ثمناً غالياً، وتوضع لنا العراقيل وتتعطل مصالحنا التي بدونها لا نستطيع تحقيق رسالتنا، وبذلك نكون لم نغير مجتمعنا ولم نصلحه بل افسدنا نواة عمل بين أيدينا على المدى القصير والبعيد فيها خير لمجتمعنا الذي نسعى لخدمته.
فآثرت أن أكرس الوقت الذي كنت أستثمره فجر كل جمعة للكتابة في ما أظن أنه أصلح لي وللقضية التي أنا مسؤول عنها مسؤولية مباشرة، والتزاماتي الأخرى التي تدخل في دائرة التأثير لا دائرة الاهتمام.

ووعدت زميلي أن أكتب عن هذا الحوار الذي دار بيننا وافترقنا .. ولكن لهيب النار التي أوقدها في ذاتي بسؤاله لم تفارقني حتى لحظتي هذه. لشدة ما أرثي لحالي وحال مجتمعي الذي أعيش فيه ..
وأبكي على القلم.. القلم الذي اختاره الله ليعلم به فقال عز من قائل "علَّم بالقلم".
وكيف لنا أن نصلح وهذا حال أقلامنا.. كم من أقلام تكسرت على صخور الواقع المرير ولم تغير في مجتمعاتها شيئاً يُذكر، وصلت إلى قناعتي الخاصة أن المجتمعات لا تتغير بالمواعظ والخطب والمقالات وانما بالقدوات والأعمال التي تنطق بلغتها أصدق الكلمات، ولتوصل للأفئدة أبلغ المعاني التي قد تعجز الكلمات المسموعة والمقروءة أن تبلغها. هناك من يكتب ليقرأ ويُقال كَتب .. وقراءة الناس لكلماته هي نهاية غايته فيكون ثناء الناس على ما قرأوه له هو جائزته الكبرى وأقصى ما يرجوه.
وهناك من يكتب ليحقق مصلحة ذاتية فَيُعْمِلُ كل ما آتاه الله من ملكات وذكاء ودهاء ليجمع الكلمات وينظمها في عِقد جميل من الحيثيات والمنطق لتحقيق غايته فيكون تحقيق مصلحته هو مكافأته في الدنيا. وهناك من يكتب لا ليُقرأ وليس له فيما كتب حظ من النفس ولا مصلحة ذاتية وبقلم مثل هؤلاء يجري الله الحق الذي يريده سبحانه. وعلامة الواحد من هؤلاء انه في كل يوم من أيام حياته يخط بأعماله على أرض الواقع أكثر مما يخط بقلمه على الورق.
كتب الرافعي رحمة الله عليه في مقال له بعنوان "ساكنو الثياب.." فقال: "ما أسخف الحياة لولا أنَّها تَدُلُّ على شرفها وقدرها ببعض الأحياء الذين نراهم في عالم التراب كأن مادتهم من السحب، فيها لغيرهم الظل والماء والنسيم، وفيها لأنفسهم الطهارة والعلو والجمال، يُثبتون للضعفاء أن غير المُمكن ممكن بالفعل، إذ لا يرى الناس في تركيب طباعهم إلا الإخلاص وإن كان حرماناً، وإلا المروءة وإن كانت مَشقة، وإلا محبة الإنسانية وإن كانت ألماً، وإلا الجدَّ وإن كان عناء، وإلا القناعة وإن كانت فقراً.
هؤلاء قوم يؤلَّفون بيد القدرة، فهم كالكتب قد انطوت على حقائِقِها وخُتِمت كما وضِعت، لا تستطيع أنْ تُخرج للناس من حقيقةٍ نصف حقيقةٍ ولا شِبه حقيقةٍ ولا تزويراً على حقيقة". رحمك الله يا رافعي وكتبك الله من هؤلاء ..
طبيب استشاري، ورئيس مجلس إدارة المركز الطبي الدولي
فاكس: 6509659
okazreaders@imc.med.sa