عانت دولة رواندا، التي يقطنها نحو 12 مليون نسمة حاليا في مساحة جغرافية صغيرة على الجزء الشرقي من أواسط أفريقيا وليس لها حدود ساحلية، من سلسلة ممتدة من الصراعات والحروب القبلية والتناحر العرقي على مدى عقود، عاشت خلالها حالة مستعصية من البؤس والفقر والبطالة وانتشار الأمراض وانعدام الاستقرار، حيث استعمرتها ألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر وحين فقدت مستعمراتها في القارة الأفريقية عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، أصبحت رواندا تحت وصاية الأمم المتحدة التي انتدبت بلجيكا للوصاية عليها، اعتباراً من عام 1923 وتسببت في المزيد من الاحتقان الداخلي والانقسامات الإثنية إلى أن غادرتها بعد إعلان استقلال البلاد شكليا على هيئة نظام جمهوري في 1962 تبعه احتدام في الصراع القبلي العنصري بين «الهوتو» ذات الأكثرية السكانية بنحو 80% ضد الأقلية من قبيلة «التوتسي» التي لا تتجاوز نسبة 20% من السكان وكانت مدعومة سابقاً من قبل الاستعمار البلجيكي حتى أصبحوا هم صفوة المجتمع ويتقلدون المناصب الكبرى، مما أثار حنق الأغلبية من أبناء «الهوتو» الكادحين، وهو ما أدى إلى سلسلة متواصلة من المجازر والحروب الأهلية، لن نطيل في سرد تفاصيلها المأساوية، ولكنها أفضت في السابع من أبريل 1994 إلى واحدة من أسوأ مجازر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في تاريخ البشرية، بحصدها نحو مليون قتيل من «التوتسي» خلال أقل من 100 يوم فقط.
في ظل كل تلك الأهوال لم يكن هناك ما يدعو للتفاؤل أو أي بصيص أمل في انتشال ذلك البلد الأفريقي الفقير الغارق في الدماء والفوضى وشبه المعدم من الموارد التي تؤهله للتطور، إلا أنه في منتصف يوليو من نفس العام الذي حصلت فيه مجازر الإبادة الجماعية تمكنت قوات الجبهة الوطنية الرواندية التي كانت حركة مقاومة مسلحة ضد التطهير العرقي ويتزعمها الرئيس الحالي بول كاغامي من تحقيق انتصارات على الجيش الرواندي والوصول إلى السلطة بعد اتفاق تسوية مع الفصائل المتناحرة تم في مدينة أروشا بتنزانيا، وانتهجت حكومة كاغامي حينها سياسة المصالحة الوطنية ونشر ثقافة التسامح من خلال تشجيع الضحايا وأسرهم على الصفح والغفران والاتفاق على بعض التعويضات، مثل المساعدة في حراثة الحقول الزراعية لأسر الضحايا، ونجح هذا التوجه مع الوقت في تحقيق المصالحة والاستقرار تدريجياً وهي نقطة الانطلاقة التي مهدت الطريق أمامها للانطلاق نحو مستقبل مشرق، كما عملت رواندا على إعادة دمج المحاربين السابقين في المجتمع، وإعادة توطين النازحين الذين بلغوا نحو 3.5 مليون لاجئ، ومنذ ذلك الحين بدأ البلد يتعافى شيئاً فشيئاً من جراحه الغائرة.
وفي عام 2000، أي بعد 5 سنوات من مجازر الإبادة، شرعت حكومة الرئيس كاغامي في تطبيق رؤية تنموية تهدف إلى تحويل البلاد إلى بلد متوسط الدخل وقائم على اقتصاد المعرفة، وأطلق عليها «رؤية 2020»، وركزت على معالجة الأسباب التي أدت إلى نشوب الصراعات الداخلية، وبالتالي وضعت أمامها 4 أهداف أساسية وإستراتيجية وهي القضاء على الفساد وتخفيض الفقر وتطوير التعليم والصحة وتعزيز الوحدة الوطنية، ويتكون البرنامج من قائمة من الأهداف تسعى إلى تحقيقها بحلول عام 2020، وهي الحوكمة الجيدة ورأس المال البشري الماهر ويشمل مجالات التعليم والصحة وتكنولوجيا المعلومات، وبناء بنية تحتية بمعايير عالمية متقدمة، والاعتماد على طرق الزراعة الحديثة وتنمية الثروة الحيوانية.
وفي عام 2016، ذكر تقرير البنك الدولي الذي يحمل عنوان «ممارسة أنشطة الأعمال»، أن اقتصاد رواندا شهد النمو الأكبر على مستوى العالم منذ عام 2005 بمتوسط بلغ 7.5% إلى جانب ارتفاع قيمة الناتج الإجمالي المحلي للبلاد بنحو 1.17 مليار دولار في الأعوام الخمسة الأخيرة التي سبقت إصدار التقرير، وأوضح تقرير صادر عن منظمة دول تجمع السوق الأفريقية المشتركة لدول شرق وجنوب أفريقيا (الكوميسا) تزامنا مع تقرير البنك الدولي، أن توافر القوى العاملة الماهرة كان عاملاً أساسيًا وراء هذا النجاح المتميز لدولة رواندا، وصنفها التقرير ذاته بأنها الدولة الأفريقية الأولى في جذب رجال الأعمال.
أشياء إيجابية كثيرة جداً لا حصر لها تحققت في رواندا في غضون سنوات قليلة، من بينها أن متوسط دخل الفرد تضاعف ثلاث مرات في السنوات العشر الأخيرة، وفي 2015 صنفت الأمم المتحدة العاصمة الرواندية (كيغالي) التي أصبح يطلق عليها لقب «سنغافورة أفريقيا» كأجمل مدينة في أفريقيا، وهي أول مدينة في أفريقيا يتم منحها جائزة زخرفة المساكن مع جائزة شرف لاهتمامها بالنظافة والأمن والمحافظة على نظام المدينة النموذجية. وفي عام 2013، تصدرت رواندا قائمة أعلى البلدان في العالم من حيث تمثيل المرأة في البرلمان بنسبة 64% من المقاعد، وفي العام الماضي 2017 احتلت رواندا المرتبة الثانية بعد موريشيوس ضمن أفضل الدول الأفريقية في الاستثمار من حيث سهولة ممارسة أنشطة الأعمال، وذلك وفقا لتقرير صادر عن البنك الدولي.
وعلى الرغم أن المصالحة الوطنية المبنية على التسامح واستحداث قوانين تجرم العنصرية كانت تبدو أنها اللبنة الأساس في استقرار رواندا، إلا أنني أجد أن العامل الجوهري الأكبر والقاسم المشترك في الأنموذج الرواندي، سواء في فترات الفشل أو التطور، كان متمثلاً في «التعليم» الذي كان بمثابة الداء والدواء في التجربة الرواندية، فبحسب كتاب عميق يحمل عنوان «من الفصول الدراسية إلى الصراع في رواندا» والصادر في 2013 للباحثة الأمريكية إليزابيث كينغ التي ألفت الكتاب بناء على تجربة ميدانية قضتها في رواندا وحللت خلالها جذور الصراع، أكدت أن التعليم بجانب الأخطاء التي ارتكبها الاستعمار البلجيكي باستحداث بطاقات هوية قسمت الروانديين تبعا لانتمائهم القبلي، لعب دوراً أساسياً في الصراع العنصري في رواندا، وبينت كينغ أن التعليم في المدارس الرواندية كان جيداً منذ مطلع الستينات ويؤهل الطلاب للمعرفة والعمل، لكنه كان يرسخ للعنصرية الشديدة لدرجة تزييف التاريخ في المناهج من أجل ترسيخ الانتماء للقبيلة وليس للوطن وهو ما كان عاملاً مهما دفع رواندا للانزلاق في أتون الحرب العرقية، أما اليوم فقد أدركت رواندا الجديدة قيمة التعليم ودوره في ارتقاء الشعوب، فاستثمرت فيه بالشكل الصحيح، وغيرت مناهج التعليم فأصبحت تحارب العنصرية وشديدة الصرامة في ما يتعلق بالانتماء الوطني، وطبقت سياسة التعليم المجاني في المراحل الابتدائية والمتوسطة، وتسعى لأن تكون المرحلة الثانوية مجانا أيضاً، وحظي المعلم ببرامج تأهيل تلبي رؤيتها لتطوير التعليم، وهي أن يكون متمكنا من تقديم تعليم يواكب العصر ويلبي احتياجات سوق العمل، بالإضافة إلى اتجاه التعليم المدرسي نحو الاعتماد على التكنولوجيا وحقق طفرة في هذا الشأن بالتعاقد مع شركة مايكروسوفت وإدخال الأجهزة اللوحية في الفصول الدراسية واستبدال المناهج الورقية التقليدية بمنصات إلكترونية، ولذلك لم تكن القوانين ولا المصالحة وقيم التسامح لتجدي نفعا بدون الارتقاء بالتعليم كأداة فاعلة في اقتلاع العنصرية.
أنموذج التجربة الرواندية جدير بأن يسلط الضوء عليه والاستفادة منه في عالمنا العربي الذي يعج بالصراعات والفوضى الخلاقة والقتل والثأر والدمار الذي جلبه لنا ما يسمى بـ«الربيع العربي»، أو بالأصح «القيظ العربي».
* كاتب سعودي
ktashkandi@okaz.com.sa
khalid_tashkndi@
في ظل كل تلك الأهوال لم يكن هناك ما يدعو للتفاؤل أو أي بصيص أمل في انتشال ذلك البلد الأفريقي الفقير الغارق في الدماء والفوضى وشبه المعدم من الموارد التي تؤهله للتطور، إلا أنه في منتصف يوليو من نفس العام الذي حصلت فيه مجازر الإبادة الجماعية تمكنت قوات الجبهة الوطنية الرواندية التي كانت حركة مقاومة مسلحة ضد التطهير العرقي ويتزعمها الرئيس الحالي بول كاغامي من تحقيق انتصارات على الجيش الرواندي والوصول إلى السلطة بعد اتفاق تسوية مع الفصائل المتناحرة تم في مدينة أروشا بتنزانيا، وانتهجت حكومة كاغامي حينها سياسة المصالحة الوطنية ونشر ثقافة التسامح من خلال تشجيع الضحايا وأسرهم على الصفح والغفران والاتفاق على بعض التعويضات، مثل المساعدة في حراثة الحقول الزراعية لأسر الضحايا، ونجح هذا التوجه مع الوقت في تحقيق المصالحة والاستقرار تدريجياً وهي نقطة الانطلاقة التي مهدت الطريق أمامها للانطلاق نحو مستقبل مشرق، كما عملت رواندا على إعادة دمج المحاربين السابقين في المجتمع، وإعادة توطين النازحين الذين بلغوا نحو 3.5 مليون لاجئ، ومنذ ذلك الحين بدأ البلد يتعافى شيئاً فشيئاً من جراحه الغائرة.
وفي عام 2000، أي بعد 5 سنوات من مجازر الإبادة، شرعت حكومة الرئيس كاغامي في تطبيق رؤية تنموية تهدف إلى تحويل البلاد إلى بلد متوسط الدخل وقائم على اقتصاد المعرفة، وأطلق عليها «رؤية 2020»، وركزت على معالجة الأسباب التي أدت إلى نشوب الصراعات الداخلية، وبالتالي وضعت أمامها 4 أهداف أساسية وإستراتيجية وهي القضاء على الفساد وتخفيض الفقر وتطوير التعليم والصحة وتعزيز الوحدة الوطنية، ويتكون البرنامج من قائمة من الأهداف تسعى إلى تحقيقها بحلول عام 2020، وهي الحوكمة الجيدة ورأس المال البشري الماهر ويشمل مجالات التعليم والصحة وتكنولوجيا المعلومات، وبناء بنية تحتية بمعايير عالمية متقدمة، والاعتماد على طرق الزراعة الحديثة وتنمية الثروة الحيوانية.
وفي عام 2016، ذكر تقرير البنك الدولي الذي يحمل عنوان «ممارسة أنشطة الأعمال»، أن اقتصاد رواندا شهد النمو الأكبر على مستوى العالم منذ عام 2005 بمتوسط بلغ 7.5% إلى جانب ارتفاع قيمة الناتج الإجمالي المحلي للبلاد بنحو 1.17 مليار دولار في الأعوام الخمسة الأخيرة التي سبقت إصدار التقرير، وأوضح تقرير صادر عن منظمة دول تجمع السوق الأفريقية المشتركة لدول شرق وجنوب أفريقيا (الكوميسا) تزامنا مع تقرير البنك الدولي، أن توافر القوى العاملة الماهرة كان عاملاً أساسيًا وراء هذا النجاح المتميز لدولة رواندا، وصنفها التقرير ذاته بأنها الدولة الأفريقية الأولى في جذب رجال الأعمال.
أشياء إيجابية كثيرة جداً لا حصر لها تحققت في رواندا في غضون سنوات قليلة، من بينها أن متوسط دخل الفرد تضاعف ثلاث مرات في السنوات العشر الأخيرة، وفي 2015 صنفت الأمم المتحدة العاصمة الرواندية (كيغالي) التي أصبح يطلق عليها لقب «سنغافورة أفريقيا» كأجمل مدينة في أفريقيا، وهي أول مدينة في أفريقيا يتم منحها جائزة زخرفة المساكن مع جائزة شرف لاهتمامها بالنظافة والأمن والمحافظة على نظام المدينة النموذجية. وفي عام 2013، تصدرت رواندا قائمة أعلى البلدان في العالم من حيث تمثيل المرأة في البرلمان بنسبة 64% من المقاعد، وفي العام الماضي 2017 احتلت رواندا المرتبة الثانية بعد موريشيوس ضمن أفضل الدول الأفريقية في الاستثمار من حيث سهولة ممارسة أنشطة الأعمال، وذلك وفقا لتقرير صادر عن البنك الدولي.
وعلى الرغم أن المصالحة الوطنية المبنية على التسامح واستحداث قوانين تجرم العنصرية كانت تبدو أنها اللبنة الأساس في استقرار رواندا، إلا أنني أجد أن العامل الجوهري الأكبر والقاسم المشترك في الأنموذج الرواندي، سواء في فترات الفشل أو التطور، كان متمثلاً في «التعليم» الذي كان بمثابة الداء والدواء في التجربة الرواندية، فبحسب كتاب عميق يحمل عنوان «من الفصول الدراسية إلى الصراع في رواندا» والصادر في 2013 للباحثة الأمريكية إليزابيث كينغ التي ألفت الكتاب بناء على تجربة ميدانية قضتها في رواندا وحللت خلالها جذور الصراع، أكدت أن التعليم بجانب الأخطاء التي ارتكبها الاستعمار البلجيكي باستحداث بطاقات هوية قسمت الروانديين تبعا لانتمائهم القبلي، لعب دوراً أساسياً في الصراع العنصري في رواندا، وبينت كينغ أن التعليم في المدارس الرواندية كان جيداً منذ مطلع الستينات ويؤهل الطلاب للمعرفة والعمل، لكنه كان يرسخ للعنصرية الشديدة لدرجة تزييف التاريخ في المناهج من أجل ترسيخ الانتماء للقبيلة وليس للوطن وهو ما كان عاملاً مهما دفع رواندا للانزلاق في أتون الحرب العرقية، أما اليوم فقد أدركت رواندا الجديدة قيمة التعليم ودوره في ارتقاء الشعوب، فاستثمرت فيه بالشكل الصحيح، وغيرت مناهج التعليم فأصبحت تحارب العنصرية وشديدة الصرامة في ما يتعلق بالانتماء الوطني، وطبقت سياسة التعليم المجاني في المراحل الابتدائية والمتوسطة، وتسعى لأن تكون المرحلة الثانوية مجانا أيضاً، وحظي المعلم ببرامج تأهيل تلبي رؤيتها لتطوير التعليم، وهي أن يكون متمكنا من تقديم تعليم يواكب العصر ويلبي احتياجات سوق العمل، بالإضافة إلى اتجاه التعليم المدرسي نحو الاعتماد على التكنولوجيا وحقق طفرة في هذا الشأن بالتعاقد مع شركة مايكروسوفت وإدخال الأجهزة اللوحية في الفصول الدراسية واستبدال المناهج الورقية التقليدية بمنصات إلكترونية، ولذلك لم تكن القوانين ولا المصالحة وقيم التسامح لتجدي نفعا بدون الارتقاء بالتعليم كأداة فاعلة في اقتلاع العنصرية.
أنموذج التجربة الرواندية جدير بأن يسلط الضوء عليه والاستفادة منه في عالمنا العربي الذي يعج بالصراعات والفوضى الخلاقة والقتل والثأر والدمار الذي جلبه لنا ما يسمى بـ«الربيع العربي»، أو بالأصح «القيظ العربي».
* كاتب سعودي
ktashkandi@okaz.com.sa
khalid_tashkndi@