عندما تصدى المفكرون والسياسيون والاقتصاديون لتشخيص الرأسمالية في مطلع القرن (العشرين) الماضي توصل العديد منهم إلى تحليل مفاده إن الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية، وأن الرأسمالية وصلت في تطورها إلى حدها الأقصى ومن ثم لابد من انحدارها وهزيمتها التاريخية بفعل التناقضات المستعصية التي تنخرها والتي يأتي في مقدمتها التناقض ما بين الطابع الاجتماعي للعمل والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج واشتداد المنافسة بين الاحتكارات على الأسواق المحلية والخارجية التي وصلت إلى حد اشعال الحروب الاقليمية والعالمية التي خلفت وراءها دماراً شاملا وعشرات الملايين من القتلى والمعاقين والمهجرين ناهيك عن البؤس والظلم الواقعين على طبقة العمال والأجراء وبروز مؤشرات على تصاعد نضال الحركة الاجتماعية والعمالية في أوروبا التي توجت في ثورة أكتوبر (1917م) والتعويل على اندلاع ثورات اشتراكية مماثلة خاصة في البلدان الرأسمالية المتقدمة (ألمانيا على سبيل المثال) حيث وصل الصراع الاجتماعي والطبقي إلى درجات غير مسبوقة. هذه التحليلات والأمنيات المتفائلة لم تتحقق، فقد أثبتت الرأسمالية قدرتها الفائقة على امتصاص الصدمات وعلى تكييف نفسها وفقا للمعطيات الجديدة وأقدمت في الوقت نفسه على نوع من التسوية التاريخية بين رأس المال والعمل عبر تقديم تنازلات هامة للعمال في المجال الاقتصادي / السياسي، واعادة الاعتبار للدولة ودورها في المجال الاقتصادي من خلال تأميم القطاعات الإنتاجية الاساسية وسن تشريعات الضمان الاجتماعي بما يضمن حدا مقبولا من الدخل والخدمات للشعب فيما عرف بدولة الرفاه حسب الوصفة الكينزية مستفيدة في ذلك من نهبها لثروات وموارد شعوب العالم الثالث من جهة ومن التطور ألمتنام للقوى الإنتاجية والثورة العلمية -التكنولوجية من جهة أخرى مما مكنها من الصمود وتجاوز آثار ومخلفات الحربين العالميتين ومرحلة الكساد الكبير ما بين 1929 - 1934. لقد جرى حسم الصراع التاريخي بين المعسكرين الاشتراكي بقيادة الإتحاد السوفيتي السابق والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة لصالح الرأسمالية وإثر انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي (1991) باتت الولايات المتحدة الأمريكية القطب الأوحد وبدون منازع في نظام العولمة (الأمركة وفقا لنقادها) التي تخطت الحدود السياسية والجغرافية ومفهوم السيادة الوطنية للدول وسعت إلى تجنيس العالم على كل المستويات وفقا لغايات وقيم ومعايير ونمط سلوك وبيئة ثقافية حددتها وفرضتها فلم يعد الاختراق مقتصرا على ميدان الإنتاج والتوزيع والتبادل وحركة رؤوس الأموال بل أصبح يتدخل في التأثير وصوغ السياسات الداخلية للدول التي كانت تعتبر حتى الأمس القريب من صميم مفهوم السيادة الوطنية فصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للأعمار والآليات التنظيمية المكملة لها مثل منظمة التجارة العالمية باتت تفرض وصفة تكاد تكون متماثلة للإصلاح الاقتصادي، فيما يعرف بسياسة التصحيح الهيكلي التي تعني في مضمونها إعطاء الدور الحاسم لقوانين السوق والليبرالية الاقتصادية وإلغاء أو إضعاف السياسة الحمائية على المستوى الجمركي (الضرائب) والنقدي وتصفية وتخصيص ملكية الدولة خصوصا في القطاعات المربحة لصالح القطاع الخاص المحلي والأجنبي والعمل على إلغاء أو تقليص الدعم الحكومي للمواد والخدمات الأساسية كالغذاء والكهرباء والاتصالات والوقود والتعليم والصحة وبغض النظر عما يمكن ان يجر ذلك من كوارث اقتصادية وانفجارات اجتماعية خاصة في بلدان العالم الثالث وتجربة دول شرق آسيا (النمور سابقا) وروسيا ودول أمريكا اللاتينية لا تزال ماثلة في الأذهان. امتدت ذيول وتأثيرات العولمة، لتشمل الجانب الثقافي، من خلال خلق عادات استهلاكية، وذائقة ونمط معيشة متشابهة، فالدور الذي يلعبه الانتشار الكاسح لمطاعم الوجبات السريعة (الفاست فود)، على شاكلة ماكدونالدز وكنتاكي، وتعميم موسيقى الروك والبوب والفيديو كليب، وأفلام العنف والإثارة، والاحتكار الإعلامي والإعلاني، على أرضية ثورة الاتصالات، وتعميم الستلايت والانترنت، وهي لا تقل في تأثيرها عن التخلع والاقتلاع الاقتصادي والسياسي الذي تمارسه العولمة، وهو ما تنبهت إليه النخب الثقافية في أوروبا واليابان وبعض مناطق العالم الثالث، حيث أخذت تتصدى لخطر هيمنة “عولمة ثقافية” هي في حقيقتها نسق ثقافي أحادي (أمريكي)، يستهدف أن يسود العالم، وتركز على بديل إنساني، يتمثل في عالمية الثقافة، باعتبارها منجزا إنسانيا تساهم فيه كافة الثقافات الوطنية في العالم، وهذا لا يعني في نظرها، رفض القبول والتسليم بحقيقة وحدة الحضارة والثقافة الإنسانية بعامة. غير أن هناك (من وجهة نظرها) فرقا واضحا بين المثاقفة وحوار الحضارات والثقافات، من منطلق الحق في الاحتفاظ والاحتفاء بالخصائص والهويات الوطنية والثقافية المتعددة والمميزة لكل شعب، وبين تسويد ثقافة وأسلوب حياة ونمط حضاري وحيد على باقي البشر. ما هو مرفوض هو محاولة تسليع كل شيء، الإنسان ونمط حياته وذائقته واستهلاكه وثقافته.. وفقا لقياسات العولمة السائدة ومصالح الشركات متعددة، ومتعدية الجنسية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل العولمة تمثل آخر مرحلة من مراحل الرأسمالية، من منطلق انتصارها النهائي، كما يروج له بعض المنظرين والأيدلوجيين والساسة في الغرب، أم هي تمثل مرحلة جديدة للتكيف مع الأزمة الهيكلية الشاملة التي تعصف بها، والتي تطل علينا بقوة بين الفينة والأخرى، كما نلحظه في الوقت الراهن، وبالتالي فإن الأصوات المتزايدة في جميع قارات العالم، التي تدعو إلى عولمة بديلة ذات محتوى إنساني، تحترم تعددية الثقافات والهويات الوطنية، لم تعد مجرد صيحة في برية.