يد الصمت تزفني لعرس النسيان، تزرعني في حقول اللامبالاة، تتحسس ملامح الانتظار التي سَكَّهَا غيابك في وجهي قبل أن تطمسها، وأنت كالأغاني القديمة مسجاة على أطراف الذاكرة، أتذكرك بنصف قلب وحزن لا يرقى للبكاء، حزن بارد يلتصق بالذاكرة ولا يؤذيها.
لم أكن أرغب أن أشيعك بلا كفن، بلا تلويح، بلا عذر صغير أحملك فوق أكتافه حتى يواريك الضجيج، لكن الصمت تسلل إلينا فجأة وأناخ بنا وطَفِقَ يشي برائحة موتك ويجبرني على قراءة نعيك للمرة الأخيرة.
دبت حينها الشيخوخة في تفاصيل الحكاية، فاضمحل منها الفقد، وبرعم النسيان على أطرافها، وظل غيابك يكبر في صدري حتى بلغت من الشوق أرذله.
للصمت سطوة حتى على الحنين، فالصمت جسر النهايات!
وبرغم كل ذلك الصمت ظلت ذاكرتي تَئنُّ وتثعب بالحكايا، كانت ملتاثة بكِ لا تنفك أبداً تسرد لي قصص الفرح النابت على أطراف وجهي وأنا أجول حدائق وجهك في كل مرة، حين تتعرق أصابعي في يديك فينمو الدفء تحت أظافري، وتعشب الطمأنينة في أرجاء روحي، حين يغدو الليل سميكاً يعزلنا عن بقية الكون ونحن نصرع المسافات بالقُبَلِ، حين ينصت الكون وأنت تتهجئين (أح ب ك)، حين يتسع الوقت بالحديث معك، ويتسع قلبي بالحديث عنك.
ذاكرتي كانت مثخنة بك، كانت وجهك الآخر الذي أحمله معي دون أن أشعر، صوت الناي الذي يباغتني دوماً ليحقنني بالذكريات، لكنها ذكريات صدئة قاحلة لا تغري بالتبسم ولا تستفز اللهفة!
كنت أعلم أن لهفتي رهانك الوحيد، وعصاك التي تهشين بها على غيابي كلما أحدق بقلبك، حتى قسوتي تواطأت معك وكانت أضعف من أن تقاوم تسلط الحنين، وحنقي أيضاً كان أجبن من أن يضمد قلبي المشقوق، أو حتى أن يوصد باب العتاب بيننا، كنت دائماً تفوزين بالرهان وتعودين كوجه الملائكة، كنت دائماً تعودين كيوم ولدتك دهشتي الأولى!
لكن اللهفة أصفرت في قلبي لفرط ما رشوته بالأعذار الكاذبة، وذوت فيه الدهشة بعد أن هوى بي غيابك للدرك الأسفل من الحزن ليجز ناصية الفرح من أيامي التي استأمنتك عليها، أيامي المملوءة بك. صدقيني لم يكن التبرؤ من دمي يسيراً وأنا أنزفك بل كان قاسياً جداً؛ توكأت كثيراً على وجعي وخيباتي حتى استطعت أن أكسر تمثال حبك وأغتسل من حنيني إليك.
صدقيني لم أكن أريدك مجرد ذكريات، ولم أرد لقلبي أن يكون مجرد ذاكرة لكن صدري المنتفخ بغيابك كان كافياً لأغفر كل نسيانك لي وأنساك أيضاً.
لن تعاتبيني هذه المرة أليس كذلك؟!
لن تعاتبيني وأنا أكشط تلك الأيام من ذاكرتي وأدفنك للمرة الأخيرة، وأهيل على وجهك تراب النسيان، وأوزع ما تبقى من ذاكرتي على المارة، وأبيع الأوهام الكبيرة بعد أن فرغت من البكاء فروحي اليوم لم تعد رطبة بذكرك ولم يعد بمقدوري أن أسمع وجهك أو أن ألمس صوتك بعد أن أدركت أن همس الفقد خير من ضجيج العتاب.
أعلم أني قرأت نعيك مرات عديدة، دفنتك كثيرا قبل هذا، لكنك كنت تجيدين الولادة بعد كل موتة، كنت تحتالين على الأرض في كل مرة أدفنك، واليوم تموتين للمرة الأخيرة وليس من حيلة تشق لك الأرض وليس من عتاب يحميك بعد اليوم.
* كاتب وإعلامي سعودي
لم أكن أرغب أن أشيعك بلا كفن، بلا تلويح، بلا عذر صغير أحملك فوق أكتافه حتى يواريك الضجيج، لكن الصمت تسلل إلينا فجأة وأناخ بنا وطَفِقَ يشي برائحة موتك ويجبرني على قراءة نعيك للمرة الأخيرة.
دبت حينها الشيخوخة في تفاصيل الحكاية، فاضمحل منها الفقد، وبرعم النسيان على أطرافها، وظل غيابك يكبر في صدري حتى بلغت من الشوق أرذله.
للصمت سطوة حتى على الحنين، فالصمت جسر النهايات!
وبرغم كل ذلك الصمت ظلت ذاكرتي تَئنُّ وتثعب بالحكايا، كانت ملتاثة بكِ لا تنفك أبداً تسرد لي قصص الفرح النابت على أطراف وجهي وأنا أجول حدائق وجهك في كل مرة، حين تتعرق أصابعي في يديك فينمو الدفء تحت أظافري، وتعشب الطمأنينة في أرجاء روحي، حين يغدو الليل سميكاً يعزلنا عن بقية الكون ونحن نصرع المسافات بالقُبَلِ، حين ينصت الكون وأنت تتهجئين (أح ب ك)، حين يتسع الوقت بالحديث معك، ويتسع قلبي بالحديث عنك.
ذاكرتي كانت مثخنة بك، كانت وجهك الآخر الذي أحمله معي دون أن أشعر، صوت الناي الذي يباغتني دوماً ليحقنني بالذكريات، لكنها ذكريات صدئة قاحلة لا تغري بالتبسم ولا تستفز اللهفة!
كنت أعلم أن لهفتي رهانك الوحيد، وعصاك التي تهشين بها على غيابي كلما أحدق بقلبك، حتى قسوتي تواطأت معك وكانت أضعف من أن تقاوم تسلط الحنين، وحنقي أيضاً كان أجبن من أن يضمد قلبي المشقوق، أو حتى أن يوصد باب العتاب بيننا، كنت دائماً تفوزين بالرهان وتعودين كوجه الملائكة، كنت دائماً تعودين كيوم ولدتك دهشتي الأولى!
لكن اللهفة أصفرت في قلبي لفرط ما رشوته بالأعذار الكاذبة، وذوت فيه الدهشة بعد أن هوى بي غيابك للدرك الأسفل من الحزن ليجز ناصية الفرح من أيامي التي استأمنتك عليها، أيامي المملوءة بك. صدقيني لم يكن التبرؤ من دمي يسيراً وأنا أنزفك بل كان قاسياً جداً؛ توكأت كثيراً على وجعي وخيباتي حتى استطعت أن أكسر تمثال حبك وأغتسل من حنيني إليك.
صدقيني لم أكن أريدك مجرد ذكريات، ولم أرد لقلبي أن يكون مجرد ذاكرة لكن صدري المنتفخ بغيابك كان كافياً لأغفر كل نسيانك لي وأنساك أيضاً.
لن تعاتبيني هذه المرة أليس كذلك؟!
لن تعاتبيني وأنا أكشط تلك الأيام من ذاكرتي وأدفنك للمرة الأخيرة، وأهيل على وجهك تراب النسيان، وأوزع ما تبقى من ذاكرتي على المارة، وأبيع الأوهام الكبيرة بعد أن فرغت من البكاء فروحي اليوم لم تعد رطبة بذكرك ولم يعد بمقدوري أن أسمع وجهك أو أن ألمس صوتك بعد أن أدركت أن همس الفقد خير من ضجيج العتاب.
أعلم أني قرأت نعيك مرات عديدة، دفنتك كثيرا قبل هذا، لكنك كنت تجيدين الولادة بعد كل موتة، كنت تحتالين على الأرض في كل مرة أدفنك، واليوم تموتين للمرة الأخيرة وليس من حيلة تشق لك الأرض وليس من عتاب يحميك بعد اليوم.
* كاتب وإعلامي سعودي