-A +A
جولة: ابراهيم عقيلي تصوير: سعيد الشهري
بدأ الحوار مع السمسار همساً ليكشف واقعاً غريباً في الحي فالباعة يتجمعون في اماكن محددة ويستخدمون شفرات سرية للتفاهم ويطلقون اسماء غريبة على بضاعتهم المفسدة.. ومن المظاهر الخطرة ان الباعة يستخدمون النساء والاطفال من جنسياتهم في الترويج.. ويتحدث مرافقي باسى شديد عن كثير من المدمنين الذين فارقوا حياتهم متأثرين بجرعة زائدة على الارصفة وتحت جدران البيوت المتصدعة. لكشف ما يدور في اغوار السبيل ودهاليزه قررت خوض تجربة البحث عن المخدرات. وكان لا بد من اتباع تعليمات مرافقي، الذي وجهني للوقوف في احد ازقة "حارة الشواعره" طالباً مني السؤال عن "الروش" وهي عقاقير نفسية تصرف من قبل مستشفيات الصحة النفسية لمرضاهم. يعرضها المروجون لزبائنهم. وبعد وقوف لم يدم اكثر من ربع ساعة لاح احد السماسرة عارضا خدماته بعدما شعر أني احد زبائن الممنوع. قال لي "ماذا تريد" اجبته: مثل ماذا؟
فقال "أي شيء" قلت له "روش" وهي حبوب تصرف من مستشفيات الصحة النفسية لمرضاهم اخبرني مرافقي بأنها تباع في السبيل بشكل كبير ويطلبها المدمنون؟
قال روش لا لكن يمكنك ان تجدها في الحفرة ولكي لا افرط في فرصتي السانحة سألته عما عنده فقال "سيجارة" ويعني بها الحشيش و "لجة" ويقصد الكبتاجون ولكي يقتنع بالدور الذي مارسته معه قلت له الا توجد سيجارة نظيفة فقال "جنب سيارتك وتعال شوف بنفسك" وهذا ما حدث اوقفت سيارتي في اول الشارع وذاب السمسار في ازقة السبيل ولم اعرف في أي اتجاه سار وغاب قرابة العشر دقائق عاد بعدها وطلب مني السير خلفه حتى وقف في احد الازقة القريبة واخرج من جيبه قطعة سوداء مغلفة بغطاء شفاف يميل الى الحمرة وطولها قرابة الاربعة سنتيمترات وقال لي هذا نصف صباع ضعه في انفك وشم رائحة الحشيش تظاهرت بمعرفتي التامة بالصنف عبست وجهي وقلت راغباً في الخروج من المأزق "ليس هذا ما ابحث عنه".
قلت: "عندك غيره" وسرت باتجاه سيارتي فقال لي لن تجد بضاعة افضل من هذه والسوق كله "مضروب" وانتهى بنا الامر عند هذا الحد ظهر مرافقي وانا ادير محرك سيارتي وقال استطعت ان التقط لكم بعض الصور ولكن كانت المسافة بعيدة فلو اكتشف امرنا لما خرجنا من الحي انا وانت سالمين!

الحفرة والهرونجية


"الروش في الحفرة" العبارة التي التقطتها من بائع الحشيش حرضتني لاقتحام عالم الحفرة او الباطنية كما يسميها البعض، فطلبت الذهاب اليها بعد الشواعرة ومن الشواعرة، الى الحفرة كان لابد لنا ان نسير ببطء شديد بسبب ضيق الازقة اذ يزداد الامر تعقيدا عند مواجهة سيارة اخرى اخيرا وصلنا لساحة وجدت لسيارتي موقفا قال لي صديقي: هذه برحة الجيلان، السيارة هنا ستكون في مأمن سنسير الى الحفرة او ما تسمى بالباطنية وهي اكثر حارات السبيل خطورة واكثرها ترويجا للمخدرات وتصديرا للجريمة.
قبل وصولي الى الحفرة اعتقدت بأن العرض والطلب الذي دار بيني وبين بائع الحشيش مجازفة كبرى وما كنت اتصور بأن مجرد المرور من الباطنية هو اكبر من أي خطر آخر.
سرنا على الاقدام في ازقة ضيقة لم اعرف اولها من اخرها وبعد امتار قال مرافقي هذه بداية "الحفرة" وهو شارع ضيق طويل ينحدر الى اسفل كلما مشيت فيه. المكان كان خاليا الا من بعض الاطفال والمارة وفجأة ظهر في نهاية الشارع مجموعة من الشباب كانوا يجلسون متقابلين وما ان دنونا منهم حتى اختفوا داخل الازقة قال لي المرافق: يبدو ان بحوزتهم مخدرات واعتبرونا من "الجنائية" ويقصد رجال مكافحة المخدرات رجعنا من نفس الشارع فاذا برجلين في نهاية مرحلة الشباب يجلسان في "دكة" مقابل محل صغير لبيع المواد الغذائية اقتربنا منهما فلاحظنا انهما غائبان عن الوعي تماما فقال مرافقي هؤلاء "هرونجية" أي مدمني الهيروين؟
لا تخشى منهم فهم اشد الناس جبنا وازدراء من الآخرين حتى من الحشاشين وبعد لحظات زاد عددهم ووصل قرابة الستة تظاهرنا بالشراء محاولين التقاط أي صورة لهم لكن لم نستطع خوفا من اكتشاف امرنا عدنا مرة اخرى للسير في شارع الحفرة واخذ واحد منهم في تتبعنا يريد معرفة هويتنا يبدو ان الشكوك تدور حولنا بأننا مخبرون وللخروج من المأزق سألنا احد المارة عن منزل احد ساكني برحة الجيلان فوصف لنا الرجل المكان وسرنا متجهين الى المكان الذي اوقفنا فيه سيارتنا وما ان ركبت سيارتي فاذا بي استجمع قواي.

الحفرة ثانية

اصرارنا على التقاط صورة للشارع اضطرنا للرجوع ولكن هذه المرة بالسيارة فما ان دخلنا الحفرة فاذا بأحد الباعة يهم بادخال يده في احدى النوافذ الخشبية لمنزل قديم ولما رآنا ارجع يده بسرعة وكأن شيئا لم يكن. مجموعة اخرى من الشباب المتجمعين راحوا يحدقون حولنا بحرص شديد سجلنا تلك المواقف وخرجنا الى ازقة اخرى في الحفرة فاذا بأحد الاشخاص الذين بدا عليهم الخوف يقف وكأنه ينتظر احدا فقال لي المرافق: هذا نموذج لاحد الزبائن الذين يأتون لقضاء حاجتهم من المخدرات واظن انه يطلب الحشيش او الكبتاجون لان المكان معروف ببيعها.
كررنا المرور من نفس الشارع اكثر من ثلاث مرات متتالية الوجوه نفس الوجوه والترقب والحذر يسيطران على الموقف، لحظات ومنظر الطلاب والطالبات الصغار بدأ يملأ المكان وذاب الصغار وسط الباعة والزبائن.
وهي اللحظة التي تنشط فيها عمليات البيع والشراء اذ تغلف زحمة المكان شيئا من الامان وتوفر سهولة الحركة. في الليل يقف البيع والشراء خوفا من الوقوع في شرك مكافحة المخدرات فالراغبون في الشراء يقصدون المكان نهارا ولايجازفون بأنفسهم ليلا.
تكرر مرورنا من ذات المكان وتكررت معه نظرات المراقبين وتفحصها لتحركاتنا يبدو اننا كنا محل سؤال من الجميع نحن من رجال "الجنائية" ولامن الزبائن فمن نكون اذا؟ هذه الحيرة انتهت في اخر جولة لنا في المكان اذ قام احد الواقفين برفع يده يطالبنا بالتوقف واتجه مسرعا نحونا. ولاننا لم نعرف ما يضمره لنا طلب مني صديقي الفرار مع اول شارع ينفذ الى خارج الحي!
قصص البودرة

لم اكن اتصور قبل زيارة السبيل انه لايزال هناك من يتعاطى الهيروين بعد ان عرف الجميع انه اقرب هاوية للموت واعتبر انه من ظواهر الامس المنقرضة الا ان الواقع غير ذلك ففي جولة واحدة رصدت اكثر من عشرة اشخاص غيبهم الهيروين عن الحياة تماما يسيرون نحو المجهول ستة منهم فقط كانوا في الحفرة "الباطنية" واثنان عند برحة الجيلان واثنان رأيتهما يزحفان متجهين نحو جسر السبيل وكل اولئك رصدتهم في جولة واحدة لم تزيد على ساعتين فقط فالسبيل هو مقر "للهرونجية" كما يطلقون عليهم ومكان لباعة البودرة البيضاء ولهم فيها الكثير من القصص.
هؤلاء يجتمعون عادة في آخر ساعة من الليل يشترون فيها بضاعتهم ولامكان لهم للتعاطي يأخذونها بين الازقة او على الارصفة او تحت كبري السبيل واذا اخذ احدهم جرعته هوى مكانه فلا يقوى على الحركة الا بعد الافاقة بعد خمس ساعات يقول السكان كثيرا ما نراهم فوق الارصفة او وسط الازقة غائبين عن الوعي تماما يئسنا منهم ولا احد يقدر على ايقاظه الا بعد ان يفيق من غيبوبته واكثرهم من خارج الحي لانعرف هويتهم ودائما ما نرى تلك المناظر بعد صلاة الفجر اذ يأخذون جرعاتهم بشكل جماعي ومن ثم يتسحبون نحو الكبري يجرون بعضهم بعضا حتى يصلوا الى هناك فتراهم كالجثث الميتة.
ويضيف احد السكان كنت اسير في احد الازقة فاذا باثنين من مدمني الهيروين احدهما يحاول سحب الآخر بعد ان ارتمى في وسط الشارع وعندما صعب عليه سحبه طلب مني مساعدته ففعلت وقمت بحمله الى الرصيف وكأني احمل جثة وبعد ان انتهيت قام صديقه بادخال يده في جيب صديقه النائم واخذ محفظته وسرق منه نقوده وهرب وبعد وقت عدت الى نفس الشارع ورأيته عاد لوعيه وبدأ يبكي بعد ان اكتشف سرقة نقوده والناس التفوا حوله.
قصة يرويها آخر تعود السكان على رؤية تلك المناظر المحزنة فيقول: كالعادة رأينا شابا في مقتبل العمر يرقد على رصيف احد الشوارع الرئيسية المكتظة بالمارة حاولنا مساعدته لكن لافائدة فهو قد فقد وعيه تماما مما اضطرنا الى ابلاغ الهلال الاحمر والذي وصل الى الموقع فور البلاغ وحاولوا اسعافه بعد ان ظنوا انه مصاب بمرض لكنهم سرعان ما اكتشفوا امره فتركناه على وضعه.

فتيات مدمنات

تتردد روايات مختلفة على السنة البعض عن وقوع فتيات في شراك ادمان الهروين ويروون التفاصيل بقولهم: كثيرا ما رأينا وسمعنا عنهن وخاصة في حارة الباطنية التي سجلت اكثر من حالة لفتيات في مقتبل العمر ولاتزال السبيل تروي قصة الفتاة التي توفيت بعد ان اخذت حقنة مخدر بشكل خاطئ اضافة الى ان السكان شهدوا كثيرا من وفيات المدمنين الذين كانوا يتعاطون حقنهم المخدرة في احواش الحي وهناك قصة معروفة لدى الجميع وهي ان هناك مجموعة من الشباب كانوا يتعاطون الهيروين في احدى المقابر واثناء تلك العملية سقط احدهم على الارض ميتا وتم دفنه في ذات المقبرة.

استغلال النساء والاطفال

يقوم المروجون بتوظيف المراهقين الذين لاتتجاوز اعمارهم عن الرابعة عشرة في بيع المخدرات خارج الحي وفي الطرقات العامة اذ يوفر لهم دراجات نارية يستطيعون من خلالها التحرك بسهولة ويكون وسيطا بين المروج والمتعاطي على ان يأخذ نسبة من البيعة وهو كما يسمونه "كبش الفداء" الذي يمنح الغطاء الامني للمروج ولكن قد يكون سيفا له حدان فهؤلاء الوسطاء والسماسرة غالبا ما يوقعون بمعلميهم في المصيدة بعد تعاونهم مع رجال مكافحة المخدرات. كما وظف العديد من المروجين النساء في عمليات نقل المخدرات من مكان الى آخر وانتشرت هذه الظاهرة في السبيل بشكل ملفت حيث يقمن بحملها من السيارات الى المنازل او من منازل الى اخرى فاعتبرت وسيلة آمنة لتلك العملية التي تكون خطرة على المروجين انفسهم فلا يحق لاحد تفتيش المرأة خاصة اذا وضعت المخدرات داخل ملابسها.