باستثناء عدد قليل من وسائل الإعلام العربية المسموعة والمرئية والمكتوبة، كان الإعلام الخليجي والعربي مشغولاً بتسليط الأضواء والحديث عن التافهين والتافهات، بدلاً من تسخير إمكانياته للحديث عن المبدعين والمبدعات في ميادين العلوم من أولئك الجهابذة الساعين وراء اكتشافات تخفف من آلام البشرية وتعطي أملاً للمعذبين.
لم أقرأ كلاماً حول المفاضلة بين من يهدر وقته في صياغة الكلام وبيعه شعراً أو نثراً، وبين من يقضي وقته في المختبرات والمعامل وسط الخرائط والمعادلات والتحاليل، أفضل من ذلك الذي كتبه أحدهم في موقع «سبلة عمان» ونصه أن: «ميزان الثقافة والعلم اليوم معوج، فلا مثقف إلا من يسبك الكلمات ويدبج الحروف ويركبها، ليصنع منها شيئاً عجيباً وخليطاً غريباً يقال له في النهاية ديوان أو أدب أو كتاب فكر أو فقه، وتجد من يصفق له ويرفعه فوق الهامات، وكأنه بديوانه اخترق الفضاء، أو أن كتابه سيكون شفاءً للمرضى الذين تضج بهم المستشفيات، أو حلاً لمشكلة تعوق التقدم في مجال ما. الكثير من مثقفي الشعر والرواية الذين يتوالدون ويتناسلون، حتى أصبحنا نجد تحت كل حجر شاعراً أو روائياً أو كاتباً أو مثقفاً، ولا بأس بتوزيع الألقاب فهي بالمجان، هربوا من معاملهم ومختبراتهم وتخصصاتهم التي كان يفترض أن يكونوا فيها ليخدموا البشرية، ليشتغلوا بائعي كلام وحروف وقراطيس».
إحدى هؤلاء المبدعات التي انشغل الإعلام الخليجي عنها فلم يعطها ما تستحقه من اهتمام، ابنة سلطنة عمان الدكتورة عذراء بنت هلال المعولية التي وهبت كل طاقتها وعلمها نحو العمل البحثي للوصول إلى نتائج متقدمة فيما يتعلق بأمراض سرطان الدم (اللوكيميا)، خصوصاً وأنه ثبت في الكثير من الحالات أن فرص الشفاء تقل عن 50% أو أن نتائج العلاج مخيبة، بمعنى أن المرض يعاود الظهور.
ومن هنا عكفت الدكتورة عذراء على إجراء أبحاث مستفيضة على مدى ثلاث سنوات في مختبرات جامعة أدليد الأسترالية، للوصول إلى المسبب الرئيسي لعودة المرض وذلك من خلال محاولة التوصل إلى الخلايا الجذعية التي تحمل الصفة المسرطنة والتي لا تتمكن الأدوية الكيمياوية المعالجة من القضاء عليها.
والحقيقة أن الدراسات والأبحاث التي قامت بها الطبيبة العمانية المجتهدة شكلت على الدوام تحدياً كبيراً للباحثين بسبب صعوبة فصل الخلايا الجذعية المسرطنة عن تلك الغير مسرطنة، خصوصاً مع انعدام دراسات متقدمة سابقة في هذا المجال. لكن الدكتورة عذراء بذكائها وعلمها وإصرارها ومثابرتها نجحت في ما لم ينجح فيه غيرها.
فطبقاً لما جاء في تقرير عنها وعن جهودها نشرته صحيفة الحياة اللندنية (1 / 5 / 2018)، قالت البروفسورة المعولية إن مكمن التحدي أمامها تمثل في كيفية التمييز بين الخلايا الجذعية الطبيعية من جهة وتلك التي تحمل تركيباً لسرطان الدم في جيناتها، خصوصاً مع انعدام وجود طرق عملية للتمييز بينهما.
اشتغلت عالمتنا على تلك المساحة تحديداً لما يزيد عن ثلاث سنوات، فنجحت في نهاية المطاف باستخدام تقنيات «فلوسايتومتري» في التمييز بين النوعين من الخلايا استناداً إلى تركيبتها الجينية، فدخلت بذلك التاريخ كأول باحثة تتوصل إلى ذلك الإنجاز. لكنها لم تكتفِ بذلك، وإنما استثمرت بحوثها المتقدمة لمرحلة ما بعد حصولها على درجة الدكتوراه من جامعة أدليد الأسترالية في سنة 2008 في تطوير تقنيات تقييم كمية الخلايا الجذعية المسرطنة في الدم والتي تعتبر مؤشراً مهماً إلى حدوث انتكاسة بعد العلاج (عودة الحالة السرطانية إلى الدم)، وبالتالي ضرورة البدء فوراً في معاودة العلاج مما يرفع نسبة احتمالات الشفاء من المرض.
ومما لاشك فيه أن اكتشافات الدكتورة عذراء هذه، التي تبنى تطبيقها مستشفى جامعة أدليد، سوف تفتح لغيرها من الباحثين والعلماء آفاقاً علمية جديدة غير مسبوقة، وتعطي في الوقت نفسه أملاً جديداً لشفاء الكثيرين من مرضى سرطانات الدم السريعة وغيرها من السرطانات التي تشكل الخلايا الجذعية محوراً لحدوثها بشكل أو بآخر. فعلى سبيل المثال سيتمكن علماء الدم في المستقبل من معرفة مَن تبقت لديهم خلايا جذعية مسرطنة وبالتالي بقائهم عرضةً لرجوع المرض، مقابل معرفة أولئك الذين لم تعد لديهم خلايا جذعية مسرطنة وبالتالي شفائهم كلياً.
ومن ناحية أخرى يمكن القول إن هذه الاكتشافات على يد الطبيبة العمانية وفريقها سوف تسمح للأطباء بتغيير علاجاتهم للمرضى، أو تقوية جرعاتها في حالة وجود خلايا جذعية مسرطنة قبل عودة المرض، كما ستفتح الأبواب أمام استحداث مركبات كيميائية بإمكانها القضاء على المستقبل الموجود في الخلايا الجذعية المسرطنة مباشرة دون الحاجة إلى جلسات طويلة من جلسات العلاج بالكيماوي، الأمر الذي سيجنب الملايين من البشر مزيداً من المعاناة والإحباط النفسي.
وخلال السنوات الثماني الماضية واصلت الدكتورة المعولية بحوثها بمعدل 15 ساعة من العمل يومياً، ونشرت العديد من الأبحاث العلمية الموثقة في عدد من المجلات العلمية الرصينة المعروفة كمراجع محكمة (مثل المجلة الأمريكية لعلم الأمراض والمجلة الدولية لمختبرات أمراض الدم ومجلة الخلايا الإكلينيكية الأمريكية ومجلة الدم الأمريكية ومجلة الخلايا التدفقية الأمريكية)، وذلك انطلاقاً من إيمانها بأن وطنها العربي لن يتقدم خطوة إلى الأمام في محافل المنافسة العالمية دون العمل الجاد والإنفاق المكثف على البحوث، مشيرة في هذا الصدد إلى حقيقة أن الدول العربية مجتمعة لا تنفق نصف ما تنفقه إسرائيل بمفردها على البحوث العلمية. ولعل أبرز ما قامت به عذراء أو تقوم به حالياً بعد إنجازها المشار إليه آنفا هو انكبابها على بحوث لتطبيق تقنيات «فلوسايتومتري» على الأمراض المزمنة الأخرى كالسكري، والالتهاب الرئوي، وضغط الدم المرتفع، وغيرها.
ولكل هذا لم يكن مستغرباً أن تقوم الجمعية الأسترالية للأبحاث الطبية بتكريمها في عام 2007 عن أفضل بحث علمي، وأن تحصل على منحة لعرض أفضل البحوث العلمية من الجمعية الأسترالية الآسيوية بملبورن في عام 2007، وأن تحصل في العام التالي على منحة أخرى لعرض أفضل البحوث العلمية من الجمعية العالمية للتحليل الخلوي من الولايات المتحدة الأمريكية. هذا ناهيك عن حصولها في نوفمبر سنة 2015 على جائزة «لوريال/يونيسكو»، وهي جائزة عالمية من المجلس الوطني للبحوث الطبية في فرنسا، تم تقديمها لها ولأربع باحثات أخريات على مستوى منطقة الشرق الأوسط في احتفالية أقيمت بجامعة زايد في إمارة دبي تحت رعاية الشيخة لبنى القاسمي وزيرة التعاون الدولي بدولة الإمارات العربية المتحدة.
ولدت عذراء المعولية في مسقط، المدينة المفتوحة على رياح بحر العرب وأمواجه والمشبعة بنفحات التاريخ السحيق وعبير رجالاته وعبق أساطيله التي وصلت إلى تخوم شرق أفريقيا وموانئ بلاد الهند والسند. كان ميلادها في بيت يسوده الحب والحنان والتعاون، ابنة لرجل ينحدر من قبيلة المعولي. عـُرف عن والدها المرحوم هلال بن ناصر المعولي طموحه الشديد وحبه للعلم، اللذين جعلاه يحرص على ربط مستقبل أولاده بالتعليم. ونجد تجليات ذلك واضحة في حصول أخٍ وأخت لعذراء على درجة الدكتوراه قبلها، وبلوغ 4 آخرين من إخوتها مرحلة الماجستير.
في مثل هذه الأجواء الأسرية الجميلة، نشأت وترعرعت عذراء وراح حلمها يكبر شيئاً فشيئاً في أن تغدو ثقلاً مؤثراً في وسط مجتمع السطوة فيه للذكور. لقد استوعبت عذراء هذه الحقيقة، فوجدت أن القوة الوحيدة القادرة على مواجهتها هي العلم أو كما صرحت لمجلة لها (2 / 1 / 2016) حينما قالت «العلم ينصف المرأة في سيادة مجتمع ذكوري».
بهذا التحدي على اجتياح كل المعوقات الاجتماعية والثقافية وتجاوزها، كانت عذراء خلال دراستها الإعدادية تجاهر وسط زميلاتها بأنها تريد أن تكون عالمة في المستقبل، فكن يسخرن منها قائلات: «إن عصر العلماء قد ولى»، فيما كانت هي في قرارة نفسها تقول لهن «غداً سترين أيتها المستهزئات»!
على أن عذراء لم تكن في هذه الحقبة من حياتها مجرد فتاة مدعية تناكف زميلاتها، وإنما كانت مجتهدة في دراستها ومتفوقة في كافة المواد الدراسية، ولاسيما العلمية منها، وكأنها كانت تخطط فعلاً لتصبح طبيبة يشار إليها بالبنان، وليست مجرد متقمصة لدور الطبيبة مثلما كانت تفعل منذ صغرها في لعبها مع فتيات الحي.
أما في البيت ووسط عائلتها فقد قوبلت ميولها وطموحاتها الدراسية بالترحاب والدعم والتشجيع، ولاسيما من قبل والدها. وخشية من أن يحدث طارئ ما فيؤثر سلباً على دعم عائلتها لها في الطريق الذي اختارته، فإنها لم تتوقف لالتقاط الأنفاس في مشوارها العلمي إلا لسنوات قليلة جداً، بمعنى أنها بمجرد حصولها على بكالوريوس العلوم الطبية (تخصص مختبرات طبية) من جامعة السلطان قابوس في عام 2000 التحقت في عام 2004 بجامعة أدليد الأسترالية (University of Adelaide) لنيل درجة الماجستير في العلوم الطبية، ثم أتبعتها بنيل درجة الدكتوراه في الطب بامتياز من الجامعة نفسها مع مرتبة الشرف الأولى في عام 2008، وبعدها بقيت في جامعتها طالبة بمرتبة دكتورة من أجل الحصول على دبلوم في الإدارة. ومما يجدر بنا ذكره في هذا المقام هو أن عذراء حينما أرادت الزواج اختارت شريك حياتها من الوسط الطبي، فاقترنت بطبيب عماني وسافرا سوياً إلى أستراليا، هو ليكمل تخصصه في أمراض الصدر، وهي لتكمل درجتي الماجستير والدكتوراه. وقد وصفت زوجها بـ «الزوج الرائع الذي كان ولا يزال مشجعاً وصديقاً روحياً ودافعاً لي دوماً للأمام والنجاح».
ويتبيَّن لنا مراس عذراء الصعب وصلابتها، ليس فقط في قبول تحديات ومتطلبات الدراسات العليا، وإنما أيضاً في نجاحها في تخطي مشاكل التغرب بعيداً عن الوطن والأسرة، ومشاكل التكيف مع المجتمع الأسترالي، ومشاكل العائلة ومتطلباتها اليومية العديدة.
عرضت الحكومة الأسترالية على عذراء المعولية جنسيتها كي تبقى على أرضها وتستفيد من موهبتها العلمية، لكنها آثرت العودة إلى وطنها ووطن آبائها وأجدادها في سنة 2008، مكللة بالنجاح المعطوف على شهادات التقدير والتكريم، لتضيف بُعداً آخر إلى الإنجازات التي حققتها بنات وطنها من قبل في سائر المجالات... بُعْد العالمة صاحبة الإنجاز العلمي غير المسبوق التي تنحني لها هامات الرجال، والباحثة التي استطاعت أن تضرب للعالم مثالاً مشرفاً للمرأة العمانية القادرة على صنع المستحيل.
في أعقاب عودتها إلى أحضان وطنها ترأست مختبر الدم في المستشفى السلطاني، وكذلك ترأست مختبراً لأبحاث تدفق الخلايا في المستشفى نفسه، قبل أن تعين في عام 2012 في منصب مديرة الدراسات والبحوث بوزارة الصحة العمانية. وهي اليوم إلى جانب مسؤوليات المنصب الأخير تعمل كممتحنة خارجية لطلبة الماجستير بجامعة السلطان قابوس، وتشارك في عضوية الكثير من اللجان الحكومية مثل: اللجنة الأكاديمية لمشروع جامعة عمان، اللجنة التوجيهية للنظرة المستقبلية للنظام الصحي (الصحة عام 2050)، لجنة أخلاقيات البحوث بوزارة الصحة، اللجنة الوطنية للأمراض غير المعدية، لجنة تمويل البحوث بوزارة الصحة، اللجنة المركزية للخطة الخمسية التاسعة للتنمية الصحية 2016 ــ 2020، لجنة تحرير مجلة عمان الطبية، اللجنة المركزية للبعثات والتدريب بوزارة الصحة، اللجنة المشتركة بين وزارة الصحة وجامعة السلطان قابوس، وغيرها.
في حوارها مع مجلة «لها» (مصدر سابق) قالت إن أهم عنصر ساهم في نجاحها هو عدم استسلامها للدعاوي المحبطة، مضيفة «حتى الدكتور الذي أشرف على رسالة الدكتوراه الخاصة بي نصحني باختيار موضوع أيسر، وتوقع لي الفشل مبدئياً، وشكك كثيراً في نتائج بحوثي في البداية، قبل أن يصل إلى مرحلة اليقين بإمكانياتي». كما أفصحت عن الآمال والأفكار التي تسعى إليها مستقبلاً فقالت ما مفاده إن لها أحلاماً كثيرة سوف تعمل على تحقيقها بالجهد والتخطيط السليمين، وفي مقدمتها حلم استحداث تقنيات للحد من انتشار الأمراض غير المعدية مثل أمراض القلب والسكري وأمراض الجهاز التنفسي، وحلم «أن تستمر أبحاثي وتنجح في إيجاد علاج ناجع وحاسم لمرض سرطان الدم الحاد ليجنب المرضى المعاناة، ويُحسب لي عند رب العالمين صدقةً جاريةً مدى الحياة».
وأخيراً فإن أعداء النجاح من الخائبين والفاشلين لا يكفون عن التشكيك في إنجازات المبدعين من الشخصيات الناجحة. فمثلما تعرض غيرها لأقاويل تحط من قدرهم وتوغر الصدور عليهم، راح البعض في وسائل التواصل الاجتماعي يشكك في إنجازات الدكتورة عذراء المعولية لغاية في نفوس مريضة حاقدة. أما جواب المعنية بتلك الأقاويل، حينما سُئلت عنها فكان: «كلام الناس مثل الصخور، إما أن تحملها على ظهرك فينكسر، أو تبني بها برجاً تحت أقدامك فتعلو وتنتصر».
لم أقرأ كلاماً حول المفاضلة بين من يهدر وقته في صياغة الكلام وبيعه شعراً أو نثراً، وبين من يقضي وقته في المختبرات والمعامل وسط الخرائط والمعادلات والتحاليل، أفضل من ذلك الذي كتبه أحدهم في موقع «سبلة عمان» ونصه أن: «ميزان الثقافة والعلم اليوم معوج، فلا مثقف إلا من يسبك الكلمات ويدبج الحروف ويركبها، ليصنع منها شيئاً عجيباً وخليطاً غريباً يقال له في النهاية ديوان أو أدب أو كتاب فكر أو فقه، وتجد من يصفق له ويرفعه فوق الهامات، وكأنه بديوانه اخترق الفضاء، أو أن كتابه سيكون شفاءً للمرضى الذين تضج بهم المستشفيات، أو حلاً لمشكلة تعوق التقدم في مجال ما. الكثير من مثقفي الشعر والرواية الذين يتوالدون ويتناسلون، حتى أصبحنا نجد تحت كل حجر شاعراً أو روائياً أو كاتباً أو مثقفاً، ولا بأس بتوزيع الألقاب فهي بالمجان، هربوا من معاملهم ومختبراتهم وتخصصاتهم التي كان يفترض أن يكونوا فيها ليخدموا البشرية، ليشتغلوا بائعي كلام وحروف وقراطيس».
إحدى هؤلاء المبدعات التي انشغل الإعلام الخليجي عنها فلم يعطها ما تستحقه من اهتمام، ابنة سلطنة عمان الدكتورة عذراء بنت هلال المعولية التي وهبت كل طاقتها وعلمها نحو العمل البحثي للوصول إلى نتائج متقدمة فيما يتعلق بأمراض سرطان الدم (اللوكيميا)، خصوصاً وأنه ثبت في الكثير من الحالات أن فرص الشفاء تقل عن 50% أو أن نتائج العلاج مخيبة، بمعنى أن المرض يعاود الظهور.
ومن هنا عكفت الدكتورة عذراء على إجراء أبحاث مستفيضة على مدى ثلاث سنوات في مختبرات جامعة أدليد الأسترالية، للوصول إلى المسبب الرئيسي لعودة المرض وذلك من خلال محاولة التوصل إلى الخلايا الجذعية التي تحمل الصفة المسرطنة والتي لا تتمكن الأدوية الكيمياوية المعالجة من القضاء عليها.
والحقيقة أن الدراسات والأبحاث التي قامت بها الطبيبة العمانية المجتهدة شكلت على الدوام تحدياً كبيراً للباحثين بسبب صعوبة فصل الخلايا الجذعية المسرطنة عن تلك الغير مسرطنة، خصوصاً مع انعدام دراسات متقدمة سابقة في هذا المجال. لكن الدكتورة عذراء بذكائها وعلمها وإصرارها ومثابرتها نجحت في ما لم ينجح فيه غيرها.
فطبقاً لما جاء في تقرير عنها وعن جهودها نشرته صحيفة الحياة اللندنية (1 / 5 / 2018)، قالت البروفسورة المعولية إن مكمن التحدي أمامها تمثل في كيفية التمييز بين الخلايا الجذعية الطبيعية من جهة وتلك التي تحمل تركيباً لسرطان الدم في جيناتها، خصوصاً مع انعدام وجود طرق عملية للتمييز بينهما.
اشتغلت عالمتنا على تلك المساحة تحديداً لما يزيد عن ثلاث سنوات، فنجحت في نهاية المطاف باستخدام تقنيات «فلوسايتومتري» في التمييز بين النوعين من الخلايا استناداً إلى تركيبتها الجينية، فدخلت بذلك التاريخ كأول باحثة تتوصل إلى ذلك الإنجاز. لكنها لم تكتفِ بذلك، وإنما استثمرت بحوثها المتقدمة لمرحلة ما بعد حصولها على درجة الدكتوراه من جامعة أدليد الأسترالية في سنة 2008 في تطوير تقنيات تقييم كمية الخلايا الجذعية المسرطنة في الدم والتي تعتبر مؤشراً مهماً إلى حدوث انتكاسة بعد العلاج (عودة الحالة السرطانية إلى الدم)، وبالتالي ضرورة البدء فوراً في معاودة العلاج مما يرفع نسبة احتمالات الشفاء من المرض.
ومما لاشك فيه أن اكتشافات الدكتورة عذراء هذه، التي تبنى تطبيقها مستشفى جامعة أدليد، سوف تفتح لغيرها من الباحثين والعلماء آفاقاً علمية جديدة غير مسبوقة، وتعطي في الوقت نفسه أملاً جديداً لشفاء الكثيرين من مرضى سرطانات الدم السريعة وغيرها من السرطانات التي تشكل الخلايا الجذعية محوراً لحدوثها بشكل أو بآخر. فعلى سبيل المثال سيتمكن علماء الدم في المستقبل من معرفة مَن تبقت لديهم خلايا جذعية مسرطنة وبالتالي بقائهم عرضةً لرجوع المرض، مقابل معرفة أولئك الذين لم تعد لديهم خلايا جذعية مسرطنة وبالتالي شفائهم كلياً.
ومن ناحية أخرى يمكن القول إن هذه الاكتشافات على يد الطبيبة العمانية وفريقها سوف تسمح للأطباء بتغيير علاجاتهم للمرضى، أو تقوية جرعاتها في حالة وجود خلايا جذعية مسرطنة قبل عودة المرض، كما ستفتح الأبواب أمام استحداث مركبات كيميائية بإمكانها القضاء على المستقبل الموجود في الخلايا الجذعية المسرطنة مباشرة دون الحاجة إلى جلسات طويلة من جلسات العلاج بالكيماوي، الأمر الذي سيجنب الملايين من البشر مزيداً من المعاناة والإحباط النفسي.
وخلال السنوات الثماني الماضية واصلت الدكتورة المعولية بحوثها بمعدل 15 ساعة من العمل يومياً، ونشرت العديد من الأبحاث العلمية الموثقة في عدد من المجلات العلمية الرصينة المعروفة كمراجع محكمة (مثل المجلة الأمريكية لعلم الأمراض والمجلة الدولية لمختبرات أمراض الدم ومجلة الخلايا الإكلينيكية الأمريكية ومجلة الدم الأمريكية ومجلة الخلايا التدفقية الأمريكية)، وذلك انطلاقاً من إيمانها بأن وطنها العربي لن يتقدم خطوة إلى الأمام في محافل المنافسة العالمية دون العمل الجاد والإنفاق المكثف على البحوث، مشيرة في هذا الصدد إلى حقيقة أن الدول العربية مجتمعة لا تنفق نصف ما تنفقه إسرائيل بمفردها على البحوث العلمية. ولعل أبرز ما قامت به عذراء أو تقوم به حالياً بعد إنجازها المشار إليه آنفا هو انكبابها على بحوث لتطبيق تقنيات «فلوسايتومتري» على الأمراض المزمنة الأخرى كالسكري، والالتهاب الرئوي، وضغط الدم المرتفع، وغيرها.
ولكل هذا لم يكن مستغرباً أن تقوم الجمعية الأسترالية للأبحاث الطبية بتكريمها في عام 2007 عن أفضل بحث علمي، وأن تحصل على منحة لعرض أفضل البحوث العلمية من الجمعية الأسترالية الآسيوية بملبورن في عام 2007، وأن تحصل في العام التالي على منحة أخرى لعرض أفضل البحوث العلمية من الجمعية العالمية للتحليل الخلوي من الولايات المتحدة الأمريكية. هذا ناهيك عن حصولها في نوفمبر سنة 2015 على جائزة «لوريال/يونيسكو»، وهي جائزة عالمية من المجلس الوطني للبحوث الطبية في فرنسا، تم تقديمها لها ولأربع باحثات أخريات على مستوى منطقة الشرق الأوسط في احتفالية أقيمت بجامعة زايد في إمارة دبي تحت رعاية الشيخة لبنى القاسمي وزيرة التعاون الدولي بدولة الإمارات العربية المتحدة.
ولدت عذراء المعولية في مسقط، المدينة المفتوحة على رياح بحر العرب وأمواجه والمشبعة بنفحات التاريخ السحيق وعبير رجالاته وعبق أساطيله التي وصلت إلى تخوم شرق أفريقيا وموانئ بلاد الهند والسند. كان ميلادها في بيت يسوده الحب والحنان والتعاون، ابنة لرجل ينحدر من قبيلة المعولي. عـُرف عن والدها المرحوم هلال بن ناصر المعولي طموحه الشديد وحبه للعلم، اللذين جعلاه يحرص على ربط مستقبل أولاده بالتعليم. ونجد تجليات ذلك واضحة في حصول أخٍ وأخت لعذراء على درجة الدكتوراه قبلها، وبلوغ 4 آخرين من إخوتها مرحلة الماجستير.
في مثل هذه الأجواء الأسرية الجميلة، نشأت وترعرعت عذراء وراح حلمها يكبر شيئاً فشيئاً في أن تغدو ثقلاً مؤثراً في وسط مجتمع السطوة فيه للذكور. لقد استوعبت عذراء هذه الحقيقة، فوجدت أن القوة الوحيدة القادرة على مواجهتها هي العلم أو كما صرحت لمجلة لها (2 / 1 / 2016) حينما قالت «العلم ينصف المرأة في سيادة مجتمع ذكوري».
بهذا التحدي على اجتياح كل المعوقات الاجتماعية والثقافية وتجاوزها، كانت عذراء خلال دراستها الإعدادية تجاهر وسط زميلاتها بأنها تريد أن تكون عالمة في المستقبل، فكن يسخرن منها قائلات: «إن عصر العلماء قد ولى»، فيما كانت هي في قرارة نفسها تقول لهن «غداً سترين أيتها المستهزئات»!
على أن عذراء لم تكن في هذه الحقبة من حياتها مجرد فتاة مدعية تناكف زميلاتها، وإنما كانت مجتهدة في دراستها ومتفوقة في كافة المواد الدراسية، ولاسيما العلمية منها، وكأنها كانت تخطط فعلاً لتصبح طبيبة يشار إليها بالبنان، وليست مجرد متقمصة لدور الطبيبة مثلما كانت تفعل منذ صغرها في لعبها مع فتيات الحي.
أما في البيت ووسط عائلتها فقد قوبلت ميولها وطموحاتها الدراسية بالترحاب والدعم والتشجيع، ولاسيما من قبل والدها. وخشية من أن يحدث طارئ ما فيؤثر سلباً على دعم عائلتها لها في الطريق الذي اختارته، فإنها لم تتوقف لالتقاط الأنفاس في مشوارها العلمي إلا لسنوات قليلة جداً، بمعنى أنها بمجرد حصولها على بكالوريوس العلوم الطبية (تخصص مختبرات طبية) من جامعة السلطان قابوس في عام 2000 التحقت في عام 2004 بجامعة أدليد الأسترالية (University of Adelaide) لنيل درجة الماجستير في العلوم الطبية، ثم أتبعتها بنيل درجة الدكتوراه في الطب بامتياز من الجامعة نفسها مع مرتبة الشرف الأولى في عام 2008، وبعدها بقيت في جامعتها طالبة بمرتبة دكتورة من أجل الحصول على دبلوم في الإدارة. ومما يجدر بنا ذكره في هذا المقام هو أن عذراء حينما أرادت الزواج اختارت شريك حياتها من الوسط الطبي، فاقترنت بطبيب عماني وسافرا سوياً إلى أستراليا، هو ليكمل تخصصه في أمراض الصدر، وهي لتكمل درجتي الماجستير والدكتوراه. وقد وصفت زوجها بـ «الزوج الرائع الذي كان ولا يزال مشجعاً وصديقاً روحياً ودافعاً لي دوماً للأمام والنجاح».
ويتبيَّن لنا مراس عذراء الصعب وصلابتها، ليس فقط في قبول تحديات ومتطلبات الدراسات العليا، وإنما أيضاً في نجاحها في تخطي مشاكل التغرب بعيداً عن الوطن والأسرة، ومشاكل التكيف مع المجتمع الأسترالي، ومشاكل العائلة ومتطلباتها اليومية العديدة.
عرضت الحكومة الأسترالية على عذراء المعولية جنسيتها كي تبقى على أرضها وتستفيد من موهبتها العلمية، لكنها آثرت العودة إلى وطنها ووطن آبائها وأجدادها في سنة 2008، مكللة بالنجاح المعطوف على شهادات التقدير والتكريم، لتضيف بُعداً آخر إلى الإنجازات التي حققتها بنات وطنها من قبل في سائر المجالات... بُعْد العالمة صاحبة الإنجاز العلمي غير المسبوق التي تنحني لها هامات الرجال، والباحثة التي استطاعت أن تضرب للعالم مثالاً مشرفاً للمرأة العمانية القادرة على صنع المستحيل.
في أعقاب عودتها إلى أحضان وطنها ترأست مختبر الدم في المستشفى السلطاني، وكذلك ترأست مختبراً لأبحاث تدفق الخلايا في المستشفى نفسه، قبل أن تعين في عام 2012 في منصب مديرة الدراسات والبحوث بوزارة الصحة العمانية. وهي اليوم إلى جانب مسؤوليات المنصب الأخير تعمل كممتحنة خارجية لطلبة الماجستير بجامعة السلطان قابوس، وتشارك في عضوية الكثير من اللجان الحكومية مثل: اللجنة الأكاديمية لمشروع جامعة عمان، اللجنة التوجيهية للنظرة المستقبلية للنظام الصحي (الصحة عام 2050)، لجنة أخلاقيات البحوث بوزارة الصحة، اللجنة الوطنية للأمراض غير المعدية، لجنة تمويل البحوث بوزارة الصحة، اللجنة المركزية للخطة الخمسية التاسعة للتنمية الصحية 2016 ــ 2020، لجنة تحرير مجلة عمان الطبية، اللجنة المركزية للبعثات والتدريب بوزارة الصحة، اللجنة المشتركة بين وزارة الصحة وجامعة السلطان قابوس، وغيرها.
في حوارها مع مجلة «لها» (مصدر سابق) قالت إن أهم عنصر ساهم في نجاحها هو عدم استسلامها للدعاوي المحبطة، مضيفة «حتى الدكتور الذي أشرف على رسالة الدكتوراه الخاصة بي نصحني باختيار موضوع أيسر، وتوقع لي الفشل مبدئياً، وشكك كثيراً في نتائج بحوثي في البداية، قبل أن يصل إلى مرحلة اليقين بإمكانياتي». كما أفصحت عن الآمال والأفكار التي تسعى إليها مستقبلاً فقالت ما مفاده إن لها أحلاماً كثيرة سوف تعمل على تحقيقها بالجهد والتخطيط السليمين، وفي مقدمتها حلم استحداث تقنيات للحد من انتشار الأمراض غير المعدية مثل أمراض القلب والسكري وأمراض الجهاز التنفسي، وحلم «أن تستمر أبحاثي وتنجح في إيجاد علاج ناجع وحاسم لمرض سرطان الدم الحاد ليجنب المرضى المعاناة، ويُحسب لي عند رب العالمين صدقةً جاريةً مدى الحياة».
وأخيراً فإن أعداء النجاح من الخائبين والفاشلين لا يكفون عن التشكيك في إنجازات المبدعين من الشخصيات الناجحة. فمثلما تعرض غيرها لأقاويل تحط من قدرهم وتوغر الصدور عليهم، راح البعض في وسائل التواصل الاجتماعي يشكك في إنجازات الدكتورة عذراء المعولية لغاية في نفوس مريضة حاقدة. أما جواب المعنية بتلك الأقاويل، حينما سُئلت عنها فكان: «كلام الناس مثل الصخور، إما أن تحملها على ظهرك فينكسر، أو تبني بها برجاً تحت أقدامك فتعلو وتنتصر».