حين جاءني الخبر الحزين بوفاة الأمير طلال بن عبدالعزيز تحركت آلة الزمن في ذاكرتي وعادت لأكثر من 25 عاما مضت عندما جاءني منه أول اتصال على هاتف سيارتي المثبت بداخلها - أيام كانت الهواتف ثابتة لكنها متنقلة - طلب مني أن أرسل له شريط فيديو لذلك اللقاء الذي أجرته معي الإعلامية حصة الملا في برنامجها على تلفزيون الكويت تحت عنوان «استوديو 500» وتحدثت فيه عن تجربة اعتقالي في الجزائر أيام الغزو العراقي وكيف قرر رئيس جهاز أمن الدولة في ذلك البلد العربي الشقيق أن يتم ترحيلي فورا، باعتباري شخصا غير مرغوب فيه داخل بلدهم، إلى.. بغداد كوني صرت «مواطنا عراقيا» بعد أن احتل صدام حسين الكويت واعتبرها المحافظة التاسعة عشرة، والسبب؟ هو عقدي لندوة داخل إحدى الصحف وبدعوة منهم للحديث عن الكارثة التي تسبب بها حارس البوابة الشرقية للوطن العربي قلت فيها كلاما وذكرت تاريخا للجزائريين مع الفرنسيين لم يعجبهم على الإطلاق - وهو ما سنتركه لمقال آخر- فكان أن داهم ستة رجال شرطة بملابس مدنية غرفتي في فندق «الجزائر» الضخم في السادسة صباحا واقتادوني مع حقيبتي إلى مبنى أمن الدولة وبرفقتي الزميل عدنان السيد رئيس القسم الرياضي في «الوطن» سابقا ورفيق الرحلة، وهناك - داخل سرداب مبناهم العامر - صدر الأمر بترحيل «مواطنين كويتيين اثنين إلى العراق لكونهما مواطنين عراقيين بقرار الغزو في الثاني من أغسطس 1990» !! كان الأمير طلال خلال حديثه معي على الهاتف يطرح السؤال تلو الآخر حتى قبل أن ينتظر مني إجابة، فقد بدا مذهولا من تصرف بلد عربي شقيق بهذه الصورة وتلك الطريقة وأخذ يلح في سرعة إرسال الشريط الكامل للقاء مبديا اعتذاره لعدم مشاهدته لكنه سمع عنه من العديد الذين تابعوه داخل السعودية ! استغرق الأمر مني ثلاثة أيام لتلبية طلبه الحصول على الشريط من التلفزيون إلى الاتصال بشركة البريد السريع ثم إرساله وهو يتابعني بالاتصالات بإبلاغي أن الرقابة على المطبوعات في المملكة العربية السعودية لابد ان تحتجز الشريط وتطلع عليه أولا.... إلى آخره !
كانت هذه بداية العلاقة مع الأمير الراحل والتي استمرت لأكثر من ربع قرن، تابعت معه جهوده في إنشاء الجامعة العربية المفتوحة، كان يتحدث عنها وكأنها مولود جديد ما زال في أحشاء امرأة لم يحب غيرها، حتى جاءها المخاض وجاءني صوته عبر الهاتف وهو يبشرني بالولادة ولأحضر مع ابنه «الأمير تركي» افتتاحها في الكويت، ثم عاصرت معه مشروعه الإنساني الثاني وهو «رعاية أطفال الشوارع» وحضرت البذرة الأولى التي بذرها في القاهرة ! قلت له -ذات اليوم - ونحن في جناحه بفندق «هيلتون - النيل» بوسط العاصمة المصرية:..«سمو الأمير، لو كنت مسؤولا كبيرا في السعودية هل ستستمر في أفعالك تلك لتخفيف المعاناة عن الطبقات المسحوقة في كل أرجاء الأرض، لما تركوك حيا تلك القوى التي تدير شؤون الكرة الأرضية» ! ضحك طويلا وقال «لهذا السبب لن أصبح.. مسؤولا» !! حكى لي عن تجربة غربته الطويلة وحكاية «الأمراء الأحرار» التي اخترعها «أحمد سعيد» وإذاعة صوت العرب، وأكثر ما شدني في روايته وأحداثها حين يعود إلى بلده برا وفي الطريق وقبل الوصول إلى معشوقته «الرياض» يطلب من مرافقيه أن يتوقفوا على جانب الطريق ويحضروا الموقد ويجهزوا «الكبسة» ليتشاركوا جميعا في تناول هذه اللقمة وهم على أرض وطنهم بعد أن تشاركوا في ظلام الغربة !!
ذات يوم عقب تحرير الكويت ربما بعامين عقد وزير الدولة للشؤون الخارجية الكويتي سليمان ماجد الشاهين ندوة في جامعة الكويت رحب فيها بأي اتحاد كونفدرالي أو فيدرالي مع السعودية، فسألني الأمير طلال بعد ذلك بسنوات عن هذا الأمر قائلا: «هل تريدون الوحدة مع السعودية ؟» قلت: «نعم، بعد الذي شاهدناه وعشناه مع أشقاء الشمال، نحتاج إلى حب وحنان أشقائنا في الجنوب» ! انفعل وارتفع صوته مجيبا: «وبرلمانكم ؟ وصحافتكم ؟ وجمعيات المجتمع المدني التي لديكم، كيف تتوافق مع نظامنا في السعودية، هل تريد أن نصبح بلدا بنظامين سياسيين ؟» كان جوابي على تساؤله أو لنقل مخاوفه هذه أشبه بالماء البارد الذي جرى صبه فوق جمر أحمر فهدأ وابتسم وقال: «هذا هو الصحافي الذي أعشق الجلوس معه» ! قلت له: «إن هونج كونج وبكين هما داخل بلد واحد، بل إن الأولى لها عملة هي الدولار، وبكين لها عملة وهي اليوان، ومع ذلك فلم يقل أحد إن بلدا واحدا لديه عملتان نقديتان ونظامان سياسيان يستحيل تواجده واستمراره على وجه الأرض فما هو المانع إذن أن نكون نحن هونج كونج وأنتم.. بكين، لكم ريالكم ولنا دينارنا» ؟! كان الأمير طلال متابعا بشكل دقيق للشأن الكويتي وبصورة ربما تفوق متابعة أي مسؤول كويتي لشأن داخل بلده، فسألته عن سبب ذلك فاختصر إجابته إلى جملة واحدة هي: «أنتم الشمعة التي تضيء الخليج، هكذا قال عنكم جمال عبدالناصر»!! في زيارة قصيرة له كعادته إلى الكويت سألته سؤالا شعرت أنه أغضبه حين قلت له: «لماذا لا تستعين على أفكارك الليبرالية والتحررية والديمقراطية بالكتمان حتى يأتيك الدور وتصبح مسؤولا ثم تطبق أفكارك الجميلة هذه.. كلها» ؟! رد سريعا: «لا أحب الحيل ولا المحتالين وتلك إحدى خصال المنافقين وأنا لست منهم» !
رحمه الله، كان ذواقا للموسيقى، وفاجأني وأنا في القاهرة وهو في شرم الشيخ باتصال هاتفي أخبرني فيه بأنه قادم إلى العاصمة المصرية غدا ثم سألني: «ما رايك بأمسية وعشاء جميل لأربعة أشخاص فقط، أنا وأنت وعمار الشريعي والمطربة الصاعدة آمال ماهر» ؟ وحدث ذلك، وكانت ليلة من ليالي العمر: صحافي وأمير وموسيقار ومطربة ! كم سأفتقد ذلك الرجل ولد كأمير وعاش كإنسان ومات كزاهد !
* كاتب كويتي
faud_Alhasehem@
كانت هذه بداية العلاقة مع الأمير الراحل والتي استمرت لأكثر من ربع قرن، تابعت معه جهوده في إنشاء الجامعة العربية المفتوحة، كان يتحدث عنها وكأنها مولود جديد ما زال في أحشاء امرأة لم يحب غيرها، حتى جاءها المخاض وجاءني صوته عبر الهاتف وهو يبشرني بالولادة ولأحضر مع ابنه «الأمير تركي» افتتاحها في الكويت، ثم عاصرت معه مشروعه الإنساني الثاني وهو «رعاية أطفال الشوارع» وحضرت البذرة الأولى التي بذرها في القاهرة ! قلت له -ذات اليوم - ونحن في جناحه بفندق «هيلتون - النيل» بوسط العاصمة المصرية:..«سمو الأمير، لو كنت مسؤولا كبيرا في السعودية هل ستستمر في أفعالك تلك لتخفيف المعاناة عن الطبقات المسحوقة في كل أرجاء الأرض، لما تركوك حيا تلك القوى التي تدير شؤون الكرة الأرضية» ! ضحك طويلا وقال «لهذا السبب لن أصبح.. مسؤولا» !! حكى لي عن تجربة غربته الطويلة وحكاية «الأمراء الأحرار» التي اخترعها «أحمد سعيد» وإذاعة صوت العرب، وأكثر ما شدني في روايته وأحداثها حين يعود إلى بلده برا وفي الطريق وقبل الوصول إلى معشوقته «الرياض» يطلب من مرافقيه أن يتوقفوا على جانب الطريق ويحضروا الموقد ويجهزوا «الكبسة» ليتشاركوا جميعا في تناول هذه اللقمة وهم على أرض وطنهم بعد أن تشاركوا في ظلام الغربة !!
ذات يوم عقب تحرير الكويت ربما بعامين عقد وزير الدولة للشؤون الخارجية الكويتي سليمان ماجد الشاهين ندوة في جامعة الكويت رحب فيها بأي اتحاد كونفدرالي أو فيدرالي مع السعودية، فسألني الأمير طلال بعد ذلك بسنوات عن هذا الأمر قائلا: «هل تريدون الوحدة مع السعودية ؟» قلت: «نعم، بعد الذي شاهدناه وعشناه مع أشقاء الشمال، نحتاج إلى حب وحنان أشقائنا في الجنوب» ! انفعل وارتفع صوته مجيبا: «وبرلمانكم ؟ وصحافتكم ؟ وجمعيات المجتمع المدني التي لديكم، كيف تتوافق مع نظامنا في السعودية، هل تريد أن نصبح بلدا بنظامين سياسيين ؟» كان جوابي على تساؤله أو لنقل مخاوفه هذه أشبه بالماء البارد الذي جرى صبه فوق جمر أحمر فهدأ وابتسم وقال: «هذا هو الصحافي الذي أعشق الجلوس معه» ! قلت له: «إن هونج كونج وبكين هما داخل بلد واحد، بل إن الأولى لها عملة هي الدولار، وبكين لها عملة وهي اليوان، ومع ذلك فلم يقل أحد إن بلدا واحدا لديه عملتان نقديتان ونظامان سياسيان يستحيل تواجده واستمراره على وجه الأرض فما هو المانع إذن أن نكون نحن هونج كونج وأنتم.. بكين، لكم ريالكم ولنا دينارنا» ؟! كان الأمير طلال متابعا بشكل دقيق للشأن الكويتي وبصورة ربما تفوق متابعة أي مسؤول كويتي لشأن داخل بلده، فسألته عن سبب ذلك فاختصر إجابته إلى جملة واحدة هي: «أنتم الشمعة التي تضيء الخليج، هكذا قال عنكم جمال عبدالناصر»!! في زيارة قصيرة له كعادته إلى الكويت سألته سؤالا شعرت أنه أغضبه حين قلت له: «لماذا لا تستعين على أفكارك الليبرالية والتحررية والديمقراطية بالكتمان حتى يأتيك الدور وتصبح مسؤولا ثم تطبق أفكارك الجميلة هذه.. كلها» ؟! رد سريعا: «لا أحب الحيل ولا المحتالين وتلك إحدى خصال المنافقين وأنا لست منهم» !
رحمه الله، كان ذواقا للموسيقى، وفاجأني وأنا في القاهرة وهو في شرم الشيخ باتصال هاتفي أخبرني فيه بأنه قادم إلى العاصمة المصرية غدا ثم سألني: «ما رايك بأمسية وعشاء جميل لأربعة أشخاص فقط، أنا وأنت وعمار الشريعي والمطربة الصاعدة آمال ماهر» ؟ وحدث ذلك، وكانت ليلة من ليالي العمر: صحافي وأمير وموسيقار ومطربة ! كم سأفتقد ذلك الرجل ولد كأمير وعاش كإنسان ومات كزاهد !
* كاتب كويتي
faud_Alhasehem@