سوف أتعمّد في هذه المقالة تجنب الأرقام والإحصائيات قدر المستطاع حتى يكون كلامي مفهوماً من مختلف القرّاء، ويؤسفني أن أقول منذ البداية أن الخوض في موضوع كهذا، حتى لذوي الاختصاص، مثل محاولة صيد السمك في الربع الخالي في ضوء حالة الإنكار state of denial المستعصية التي يتشبث بها المسؤولون عن رسم وتنفيذ السياسات النقدية في بلادنا، وذلك بإصرارهم على أن دوافع التضخم المحلية في اقتصادنا تحتل نسبة أكبر من الدوافع الخارجية في تسريع هذا المتغير المشؤوم. وبهذا هم يصرّون على تبرئة الدولار من إطلاق هذا الوحش الذي أتى على البقية الباقية من أرزاقنا وجعلنا في موضع المحتاج للإعانات والتمسك بالأمل في زيادة الرواتب زيادة مجزية، رغم علمنا بأن تلك الزيادة ستزيد النار اشتعالاً كما حدث في بعض دول الخليج مثل قطر والإمارات التي تتسابق معدلات التضخم فيها للوصول إلى حاجز العشرين في المائة. ولكن رغم علم الناس بذلك إلا أنهم يأملون بزيادة ربما انعكست عليهم نفسياً بإحساس بالانتماء لدولة ثرية حتى إن لم تنعكس على مستوى معيشتهم بشكل إيجابي.
والحقيقة أنني أخالف المسؤولين عن السياسات النقدية في ترويجهم لمقولة ان معظم التضخم في بلادنا محلي وليس مستورداً، فبلادنا تعيش طفرة غير مسبوقة يتوقع أن ترفع حجم الواردات من حوالي 20% في المتوسط من إجمالي الناتج الوطني خلال السنوات الماضية إلى ما يزيد على 30 % ابتداء من هذا العام. ولشراء الواردات يحتاج المستوردون ومن في حكمهم كالسياح وذوي المصلحة في البلاد الأجنبية لعملات تلك البلاد التي لا يمكن الحصول عليها إلا بمبادلتها بالدولار، والدولار يباع من مؤسسة النقد للجمهور بقيمة أعلى من قيمته بكثير، وإذا ما قسنا خسارتنا حتى الآن بالريال جراء ربطه بالدولار ربما وصلت إلى 45% أسوة بالإمارات التي لم تجد سلطاتها النقدية غضاضة في إعلان تقديرات كهذه، وبالتالي فإن الإصرار على التمسك لمدّة طويلة بسعر الصرف الحالي العالي للدولار الذي ينهار بشكل متتابع ولا يبدي أية بوادر للارتداد، يعني من جانب آخر فرض ضريبة غير مباشرة على سعر الصرف تنعكس بالتأكيد على قيمة الواردات. وليت هذا فحسب فعندما تحول ريالاتك أو دولاراتك ـ لا فرق ـ إلى عملة أخرى من العملات التي ارتفعت مقابل الدولار ستخسر مرّة أخرى، وعندما تشتري البضاعة الأجنبية ستشتري أيضاً التضخم في بلد المنشأ، وهذا ينطبق أيضاً على أجور العمالة المغتربة في بلادنا الخليجية التي يعتقد أن تعدادها في بعض هذه البلدان يفوق تعداد سكّانها. أما من حيث نسب الواردات ومصادرها فباستبعاد الواردات العسكرية تبقى النسبة الأكبر من وارداتنا الخليجية من دول أوروبية أو دول شرق آسيوية بمعنى أن خسارتنا تتفاقم يومياً في تحويل مزيد من الدولارات إلى عملات تلك الدول التي لم تعد تقبل به.
لذلك لا بد من الاعتراف أولاً بالمشكلة وتخطي حالة النكران التي نمر بها كخطوة أولى ضرورية لبدء البحث عن حلول مجدية لها، كما يجب ثانياً الإنصات للمسؤولين النقديين في الدول الخليجية الأخرى في مقترحات الحلول التي يطرحونها لتجاوز الخلافات والتوصل إلى حلول مشتركة ترضي مختلف الأطراف وتصبّ في مصلحة الجميع، فهناك إمكانية لدراسة الحل (الراديكالي) الذي أقدم عليه البنك المركزي الكويتي بتعويم الدينار فوق سلّة من العملات وتغيير أوزانها بحسب المستجدات، وهناك إمكانية لتطبيق الحل الذي يطالب فيه البنك المركزي الإماراتي في إعادة تقييم العملات المحلية في مواجهة الدولار لاقتسام العبء بين المواطنين والحكومات بدلاً من الوضع الحالي الذي تصر الحكومات فيه على تحميل المواطنين وحدهم عبء انهيار الدولار بمحافظتها على تقييم عال غير واقعي لسعر صرف عملاتها المحلية لمواطنيها مقابل الدولار. وهناك الحل الذي لجأت إليه قطر بتحديد مصادر التضخم الأكثر شدّة مثل إيجارات المساكن والمكاتب ولجأت إلى تجميد تلك الإيجارات لسنتين على الأقل مع تحديد سقف أعلى لتأجير العقارات الجديدة لا يزيد عن نسبة معينة من قيمتها السوقية أو الدفترية، وهناك الحل الذي لجأت إليه الكويت بصرف بطاقة تموينية للمواطنين بحسم معين من قيمة الأغذية يتم تحصيله من الدولة، وهناك الحل المطروح بالتسريع في إصدار العملة الخليجية المشتركة كمخرج مشترك لفك الارتباط بالدولار، وهناك حل قد يشمل كافة الحلول المطروحة بنسب مختلفة.
أما الحل الذي لجأنا له في المملكة بدعم بعض السلع فقد رأينا نتائجه التي كنّا نتوقعها مسبقاً وحذرنا منها قبل وقوعها في عدّة مقالات بهذه الصفحة، فكافة السلع المدعومة التي دخلت للبلاد وسجّلت كواردات تستحق الإعانة تم إخفاؤها من قبل عدد من الموردين أو شراؤها وجمعها من الأسواق عن طريق سماسرة محليين أو من دول مجاورة بعضها خليجية لتهريبها وبيعها مرّة أخرى بأسعار السوق العالية في تلك البلاد لتتحول المسألة في أحد جوانبها من مجرّد إعانة للمواطنين والمغتربين على الأرض السعوديّة إلى إعانة خارجية لكافة الدول المحيطة بنا ولتتحول في جانب آخر إلى مسألة أمنية أضافت مزيداً من الأعباء على حرس الحدود السعودي والجهات الأمنية الأخرى.
وأعود قبل الختام على التأكيد على أن الحل العاجل (المؤقت) يكمن في تعديل أسلوب تقديم الإعانة الغذائية بحيث تخصص كنسبة مئوية من مشتريات المواطن المستحق بدلاً من تقديمها للمستورد، كما أن المساهمة بعقل مفتوح وقلب مفتوح في الجهود الخليجية المشتركة لتجاوز مسألتي توحيد القرار سواء من خلال إعادة تقييم العملات أو التسريع في إصدار العملة الخليجية المشتركة المعوّمة فوق سلّة من العملات هو الحل الأمثل في المستقبل المنظور..
altawati@yahoo.com
والحقيقة أنني أخالف المسؤولين عن السياسات النقدية في ترويجهم لمقولة ان معظم التضخم في بلادنا محلي وليس مستورداً، فبلادنا تعيش طفرة غير مسبوقة يتوقع أن ترفع حجم الواردات من حوالي 20% في المتوسط من إجمالي الناتج الوطني خلال السنوات الماضية إلى ما يزيد على 30 % ابتداء من هذا العام. ولشراء الواردات يحتاج المستوردون ومن في حكمهم كالسياح وذوي المصلحة في البلاد الأجنبية لعملات تلك البلاد التي لا يمكن الحصول عليها إلا بمبادلتها بالدولار، والدولار يباع من مؤسسة النقد للجمهور بقيمة أعلى من قيمته بكثير، وإذا ما قسنا خسارتنا حتى الآن بالريال جراء ربطه بالدولار ربما وصلت إلى 45% أسوة بالإمارات التي لم تجد سلطاتها النقدية غضاضة في إعلان تقديرات كهذه، وبالتالي فإن الإصرار على التمسك لمدّة طويلة بسعر الصرف الحالي العالي للدولار الذي ينهار بشكل متتابع ولا يبدي أية بوادر للارتداد، يعني من جانب آخر فرض ضريبة غير مباشرة على سعر الصرف تنعكس بالتأكيد على قيمة الواردات. وليت هذا فحسب فعندما تحول ريالاتك أو دولاراتك ـ لا فرق ـ إلى عملة أخرى من العملات التي ارتفعت مقابل الدولار ستخسر مرّة أخرى، وعندما تشتري البضاعة الأجنبية ستشتري أيضاً التضخم في بلد المنشأ، وهذا ينطبق أيضاً على أجور العمالة المغتربة في بلادنا الخليجية التي يعتقد أن تعدادها في بعض هذه البلدان يفوق تعداد سكّانها. أما من حيث نسب الواردات ومصادرها فباستبعاد الواردات العسكرية تبقى النسبة الأكبر من وارداتنا الخليجية من دول أوروبية أو دول شرق آسيوية بمعنى أن خسارتنا تتفاقم يومياً في تحويل مزيد من الدولارات إلى عملات تلك الدول التي لم تعد تقبل به.
لذلك لا بد من الاعتراف أولاً بالمشكلة وتخطي حالة النكران التي نمر بها كخطوة أولى ضرورية لبدء البحث عن حلول مجدية لها، كما يجب ثانياً الإنصات للمسؤولين النقديين في الدول الخليجية الأخرى في مقترحات الحلول التي يطرحونها لتجاوز الخلافات والتوصل إلى حلول مشتركة ترضي مختلف الأطراف وتصبّ في مصلحة الجميع، فهناك إمكانية لدراسة الحل (الراديكالي) الذي أقدم عليه البنك المركزي الكويتي بتعويم الدينار فوق سلّة من العملات وتغيير أوزانها بحسب المستجدات، وهناك إمكانية لتطبيق الحل الذي يطالب فيه البنك المركزي الإماراتي في إعادة تقييم العملات المحلية في مواجهة الدولار لاقتسام العبء بين المواطنين والحكومات بدلاً من الوضع الحالي الذي تصر الحكومات فيه على تحميل المواطنين وحدهم عبء انهيار الدولار بمحافظتها على تقييم عال غير واقعي لسعر صرف عملاتها المحلية لمواطنيها مقابل الدولار. وهناك الحل الذي لجأت إليه قطر بتحديد مصادر التضخم الأكثر شدّة مثل إيجارات المساكن والمكاتب ولجأت إلى تجميد تلك الإيجارات لسنتين على الأقل مع تحديد سقف أعلى لتأجير العقارات الجديدة لا يزيد عن نسبة معينة من قيمتها السوقية أو الدفترية، وهناك الحل الذي لجأت إليه الكويت بصرف بطاقة تموينية للمواطنين بحسم معين من قيمة الأغذية يتم تحصيله من الدولة، وهناك الحل المطروح بالتسريع في إصدار العملة الخليجية المشتركة كمخرج مشترك لفك الارتباط بالدولار، وهناك حل قد يشمل كافة الحلول المطروحة بنسب مختلفة.
أما الحل الذي لجأنا له في المملكة بدعم بعض السلع فقد رأينا نتائجه التي كنّا نتوقعها مسبقاً وحذرنا منها قبل وقوعها في عدّة مقالات بهذه الصفحة، فكافة السلع المدعومة التي دخلت للبلاد وسجّلت كواردات تستحق الإعانة تم إخفاؤها من قبل عدد من الموردين أو شراؤها وجمعها من الأسواق عن طريق سماسرة محليين أو من دول مجاورة بعضها خليجية لتهريبها وبيعها مرّة أخرى بأسعار السوق العالية في تلك البلاد لتتحول المسألة في أحد جوانبها من مجرّد إعانة للمواطنين والمغتربين على الأرض السعوديّة إلى إعانة خارجية لكافة الدول المحيطة بنا ولتتحول في جانب آخر إلى مسألة أمنية أضافت مزيداً من الأعباء على حرس الحدود السعودي والجهات الأمنية الأخرى.
وأعود قبل الختام على التأكيد على أن الحل العاجل (المؤقت) يكمن في تعديل أسلوب تقديم الإعانة الغذائية بحيث تخصص كنسبة مئوية من مشتريات المواطن المستحق بدلاً من تقديمها للمستورد، كما أن المساهمة بعقل مفتوح وقلب مفتوح في الجهود الخليجية المشتركة لتجاوز مسألتي توحيد القرار سواء من خلال إعادة تقييم العملات أو التسريع في إصدار العملة الخليجية المشتركة المعوّمة فوق سلّة من العملات هو الحل الأمثل في المستقبل المنظور..
altawati@yahoo.com