-A +A
يرصدها من الرباط: يوسف المحمادي
لم تكن السيدة « لا لوز «، اليهودية العجوز، عادية في ذلك المساء القائظ من أمسيات شهر اغسطس، كانت تجلس القرفصاء بكومة جسم نحيف إلى قبر رُمِّم بسرعة فائقة على ربوة تطل على السور التاريخي للمدينة القديمة لأسفي ( جنوب المغرب )، لقد كانت العجوز تذرف الدمع بسخاء على قبر جدها اليهودي «ازميرو» الذي دفن هناك رفقة أبنائه السبعة.

في ذلك المساء الصيفي الساخن انخرط اليهود المغاربة المنحدرين من مدينة سمك السردين ؛ أسفي، الذين توافدوا عليها من كندا، أمريكا، فرنسا وإسرائيل ..ليخلدوا في أجوائها المغربية احتفالهم الديني الذي دام افتتاحه في اليوم الأول من الرابعة عصرا إلى السابعة مساء، وخلال الحفل الرسمي المقام في بهو الضريح، كان اليهود شيبا وشبابا، يحيطون بالحاخام الأكبر وهم يترنمون حوله بتراتيل التلمود والأناشيد الدينية، في حين جلست النسوة اليهوديات بالقاعة المجاورة للضريح يبكين منتحبات وكأنهن في عزاء.

لقد كنت من بين الصحافيين المسلمين المدعوين لحضور الحفل الباكي ، وكنت من حين لآخر أسترق النظر ليهوديات عجائز بلباس أسود متسخ وأظافر طويلة غير مقلمة، علمت فيما بعد أنهن من المتدينات المتشددات المتطرفات ..ومثلهن كان أيضا رجال يهود يرتدون بذلا سوداء، ويضعون على رؤوسهم طرابيش سوداء طويلة إلى أعلى تغطي شعرهم الكثيف ذي الضفائر التي اختلط شعرها بشعر لحاهم السوداء الوافرة.

في تلك الليلة، أخبرني فنان الخزف المغربي مولاي أحمد السرغيني، أن أولئك اليهود واليهوديات المرتدين والمرتديات للأسود هم وهن من فئة اليهود المتدينين المتشددين، الذين لم أشاهدهم مساء الهيلولة ؛ المناسبة الدينية التي يجلس خلالها اليهود واليهوديات إلى موائد السهر بالقاعة الكبرى المجاورة لضريح « أولاد بن زميرو «، وهناك اختلط الذكور بالإناث للرقص والغناء وتبادل الأنخاب.



في ليلة الهيلولة

وكانت مفاجأتي قوية في تلك الليلة حين رأيت شابا وسيما طالما حسبته من المسلمين، لكنه قدم لي نفسه باسمه الحقيقي دافيد ، لقد تعرفت على اليهودي المغربي الذي ما يزال إلى اليوم يشتغل مع أخيه جوزيف جزارا بدكان جزارة بشارع الرباط بمدينة أسفي، وله زبائن من المسلمين الذين لا يفضلون عن بضاعته أحدا .لقد كان الجزار اليهودي وأخوه في تلك الليلة ؛ ليلة الهيلولة يرقصان ويتحدثان باللغتين العبرية والفرنسية، وحين يجلسان إلى المائدة مع مجموعة يهود تربطهم بهما روابط مصاهرة، حضروا لأسفي من كندا لتخليد ذكرى «أولاد بن زميرو السبعة» كانوا يقهقهون مرحين فرحين .

في ليلة الموسم اليهودي بأسفي المغربية في ذلك الصيف، سمعت سين «لفظة» مسلم تنطق «شينا». وفي الضريح كانت كلمة شالوم تحية السلام بين اليهود المتبركين من الحاخام الطويل العريض ذي اللحية الشقراء الكثيفة .أما تحية «السلام عليكم»، التي طالما نطقها دافيد الجزار لزبائنه المسلمين، فتحولت إلى في ليلة السهر إلى «بان سوار» مساء الخير باللغة الفرنسية .

لقد كان من اليهود الحاضرين للموسم من يحتسي كؤوس النبيذ المعروف في الأوساط اليهودية بـ «الماحيا» المعروفة عند بائعي الخمور في المغرب ب «ماء الحياة»، خمرة يعصرونها من التين الأبيض المعروف في المغرب ب «الشريحة» .لقد كان اليهود الحاضرين، وأغلبهم من الشباب يرقصون مختلطين باليهوديات راقصين بحيوية وحماس على صوت المطرب اليهودي المغربي «بوطبول» وهو يصدح مغنيا (قطفانك محلول العايلا قفطانك محلول). ومعناها : (فستانك مفتوح يا آنسة).. لقد طرب اليهود المغاربة في تلك الليلة وسكروا لدرجة الثمالة ..



محمد الخامس حمى اليهود

لقد ورد في التاريخ المغربي، الشفهي والمكتوب، أن العاهل المغربي الراحل محمد الخامس، كان حاميا لليهود المغاربة ولمصالحهم في المغرب من كل اعتداء يهددهم، وفي مقدمته تهديد قائد ألمانيا المهيمنة آنذاك دولف هتلر. الذي كان يريد باليهود سوءا وتنكيلا ..لكن المليك محمد الخامس، جد العاهل المغربي الحالي محمد السادس، وقف حصنا حصينا أمام مد الإبادة الهتليرية حتى لا تصل رعاياه اليهود المغاربة المحتمين به، الذين سيعترفون له بالفضل، وسيساهمون إيجابيا، وبشكل كبير، في الاقتصاد المغربي.

لقد كان حي «الملاح» بمدن كل من : مراكش، الدار البيضاء، أسفي، الصويرة، الجديدة، تارودانت، ميدلت ..وغيرها من المدن المغربية، التي كان يستوطنها اليهود، عبارة عن مجمعات تأوي التجار والحرفيين، الذين كانوا ينسجمون بشكل كبير، ويختلطون اجتماعيا مع المغاربة المسلمين .لقد كان اليهود المغاربة أذكياء مقتصدين، منهم الصانع الحاذق، وصائغ الذهب والفضة الفنان. فهم يتاجرون في كل شيء، يصيغون الحلي والمجوهرات، والخناجر وبنادق الصيد والرماية ..ومنهم الماهر الذي يتقن الخياطة وصناعة البرادع والسروج لركوب الدواب .



يهود في مراكز القرار

كانت نساء اليهود المغاربة في الأغلب الأعم خياطات بارعات، يخطن لأبناء المسلمين أحسن الكسوة والألبسة، وبذلك نالوا عطف وحماية الملوك العلويين ورجال المخزن (السلطات).وبذلك العطف الذي ستنضج ثماره حين تعيين العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني لليهودي المغربي، المزداد بمدينة الصويرة المغربية ( جنوب المغرب ) «أندري أزولاي»، مستشارا له في الشؤون الاقتصادية .ثم سيليه ذلك التعيين تعيين اليهودي «سييرج برديغو» وزيرا للسياحة. وبذلك سيمتد النفوذ السياسي لليهود المغاربة في المغرب حتى يصل إلى قبة البرلمان، أعلى جهاز تشريعي في البلاد، وسيصوت الناخبون المغاربة المسلمون بضاحية مدينة أغادير ( جنوب المغرب)، بمنطقة تعرف بـ «بوكاران» لصالح اليهودي «سيمون ليفي» وهو مرشح من حزب الاتحاد الدستوري ( يميني )، وسيلبس الجلباب والبرنوس والطربوش الوطني، وسيدخل مجلس النواب من بابه الأوسع، وباسم الديموقراطية.

وبقي النائب البرلماني اليهودي، سيمون ليفي، وهو مقاول في القطاع الكهربائي بمدينة أغادير، يحضر الجلسات النيابية، ويدافع عن مصالح سكان دائرته الانتخابية بقوة وجرأة، وباللسان المغربي الدارج، لو سمعته يتكلم لما شككت في كونه مغربيا.



ليفي نائب برلماني

دعاني «ليفي» يوما إلى حفل بمناسبة عيد العرش بمدينة أغادير، وعيد العرش عيد وطني يخلد به المغاربة عيد جلوس العاهل المغربي على عرش أجداده العلويين .ورغم أن مساحة «الكنيس» كانت ضيقة، غير أن ليفي استطاع ملئها باليهود المقيمين بالمدينة السياحية التي يعرف إقليمها ب « جهة سوس ماسة درعة « .وقد حضر احتفال ذلك اليوم، ووسط الأعلام المغربية الحمراء التي تتوسطها النجمة الخماسية الخضراء المعلقة في قلب المعبد اليهودي، والي أغادير رشيد الفلالي ووفد رسمي مرافق له يتكون من مسؤولين ومنتخبين وأعيان ..وقام «ليفي» في ذلك المساء ليلقي كلمة بين يدي سعادة الوالي ختمها بالدعاء بالنصر والتمكين للعاهل المغربي محمد السادس.

في تلك الأمسية الوطنية تحدث إلى يهودي مغربي يدعى «الدرعي» يقطن مدينة تارودانت المتاخمة لأغادير على بعد حوالى 100 كلم، وكان ذلك اليهودي المغربي، وهو على مشارف السبعينات من عمره، يلبس جلبابا مغربيا، وبلغة مغربية، والطاقية أيضا مغربية، لو حصل وصادفته في الشارع العام، أو تحدث إليه، لما أدركت هويته، التي هي في الأصل يهودية مغربية.



قنابل المقاومة يهودية

فالمؤرخ كنبيب يعتبر، أنه كانت لليهود المغاربة في المغرب مساهمة في المقاومة بالنسبة لمنطقة الريف في شمال المغرب، وكانت مقاومة أكثر مباشرة، ومحفوفة بمخاطر أكبر .لقد قام صناع تقليديون يهود بمهام متعددة من جملتها العملية الدقيقة والخطيرة المتمثلة في نقل الغازات والمواد المتفجرة من قنابل الطائرات التي لم تنفجر إلى أنابيب كانت تستعمل كقذائف من طرف مدفعية محمد بن عبد الكريم الخطابي، كما تكفلوا بصنع (قنابل يدوية كانوا يقومون بحشوها بمتفجرات يأخذونها من مقذوفات لم تنفجر من جميع الأصناف).

وبحكم أن شمال المغرب كان مستعمرة إسبانية، فإن التجار اليهود كانوا يظهرون من حين لآخر صلابة حين احتجاجهم على صعوبات التموين وتقنين الأسعار، فقد كانوا سباقين إلى استعمال سلاح الإضراب عن العمل حين أغلقوا متاجرهم طيلة يومين متتاليين لحمل السلطات على الرضوخ لمطالبهم، على الرغم من أن المندوب السامي كان قد ضاعف من ضغوطه عليهم، قصد ثنيهم عن خوض الإضراب المذكور، متعللا بصفة خاصة (بالمخاطر الناجمة عن مظاهر التذمر هاته، على الرغم من طابعها السلمي، وذلك في حالة احتداء الأهالي المسلمين بهم). إن لليهود في المغرب تاريخا حافلا بذكريات الألفة في الوطن الإسلامي حماهم باعتبارهم أهل الذمة، غير أن هجرتهم من المغرب لم تنقطع خلال كل القرون، إلا أن ظهور بوادر مجموعة صهيونية مع بدايات القرن الماضي، ساهمت في نقل عدد كبير منهم إلى إسرائيل، وأقيم لذلك مكتب لتنظيم الهجرة والاتصال، سارع العاهل المغربي إلى إغلاقه إثر اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، في فترة تم خلالها إلقاء السلطات الأمنية المغربية القبض على خمسة شبان تتراوح أعمارهم بين 16 و30 عاما لاعتزامهم إشعال النيران في معبد يهودي بمدينة مكناس إلى الوسط الشمالي المغربي .



الدار البيضاء مدينتهم المحبوبة

ومنذ ذلك الحين، وحفاظا على مصالح اليهود المغاربة في المغرب، وحمايتهم من الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت مقرا لهم بالدار البيضاء المحبوبة عندهم، أصبح يداوم اثنان من قوات الأمن ليل نهار على حراسة الأماكن التي يوجد بها اليهود، أو لهم فيها مصالح دينية أو اقتصادية بالمدن المغربية.

وتبين الإحصائيات المغربية، أن يهود المغرب كان يصل عددهم 226 ألف نسمة في عام 1947، غير أن هذا العدد بدأ يتناقص ليصل إلى 2007 آلاف عام 1951 .ثم إلى 160 ألفا عام 1960، و إلى 14 ألف نسمة عام 1989 وسويصل إلى نحو خمسة آلاف عام 2002 .لكن بعد أحداث الدار البيضاء الإرهابية، حاول بعض الساسة الإسرائيليين تهجير من تبقى من اليهود المغاربة في المغرب، مثلما فعلوا عام 1956 عندما أسسوا مكتبا لتنظيم الهجرة .لكن الرعايا اليهود المغاربة لم يستجيبوا لنداء التهجير إلى (أرض الميعاد)، ومن استجاب منهم، هو الآن يعود إلى المغرب في رحلات عائلية عامة وخاصة، لأنه مازال لهم أهل في المغرب لهم مصالح في التجارة والمال في المغرب، فبعضهم يعد من أغنى الأغنياء المغاربة، لهم نوادي خاصة ومؤسسات اجتماعية تنتشر في : مكناس ومراكش والصويرة والدار البيضاء ..مدن يوجد حوالي 30 (كنيس) معبدا.



سام بن شريط يدعوهم للهجرة

ونظرا لتشبثهم بالمغرب وحبهم له، فإن اليهود استهدفوا من طرف الإرهاب الأعمى، الذي ضرب مقر رابطتهم ومقبرة لهم بالدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمغرب، ما اغتنمه «سام بن شطريت»، رئيس الاتحاد العالمي لليهود المغاربة، فرصة سانحة لتوجيه رسائل عاجلة لهم يدعوهم بها إلى الهجرة إلى إسرائيل ؛ نفس النداء التهجيري الذي ستعيد توجيهه إليهم اليهودية وزيرة الاستيعاب «تسيبي ليفي» التي ادعت فيه أن إسرائيل أكثر أمنا من المغرب، وأن الوكالة اليهودية ستوفر للعائدين كل متطلبات العيش الكريم. وتوجت «تسيبي» اليهودية المتطرفة نداءها بشعار : «انضموا إلى الشعب اليهودي في أرض إسرائيل، حيث الدفء والأمان». لكن اليهود المغاربة لم يستجيبوا للنداءين معا، وشوهد سييرج بيرديجو رئيس الرابطة اليهودية المغربية بالرباط يقدم الولاء والبيعة بين يدي المليك محمد السادس بمناسبة عيد العرش.إن اليهود المغاربة يحظون في المملكة المغربية بعناية خاصة قد لا تتوفر لدى بقية اليهود العرب، فالنظام الملكي المغربي منحهم إمكانية عودتهم من إسرائيل إلى بلدهم المغرب متى شاءوا، وكان العاهل المغربي الراحل، الحسن الثاني يرحمه الله، قد وجه نداء عام 1976 لليهود بالعودة إلى وطنهم المغرب .وفي عام 1999 قرر مجلس النواب المغربي حق اليهود المهاجرين في استعادة الجنسية المغربية، وعدم إسقاطها لمن هاجر إلى إسرائيل من المغرب، وكان المغرب قد قرر ذلك الامتياز، بعدما تأسس فيه في شهر مايو عام 1991 «لاتحاد العالمي لليهود المغاربة» اتحاد سيضم في مجلس إدارته وزراء إسرائيليين حاليون وسابقين.

رئيس حزب العمال يتكلم مغربيوبينما كان القسم الدولي في ( عكاظ ) ينسق لإنجاز هذا التحقيق، كان العاهل المغربي محمد السادس، رئيس لجنة القدس، بمدينة فاس يستقبل اليهودي المغربي عمير بيرتز ، رئيس حزب العمل الإسرائيلي، استقبالا رسميا حضره مستشار العاهل المغربي في شؤون الاقتصاد، اليهودي أندري أزولاي، والوزير المنتدب لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون، الطيب الفاسي الفهري .في ذلك المساء الشتوي البارد، كانت مدينة فاس وبساتين زيتونها يهب عليها رياح الصقيع المثلِّج من قمم جبال الأطلس، بينما كان عمير، اليهودي المغربي ابن مدينة « بالجعد « المغربية، يتكلم في حضرة صاحب الجلالة بلسان مغربي دارج، ما كان على التلفزيون المغربي خلال حفل الاستقبال، سوى فتحه لميكروفون الإذاعة على مسامع المشاهدين، ورئيس حزب العمل الإسرائيلي وهو يقول : (إنني كنحبكم، وكنحب المغرب بلادي العزيزة الجميلة .راني كانشوفكم أمامي في كل حين يالمغاربة لعزاز ) ومعناها : (إنني أحبكم، وأحب بلادي العزيزة الجميلة المغرب .إنني أشاهدكم أمامي في كل حين أيها المغاربة الأعزاء).



في الحلقة القأدمة :

يهود مصر .. مسؤولون فى حكومة سعد زغلول