-A +A
سمير عابد شيخ
أذكر أني في عام 1986م قضيت فترة تدريبية أعمل في بنك أمريكي شهير بشارع "وول ستريت" بمدينة نيويورك. وكنت أتعجّب من مساحة نشاط ذلك البنك العملاق وأنماط استثماراته وقطاعات تمويله. كنت أقارن ذلك مع البنك الذي عمل فيه والدي يرحمه الله وأعمامي بمدينة جدة، وكيف كان من البساطة والألفة مع الناس. ولقد شبّهت ذلك البنك البسيط "بدكّان الحارة"، مقارنة بالمولات التي"تمكيج" خدود جدّة هذه الأيّام! وكما أنّ المؤسسات المالية تطوّرت منذ ذلك الوقت، كذلك تطوّرت سائر المتعلّقات المالية في المجتمع. والشاهد هنا كيف كان الغلاء حينئذ وكيف أصبح اليوم، وكيف تطوّرت أسبابه كما تطوّرت اقتصادات الكرة الأرضية برمّتها.
كانت وزارة التّجارة هي المسئولة عن أسعار السلع والسيطرة عليها في الأسواق. فلقد كانت تبعث المفتّشين الى الأسواق لتراقب الأسعار وتكبح جماح الطمع او تراقب الأزمات والاختناقات في التموين. أما وأن دخلنا زمن العولمة، فلقد اضطررنا لفتح أسواقنا للتيارات العالمية بخيرها وشرّها. ولقد أصبحت منظّمة التجارة العالمية احدى أهم المؤثرات على اقتصادات العالم اليوم. وكان لا بد لوزارة التّجارة أن تتأهّب لمواجهة تحديّات عضوية منظمة التجارة، ولقد فعلت ذلك رغم التحديات الهائلة التي واجهتها ومازالت. وهكذا تبدّلت تدريجيا مسئوليات الوزارة وأصبحت أولويات الماضي على ذيل قائمة مسئوليات اليوم. وارتفاع أسعار السلع اليوم هو عرض ولكنّه لمرض يختلف كثيرا عن ذاك المرض الذي كنّا نعايشه قبل أربعين عاما!

وفي مقالات عديدة سابقة، اتّضـح لي انّ أسباب الغلاء هذه الأيام تتجاوز الثلاثة عشر سببا معظمها غريبة المنشأ وتهاجر الينا بحكم تركيبتنا الاقتصادية التي تعتمد على استيراد معظم المواد الغذائية من الخارج. ولكن الأسباب الجديدة للغلاء هذه والتي تبدأ من اشكالية النفط والوقود الحيوي، مرورا بربط الريال بالدولار، ووصولا الى انفلونزا الطيور واضطرابات البيئة - كل هذه الأسباب لا يمكن أن تقع ضمن دائرة نفوذ وزارة التجارة ومفتشيها. ومجرّد تحميل وزارة التّجارة، كما نعرفها الآن، مسئولية الاحاطة بكافّة مسببات الغلاء ومن ثم التعامل معها، ودراسة خيارات القرارات وبدائل الدّعم، يتطلّب جهودا جبارة بل وآليات جديدة قد تخرجها عن القيام بسئولياتها الحالية.
ولقد أمسى جليا أنّ أسلوب "الادارة بالمفاجآت" أو "الادارة بالفواجع" الذي نلمسه اليوم لا يمكن أن يؤدي الى احتواء هذا الغلاء الفاحش. ولقد قامت عدة مطبوعات اقتصادية رصينة، مثل الايكونمست البريطانية، بدراسة هذه الظاهرة، وخلصت الى أنّ غلاء المواد الغذائية سيكون عنصراً باقيا في خارطة اقتصادات العالم لسنين قادمة. وفي اعتقادي أنّ الواقع الجديد لمكونات الغلاء يقتضي ايجاد هيئة عليا للتموين يكون هدفها الرئيس هو دعم القوة الشرائية للمواطنين من خلال المحافظة على التوازن في الأسواق. تقوم الهيئة برصد ظاهرة الغلاء العالمي ورسم سياسات لمواجهته ورفع توصيات لاستحداث آليات جديدة لاحتوائه. ولعل أبرز مهام الهيئة هي التنسيق الدؤوب فيما بين كافّة الوزارات بما فيها التجارة والمالية والزراعة والغرف التجارية، لتوحيد الرؤية واتّخاذ خطوات ايجابية متناسقة لرفع هذه البلوى عن المواطنين.
وحقيقة أن معظم رياح الغلاء تهب من الخارج، لا يعني أن نقف مشدوهين تجاه كل عاصفة جديدة من الغلاء. ولو أنّا تابعنا تيّارات الغلاء منذ تكوينها وولادتها في الخارج، لاستطعنا أن نحسن الاستعداد لها والتعامل معها. ولكن تشعّب هذه الأزمة وجذورها وارتباطاتها بعناصر متباعدة ومعقّدة، يفرض علينا أن نعاملها ليس كجزء من مسئولية احدى الوزارات، بل يقتضي أن نستحدث لها كيانا عصريا يتناسب مع حداثة وتعقيد هذه الظاهرة. فليكن هيئة عليا أو فليكن ما يراه ولاة الأمر وفقهم الله، ولكن الواضح أنّ التعامل التقليدي مع ظاهرة غير تقلديدية قد لا يجدي نفعا هذه المرّة. والله أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد.