ودعت البحرين في 28 مارس 2004 شاعرها الكبير الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة عن عمر ناهز 73 عاما قضاها في محراب الأدب والشعر، يتعلم نظم القصائد من معلمه الأول الشاعر الكبير إبراهيم العريض، ويقرأ في دواوين نخبة من كبار الشعراء العرب، ابتداءً من معشوقه الأول أبي الطيب المتنبي وانتهاءً بالشاعر المهجري إيليا أبوماضي ومرورا بالشاعر التونسي الحزين أبي القاسم الشابي والشاعر المصري الحماسي علي محمود طه والشاعر السوري الجميل عمر أبوريشة.
كان لكل واحد من هؤلاء الشعراء تأثير واضح عليه لاحقا حينما بدأ يكتب قصائده، بدليل ميله إلى شعر الافتخار والتباهي ببلده البحرين؛ وشعر المناسبات الذي استحوذ على الجزء الأكبر من نتاجه (وصف البحريني علوي الهاشمي شعر المناسبات في كتابه «شعراء البحرين المعاصرون» الصادر سنة 1988 قائلا إنه: «شعر يخلو في معظمه من القيمة الفنية ويصل إلى درك النظم العادي الخالي من الروح والمعاناة اللهم إلا ما يتصل منه ببعض جوانب التاريخ الخاص الذي يمس حياة الشاعر وعواطفه الشخصية وما يقف وراءه من جذور قبلية حية وعميقة في انتمائها وإشكالياتها»).
علاوة على شعر التغني بالطبيعة والجمال الذي استحضر صوره من بيئة البحرين بسواحلها ونخيلها ومياهها الزمردية وفرجانها العتيقة من جهة، ومن بيئة لبنان الساحرة التي ظل يتردد عليها ثم غاب عنها لمدة عقدين، فكتب في وصفها وجمالها 4 قصائد هي: «مزامير على سفوح لبنان»، و«تحية إلى بيروت»، و«لبنان»، و«ذكرى الأخطل الصغير». على أن بيروت، التي قال فيها: «بيروت غني وافرحي لإيابي / ودعي عتابك واسمعي لعتابي / عقدان مرا ما رأيتك فابسمي / إذ أنت أدرى اليوم بالأسباب»، لم تكن وحدها التي خصها الشاعر بشعره وهيامه. فقد هام أيضا بالقاهرة ثم بغداد التي كتب فيها معاتبا: «بغداد طال تباعد الأحباب / فاستقبليني اليوم بالترحاب / بعد القطيعة قد أتى لك شاعر / في مقلتيه اليوم دمع عتاب / تتساقط الأشجان من أردانه / وأتاك يشدو في قشيب ثياب / ألقى بدجلة في الضحى أسماله / بعد المكوث بمائها المنساب».
ولد الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة في قرية الجسرة سنة 1929، ابنا لفرع من فروع الأسرة الخليفية الحاكمة التي أعطت البحرين أيضا شعراء آخرين مثل الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة والشاعر الوائلي الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة.
وفي سن الثالثة انتقل إلى قرية الزلاق على الساحل الغربي لجزيرة البحرين لينشأ ويترعرع ويعيش طفولته وصباه فيها على مشاهد البحر والصيادين وبساتين النخيل الخضراء وأشجار اللوز والورود وعيون المياه العذبة وهدير الأمواج وأغاني الغوص وزقزقة الطيور. وظل هناك حتى العام 1951 لينتقل بعدها للسكن في منطقة مغايرة تماما، تعج بالحركة والضوضاء هي منطقة القضيبية في قلب العاصمة المنامة، حيث درس المرحلة الثانوية مزاملا 3 ممن أصبحوا لاحقا من ضمن نجوم الشعر والأدب في الخليج وهم: الدكتورغازي بن عبدالرحمن القصيبي والشاعرعبدالرحمن رفيع والأستاذ ناصر بوحيمد.
وفي هذه الفترة من حياته، تلقى شاعرنا أيضا دروسا في اللغة العربية على أيدي بعض علماء البحرين، وفي المقدمة منهم قاضي الشرع وخطيب جامع القضيبية، خريج جامعة الأزهر الشيخ يوسف بن أحمد الصديقي.
ولشدة تعلقه بالأدب والشعر منذ يفاعته، برز ضمن طليعة شعراء البحرين المعاصرين الذين خلَّدوا دروس الحياة وصور البيئة البحرينية القديمة وتجربة الغوص بحثا عن اللؤلؤ وحوادث المجتمع والمناسبات التاريخية من خلال قصائد غلبت عليها الرومانسية وطغت عليها الصور الخيالية، والتزمت بخطوط النظم الكلاسيكي بعيدا عن تيارات التجديد والحداثة التي عاصرها دون أن يتأثر بها أو برموزها، وإن كان قد تمرد على النمط الشعري المحافظ لجهة الموضوع والأسلوب، وليس لجهة الوزن والعمود. ونرى هذا بوضوح في الأعمال والدواوين الشعرية التي نشرها بدءا من أول ديوان أصدره في عام 1955 تحت اسم «أغاني البحرين» من خلال دار الكشاف اللبنانية، وانتهاءً بأوبريت الفاتح في عام 2003، ومرورا بدواوين: «هجير وسراب» (1962)، «بقايا الغدران» (1966)، «القمر والنخيل» (1978)، «العناقيد الأربعة» (1980)، «غيوم في الصيف» (1988)، «عبير الوادي» (2001)، «أنفاس الرياحين» (2003). ومما قيل إن وجود فواصل زمنية ليست بالقصيرة بين إصدار ديوان وآخر لهو دليل على تأني شاعرنا في مسائل النشر من أجل تقديم شيء متكامل وناضج. ولعل هذا كان أخذا بنصيحة أستاذه العريض. حيث أخبرنا في حواره مع «الأيام» (مصدر سابق): «لقد تعلمت درسا من أستاذي إبراهيم العريض الذي كان ينصحني قائلاً: (ضع القصيدة تحت الوسادة 3 أيام) قبل نشرها من أجل ضمان الوحدة الفنية».
أورد الأديب السعودي الأستاذ عبدالله أحمد الشباط في كتابه «أدباء وأديبات من الخليج العربي» (الدار الوطنية الجديدة للنشر والتوزيع/الخبر/1999/ الطبعة الثانية/ ص 59) رأيا للأستاذ ناصر بوحيمد في شعر الشيخ أحمد قال فيه: «برغم التيارات الأدبية الجديدة بالنسبة لعمود الشعر، بقي محافظا على القديم، ولعل هذه الصفة تعد دليلا على مقدرته الأدبية وإيمانه بضرورة صيانة اللغة والمحافظة على الطابع الأصيل فيها.. وهذه الصفة يلاحظها الدارس لأوضاع الخليج العربي عامة، ولشعراء آل خليفة بالذات وإصرارهم على الالتزام بتقاليدهم التي ورثوها منذ القدم».
ولعل نشأته في ظل أسرة عربية عريقة، ثم اكتمال نضجه ووعيه الفكري في عقد الخمسينات الحافل بالأحداث المتسارعة في العالم العربي كقيام الثورة المصرية والعدوان الثلاثي على بورسعيد وانطلاق الثورة الجزائرية وبدء الكفاح من أجل الاستقلال في تونس ومراكش والتغني باستعادة فلسطين، لعبا دورا في توجيه جانب من نتاجه الشعري صوب تمجيد هذه الأحداث على نحو ما فعله شعراء عرب وخليجيون كثر في تلك المرحلة. فقد مجد الثورة المصرية بقصيدة عصماء، وخلد مأساة فلسطين وشعبها بملحمة شعرية بعنوان «فلسطين من وراء الضباب»، ورثى المجاهد المغربي الأمير عبدالكريم الخطابي بعد استشهاده بقصيدة أشاد فيها ببطولاته ومواقفه الوطنية ضد الاستعمار الإسباني للريف المغربي.
ويقول الأديب الشباط (مصدر سابق ص 58 و59) إن شاعرنا راح بعد فورة الشباب ينظر إلى الأمور برصانة أكثر ويعالجها بأسلوب رصين وهادئ يدعو إلى التأمل، بدلا من معالجتها بالوعيل والصراخ والانفعال أو بالأساليب المتشنجة التي غلبت على العديد ممن اعتلوا المنابر الشعرية من شعراء العربية.
قلنا إن الشيخ أحمد من ضمن الشعراء المعاصرين الذين عشقوا شعر أبي الطيب المتنبي وتماهوا معه وجدانيا. وليس أدل على ذلك من القصيدة التي كتبها بعنوان «أبو الطيب المتنبي»، ومن أبياتها:
بك الشعر يسمو للسِّماك ويرتقي
فأيَّ معانٍ كنت للشعر تنتقي
شغلت الأوالي والأواخر في الدنا
وحيَّرتهم من سحرك المتدفقِ
كأن عصا موسى بكفك أصبحت
تجيءُ بسحر للخوارق مُعرقِ
وذلَّت لك الأفذاذ في كل بلدةٍ
وخرت لك الأقمار في كل مشرقِ
فأيَّ رحيق كنت تُسقى بنبعهِ
وتكرع من ينبوعه المترقرقِ
ولا يُطرب الدنيا سواه لأنهُ
فريدٌ، ومن حاكاه لم يتوفقِ
فقبلك لم يدنُ الخيال لملهَمٍ
ولا عصبوا تاج النبوغ بمفرقِ.
والشاعر الشيخ أحمد، الذي بدأ مسيرته الأدبية بقرض الشعر النبطي، قبل الشعر الفصيح متأسيا بنهج الشعراء الشيوخ، ومقتديا بالشيخين إبراهيم بن محمد آل خليفة ومحمد بن عيسى آل خليفة، يرى أن الوطنية لا تكمن في إطلاق الشعارات، وإنما يجسدها ذوبان روح المرء في وطنه والالتصاق بترابه والإيمان بقدراته. ومن هذا المنطلق أنشد أحلى القصائد في البحرين مستخدما اسمها التاريخي القديم «أوال» فأُطلق عليه لقب «عاشق أوال»، إضافة إلى لقب «شاعر الطبيعة» بسبب قصائد نظمها تغنى فيها بطبيعة البحرين. فنجده مثلا يقول في قصيدته المعنونة بـ«أوال مهد الحب والجمال»:
هذي (أوالُ) فغردوا بضفافها
واستلهموا الإنشادَ من أريافها
أرضٌ حباها الله سر جمالهِ
حتى استطال العزُّ في أشرافها
فيها النخيلُ الباسقاتُ تمايلتْ
في شطِّها وغفَت على أكتافها
حتى الربيعُ يكادُ يشرب نخبهُ
فيها ويسكرُ من شذى أفوافها
والشمسُ تقبسُ ضوءَها من دُرِّها
ليلاً ونورُ البدر من أصدافها
والشاعر الغرِّيدُ تلهم روحهُ
بالشعرِ حيثُ الوحيُ من أطيافها.
ونجده يتغنى بـ«أوال» مرة أخرى في قصيدة حملت عنوان «ها هي أوال» فيقول:
أوالُ يا حلمَ التجارِ ويا رؤى
الغوَّاصِ في البحر الجميل الصافي
ما أنتِ إلا صورةٌ سحريةٌ
في حسنها جلَّت عن الأوصافِ
غنَّاكِ روَّادُ البحارِ وردَّدوا
ألحانهم في رنَّة المجدافِ.
كما نجده ينشد للبحرين قائلا:
أنا البحرينُ سلْ عني الليالي
تُجِبْك بما تُسَرُّ بهِ المعالي
بيَ البترولُ في الهضبات جارٌ
وفي بحري الثمين من اللآلئ
تضيء جزائري كقصور درٍّ
بَدَتْ في ذهن رسامٍ خيالي.
كانت لشاعرنا مساجلات كثيرة مع العديد من شعراء البحرين من أمثال عبدالرحمن قاسم المعاودة، وتقي البحارنة، وأيضا مع بعض شعراء الخليج مثل الشاعر الكويتي محمد الفايز والشاعر السعودي عبدالرسول الجشي، إضافة إلى صديقه وزميل دراسته في المرحلة الثانوية الشاعر الدكتور غازي القصيبي، الذي قال عنه في معرض الحديث عن شاعريته: «هذا الشاعر يذكرك بوجد شعراء نجد بهضابها ونسيمها.. كما يذكرك بشعراء الرومانسية ودعوتهم إلى الانطلاق في أحضان الطبيعة ومؤاخاتها.. تحس أنك تود أن تنطلق إلى أحضان الربيع.. أن تذوب في الطبيعة.. وإن هذه النزعة من الهيام بالطبيعة لنادرة في الشعر العربي المعاصر». ولعل هذه الأبيات للشاعر حول مفاتن الطبيعة تؤكد كلام الدكتور القصيبي:
إن دنيا الربيعِ موكبُ سحرٍ
مستفيضٌ جمالُهُ الفتانُ
سُرُرٌ من أزاهرَ وأغانٍ
مسكراتٍ تشدو بها الرعيانُ
وطيوبٌ تضوع من كل روضٍ
تُثمِلُ العاشقين أيَّانَ كانوا
ورسوم من الطبيعة تبدو
كل آنٍ للناظرين عيانُ.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
كان لكل واحد من هؤلاء الشعراء تأثير واضح عليه لاحقا حينما بدأ يكتب قصائده، بدليل ميله إلى شعر الافتخار والتباهي ببلده البحرين؛ وشعر المناسبات الذي استحوذ على الجزء الأكبر من نتاجه (وصف البحريني علوي الهاشمي شعر المناسبات في كتابه «شعراء البحرين المعاصرون» الصادر سنة 1988 قائلا إنه: «شعر يخلو في معظمه من القيمة الفنية ويصل إلى درك النظم العادي الخالي من الروح والمعاناة اللهم إلا ما يتصل منه ببعض جوانب التاريخ الخاص الذي يمس حياة الشاعر وعواطفه الشخصية وما يقف وراءه من جذور قبلية حية وعميقة في انتمائها وإشكالياتها»).
علاوة على شعر التغني بالطبيعة والجمال الذي استحضر صوره من بيئة البحرين بسواحلها ونخيلها ومياهها الزمردية وفرجانها العتيقة من جهة، ومن بيئة لبنان الساحرة التي ظل يتردد عليها ثم غاب عنها لمدة عقدين، فكتب في وصفها وجمالها 4 قصائد هي: «مزامير على سفوح لبنان»، و«تحية إلى بيروت»، و«لبنان»، و«ذكرى الأخطل الصغير». على أن بيروت، التي قال فيها: «بيروت غني وافرحي لإيابي / ودعي عتابك واسمعي لعتابي / عقدان مرا ما رأيتك فابسمي / إذ أنت أدرى اليوم بالأسباب»، لم تكن وحدها التي خصها الشاعر بشعره وهيامه. فقد هام أيضا بالقاهرة ثم بغداد التي كتب فيها معاتبا: «بغداد طال تباعد الأحباب / فاستقبليني اليوم بالترحاب / بعد القطيعة قد أتى لك شاعر / في مقلتيه اليوم دمع عتاب / تتساقط الأشجان من أردانه / وأتاك يشدو في قشيب ثياب / ألقى بدجلة في الضحى أسماله / بعد المكوث بمائها المنساب».
ولد الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة في قرية الجسرة سنة 1929، ابنا لفرع من فروع الأسرة الخليفية الحاكمة التي أعطت البحرين أيضا شعراء آخرين مثل الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة والشاعر الوائلي الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة.
وفي سن الثالثة انتقل إلى قرية الزلاق على الساحل الغربي لجزيرة البحرين لينشأ ويترعرع ويعيش طفولته وصباه فيها على مشاهد البحر والصيادين وبساتين النخيل الخضراء وأشجار اللوز والورود وعيون المياه العذبة وهدير الأمواج وأغاني الغوص وزقزقة الطيور. وظل هناك حتى العام 1951 لينتقل بعدها للسكن في منطقة مغايرة تماما، تعج بالحركة والضوضاء هي منطقة القضيبية في قلب العاصمة المنامة، حيث درس المرحلة الثانوية مزاملا 3 ممن أصبحوا لاحقا من ضمن نجوم الشعر والأدب في الخليج وهم: الدكتورغازي بن عبدالرحمن القصيبي والشاعرعبدالرحمن رفيع والأستاذ ناصر بوحيمد.
صداقة العريض
وفي القضيبية أيضا تعرف شاعرنا على الشاعر إبراهيم العريض، الذي كان يقيم في المنطقة ذاتها وتتلمذ على يده، علما بأن العريض خصَّه بالجملة التالية في معرض رأيه فيه: «أحمد بين الشعراء الذين تعتز بهم الجزيرة.. هو أقواهم إلى الحياة التي يمارسها تعبيرا، وأرهفهم بالآلام التي يعانيها في وحدته شعورا». وعن ظروف تعرفه على العريض وارتباطه به أخبرنا الشاعر في حوار معه نشرته صحيفة الأيام بعد وفاته (23/5/2004) بما يلي: «لقد التقيت بسائق كان يعمل عنده وهو جار لي وقلت له لدي رسالة أرجو توصيلها إلى إبراهيم العريض، كان ذلك سنة 1952 وبالفعل وصلت الرسالة التي كنت أطلب فيها مقابلته لأعرض عليه بعض أشعاري، وفوجئت بأن الرجل رحب بي بشكل لا يوصف، ومن تلك اللحظة أصبحت بيننا صداقة أدبية وإنسانية، وأذكر أنني في بداياتي الشعرية كتبت قصيدة وأهديته إياها فقال لي: أنصحك أن لا تنشر أي تجربة، عليك أن تتمهل وتراجع ما تكتبه، وتذكر دائما أنك لن تصبح شاعرا إلا إذا تحدث عنك الأدباء والنقاد في دمشق والقاهرة». ثم استطرد شاعرنا متحدثا عن علاقته بالعريض فقال: «علاقتي بالعريض كانت مميزة، ولقد ارتبطت به منذ سنة 1952 أي نصف قرن من الزمان، نصف قرن من الصداقة، نصف قرن كنت أتعلم من هذا الشاعر الكبير، تعلمت منه حب الشعر، تعلمت منه حب اللغة العربية، وتعلمت منه أن الشعر فن عظيم وليس هراء وطلاسم. لقد كان العريض أستاذي وظلي الذي لا يفارقني طوال حياتي، لقد كنت أستقي منه الحكمة والرأي الناقد».وفي هذه الفترة من حياته، تلقى شاعرنا أيضا دروسا في اللغة العربية على أيدي بعض علماء البحرين، وفي المقدمة منهم قاضي الشرع وخطيب جامع القضيبية، خريج جامعة الأزهر الشيخ يوسف بن أحمد الصديقي.
ولشدة تعلقه بالأدب والشعر منذ يفاعته، برز ضمن طليعة شعراء البحرين المعاصرين الذين خلَّدوا دروس الحياة وصور البيئة البحرينية القديمة وتجربة الغوص بحثا عن اللؤلؤ وحوادث المجتمع والمناسبات التاريخية من خلال قصائد غلبت عليها الرومانسية وطغت عليها الصور الخيالية، والتزمت بخطوط النظم الكلاسيكي بعيدا عن تيارات التجديد والحداثة التي عاصرها دون أن يتأثر بها أو برموزها، وإن كان قد تمرد على النمط الشعري المحافظ لجهة الموضوع والأسلوب، وليس لجهة الوزن والعمود. ونرى هذا بوضوح في الأعمال والدواوين الشعرية التي نشرها بدءا من أول ديوان أصدره في عام 1955 تحت اسم «أغاني البحرين» من خلال دار الكشاف اللبنانية، وانتهاءً بأوبريت الفاتح في عام 2003، ومرورا بدواوين: «هجير وسراب» (1962)، «بقايا الغدران» (1966)، «القمر والنخيل» (1978)، «العناقيد الأربعة» (1980)، «غيوم في الصيف» (1988)، «عبير الوادي» (2001)، «أنفاس الرياحين» (2003). ومما قيل إن وجود فواصل زمنية ليست بالقصيرة بين إصدار ديوان وآخر لهو دليل على تأني شاعرنا في مسائل النشر من أجل تقديم شيء متكامل وناضج. ولعل هذا كان أخذا بنصيحة أستاذه العريض. حيث أخبرنا في حواره مع «الأيام» (مصدر سابق): «لقد تعلمت درسا من أستاذي إبراهيم العريض الذي كان ينصحني قائلاً: (ضع القصيدة تحت الوسادة 3 أيام) قبل نشرها من أجل ضمان الوحدة الفنية».
أورد الأديب السعودي الأستاذ عبدالله أحمد الشباط في كتابه «أدباء وأديبات من الخليج العربي» (الدار الوطنية الجديدة للنشر والتوزيع/الخبر/1999/ الطبعة الثانية/ ص 59) رأيا للأستاذ ناصر بوحيمد في شعر الشيخ أحمد قال فيه: «برغم التيارات الأدبية الجديدة بالنسبة لعمود الشعر، بقي محافظا على القديم، ولعل هذه الصفة تعد دليلا على مقدرته الأدبية وإيمانه بضرورة صيانة اللغة والمحافظة على الطابع الأصيل فيها.. وهذه الصفة يلاحظها الدارس لأوضاع الخليج العربي عامة، ولشعراء آل خليفة بالذات وإصرارهم على الالتزام بتقاليدهم التي ورثوها منذ القدم».
«المستمع العربي»
ومما وجدته في سيرته المنشورة في أكثر من موقع شعري إلكتروني أن أول منصة نشرت نتاجه الشعري كانت مجلة «المستمع العربي» الصادرة عن هيئة الإذاعة البريطانية، حيث قامت هذه المجلة الشهرية، التي تغير اسمها فيما بعد إلى مجلة «هنا لندن»، بنشر إحدى قصائده الأولى في عددها الصادر في شهر نوفمبر 1951. وبعد ذلك، في عام 1952، راحت قصائده تُنشر في العديد من المجلات والصحف المحلية والعربية. وفي السياق ذاته كتبت صحيفة الأيام البحرينية (25/2/2017) ما يلي: «تصدرت قصائده العديد من الصحف العربية ومن بينها مجلة المجتمع العربي المصرية، والقافلة، وصوت البحرين، والخميلة، حيث أصبح من ألمع شعراء المنطقة آنذاك لما لقصائده من وزن أدبي ثقيل ولقدرته الشعرية الرفيعة. كان للشيخ أحمد مزرعة حَولها لملتقى أدبي يتجمع فيها الأدباء والفنانون يتشاركون أعمالهم فيها، وكان قد اتخذ هذه المزرعة مكانا لتأليف العديد من دواوينه الشعرية».ولعل نشأته في ظل أسرة عربية عريقة، ثم اكتمال نضجه ووعيه الفكري في عقد الخمسينات الحافل بالأحداث المتسارعة في العالم العربي كقيام الثورة المصرية والعدوان الثلاثي على بورسعيد وانطلاق الثورة الجزائرية وبدء الكفاح من أجل الاستقلال في تونس ومراكش والتغني باستعادة فلسطين، لعبا دورا في توجيه جانب من نتاجه الشعري صوب تمجيد هذه الأحداث على نحو ما فعله شعراء عرب وخليجيون كثر في تلك المرحلة. فقد مجد الثورة المصرية بقصيدة عصماء، وخلد مأساة فلسطين وشعبها بملحمة شعرية بعنوان «فلسطين من وراء الضباب»، ورثى المجاهد المغربي الأمير عبدالكريم الخطابي بعد استشهاده بقصيدة أشاد فيها ببطولاته ومواقفه الوطنية ضد الاستعمار الإسباني للريف المغربي.
ويقول الأديب الشباط (مصدر سابق ص 58 و59) إن شاعرنا راح بعد فورة الشباب ينظر إلى الأمور برصانة أكثر ويعالجها بأسلوب رصين وهادئ يدعو إلى التأمل، بدلا من معالجتها بالوعيل والصراخ والانفعال أو بالأساليب المتشنجة التي غلبت على العديد ممن اعتلوا المنابر الشعرية من شعراء العربية.
الأوسمة والتكريمات
حصد الشيخ أحمد خلال مسيرته الأدبية العديد من الأوسمة والتكريمات ومن أهمها: وسام البحرين من الدرجة الأولى في أكتوبر 2002، ووسام التكريم من قادة مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مسقط في ديسمبر 1989. كما فاز في المسابقة الأدبية للقصيدة النبطية التي أعلن عنها جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عندما كان وليا للعهد في أبريل 1979، ونال شهادة تقديرية من «بيت القرآن» بالمنامة على ما قدمه من دعم ومساندة وعطاء لهذا المعلم، وتم منحه العضوية الفخرية لنادي المحرق الرياضي في فبراير 1990، ومنح أيضا شهادة تقديرية من مجلس إدارة نادي البسيتين الرياضي والثقافي في مايو 1995، عرفانا بالجهود التي بذلها في إثراء الساحة العربية لنظمه الشعر الشعبي والفصيح. وفي 23 أبريل 2002 تم تكريمه من قبل وزارة التربية والتعليم البحرينية بحصوله على درع إدارة المكتبات العامة بالوزارة في اليوم العالمي للكتاب الذي يصادف ذلك التاريخ من كل عام، وذلك عن فوز ديوانه «عبير الوادي» كأحد أبرز النتاجات الفكرية البحرينية المتميزة.شبيه حمزاتوف
شبهه الدكتور عبدالرحمن بوعلي في مقال له بجريدة أخبار الخليج البحرينية (31/3/2018) بالشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف لجهة تخصيص جل شعره لوطنه، ثم وصفه بـ«المتحدث الرسمي بلسان قلب البحرين ونخيلها وبحرها وترابها وكل جمالياتها»، قبل أن يقول عنه: «كان مفكرا في ثوب شاعر، وعاشقا في ثوب مفكر، ومواطنا مدركا أن مواطنته لا تكتمل إلا بالشغف المتناهي بالوطن والتبجيل اللامحدود لكل أشيائه وتفاصيله وشؤونه وشجونه، ولذلك فإن عشقه للبحرين لم يتوقف عند عشق طبيعتها وبيئتها وأشجارها ونخيلها وبحرها وشمسها.. بل عشق فيها طيبة أهلها وتنوع مصادر ثقافتها وتعدد الأديان والعبادات فيها، فرأى فيها ما رآه طاغور في الهند عندما وصفها بأنها (بلد يُعبد فيها الرب بألف وثلاثمائة لغة)».«عاشق أوال» وشاعر الطبيعة
قلنا إن الشيخ أحمد من ضمن الشعراء المعاصرين الذين عشقوا شعر أبي الطيب المتنبي وتماهوا معه وجدانيا. وليس أدل على ذلك من القصيدة التي كتبها بعنوان «أبو الطيب المتنبي»، ومن أبياتها:
بك الشعر يسمو للسِّماك ويرتقي
فأيَّ معانٍ كنت للشعر تنتقي
شغلت الأوالي والأواخر في الدنا
وحيَّرتهم من سحرك المتدفقِ
كأن عصا موسى بكفك أصبحت
تجيءُ بسحر للخوارق مُعرقِ
وذلَّت لك الأفذاذ في كل بلدةٍ
وخرت لك الأقمار في كل مشرقِ
فأيَّ رحيق كنت تُسقى بنبعهِ
وتكرع من ينبوعه المترقرقِ
ولا يُطرب الدنيا سواه لأنهُ
فريدٌ، ومن حاكاه لم يتوفقِ
فقبلك لم يدنُ الخيال لملهَمٍ
ولا عصبوا تاج النبوغ بمفرقِ.
والشاعر الشيخ أحمد، الذي بدأ مسيرته الأدبية بقرض الشعر النبطي، قبل الشعر الفصيح متأسيا بنهج الشعراء الشيوخ، ومقتديا بالشيخين إبراهيم بن محمد آل خليفة ومحمد بن عيسى آل خليفة، يرى أن الوطنية لا تكمن في إطلاق الشعارات، وإنما يجسدها ذوبان روح المرء في وطنه والالتصاق بترابه والإيمان بقدراته. ومن هذا المنطلق أنشد أحلى القصائد في البحرين مستخدما اسمها التاريخي القديم «أوال» فأُطلق عليه لقب «عاشق أوال»، إضافة إلى لقب «شاعر الطبيعة» بسبب قصائد نظمها تغنى فيها بطبيعة البحرين. فنجده مثلا يقول في قصيدته المعنونة بـ«أوال مهد الحب والجمال»:
هذي (أوالُ) فغردوا بضفافها
واستلهموا الإنشادَ من أريافها
أرضٌ حباها الله سر جمالهِ
حتى استطال العزُّ في أشرافها
فيها النخيلُ الباسقاتُ تمايلتْ
في شطِّها وغفَت على أكتافها
حتى الربيعُ يكادُ يشرب نخبهُ
فيها ويسكرُ من شذى أفوافها
والشمسُ تقبسُ ضوءَها من دُرِّها
ليلاً ونورُ البدر من أصدافها
والشاعر الغرِّيدُ تلهم روحهُ
بالشعرِ حيثُ الوحيُ من أطيافها.
ونجده يتغنى بـ«أوال» مرة أخرى في قصيدة حملت عنوان «ها هي أوال» فيقول:
أوالُ يا حلمَ التجارِ ويا رؤى
الغوَّاصِ في البحر الجميل الصافي
ما أنتِ إلا صورةٌ سحريةٌ
في حسنها جلَّت عن الأوصافِ
غنَّاكِ روَّادُ البحارِ وردَّدوا
ألحانهم في رنَّة المجدافِ.
كما نجده ينشد للبحرين قائلا:
أنا البحرينُ سلْ عني الليالي
تُجِبْك بما تُسَرُّ بهِ المعالي
بيَ البترولُ في الهضبات جارٌ
وفي بحري الثمين من اللآلئ
تضيء جزائري كقصور درٍّ
بَدَتْ في ذهن رسامٍ خيالي.
كانت لشاعرنا مساجلات كثيرة مع العديد من شعراء البحرين من أمثال عبدالرحمن قاسم المعاودة، وتقي البحارنة، وأيضا مع بعض شعراء الخليج مثل الشاعر الكويتي محمد الفايز والشاعر السعودي عبدالرسول الجشي، إضافة إلى صديقه وزميل دراسته في المرحلة الثانوية الشاعر الدكتور غازي القصيبي، الذي قال عنه في معرض الحديث عن شاعريته: «هذا الشاعر يذكرك بوجد شعراء نجد بهضابها ونسيمها.. كما يذكرك بشعراء الرومانسية ودعوتهم إلى الانطلاق في أحضان الطبيعة ومؤاخاتها.. تحس أنك تود أن تنطلق إلى أحضان الربيع.. أن تذوب في الطبيعة.. وإن هذه النزعة من الهيام بالطبيعة لنادرة في الشعر العربي المعاصر». ولعل هذه الأبيات للشاعر حول مفاتن الطبيعة تؤكد كلام الدكتور القصيبي:
إن دنيا الربيعِ موكبُ سحرٍ
مستفيضٌ جمالُهُ الفتانُ
سُرُرٌ من أزاهرَ وأغانٍ
مسكراتٍ تشدو بها الرعيانُ
وطيوبٌ تضوع من كل روضٍ
تُثمِلُ العاشقين أيَّانَ كانوا
ورسوم من الطبيعة تبدو
كل آنٍ للناظرين عيانُ.
* أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين