يتركز اهتمام الدول على جوارها الإقليمي كونه مصدر التهديد الأول لأمنها الوطني ومنبع الفرص لزيادة تأثيرها وتعزيز حضورها. والمملكة لا تختلف عن غيرها من الدول حين توجه جل اهتمامها إلى محيطها الجغرافي الممتد من الجزيرة العربية ليصل ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير. وتستهلك قضايا هذا الإقليم تركيز الخارجية السعودية وهذا أمر غير مستغرب بالطبع وينسجم مع منطق ترتيب الأولويات، إلا أن الإشكالية هنا هي أن هذا الجوار ومنذ ظهور «الدولة الوطنية» يعيش أزمات مستمرة تراوح بين خلافات سياسية وصراعات مسلحة.
ولا يبدو في الأفق أن المنطقة ستخرج يوما ما من هذه المعضلة؛ فقد أصبحت سمة دائمة للعلاقات بين دولها. وهنا يتبين معنى الفخ المشار إليه في العنوان؛ فالسياسة الخارجية لهذه الدول وخاصة الكبرى منها مثل المملكة تصبح أسيرة لهذه الخلافات تستهلكها لدرجة الإنهاك وتصرفها عن استثمار فرص كثيرة لتعزيز مصالحها الوطنية خارج نطاق المنطقة.
المملكة وخلال العقدين الأخيرين وسعت دائرة علاقتها الدبلوماسية نتيجة تحولات كبرى على الساحة الدولية من أبرزها سقوط الأنظمة الشيوعية التي كانت عائقاً حال دون إقامة علاقات مع عدد كبير من الدول. ونتيجة لهذا التحول أقامت المملكة علاقات مع ما يقارب من عشرين دولة تتصدرها روسيا والصين، إضافة إلى دول في وسط وشرق أوروبا والقوقاز ووسط آسيا. العلاقة مع بعض هذه الدول مؤهلة لأن ترتقي إلى مستوى الشراكة وهو هدف كان حاضراً باستمرار خلال مباحثات مع قادتها.
الوصول إلى هذا المستوى من العلاقات يقتضي جهداً لا ينقطع لتطويرها في كافة المجالات ويترجم الرغبة إلى واقع ملموس وهذا للأسف لم يتحقق لسبب رئيس هو أن الانشغال المفرط بقضايا المنطقة حال دون بذل الجهد المطلوب لتحقيق الشراكة ما جعل العلاقات تبقى في دائرة العلاقات العادية إذا صح القول.
تبني المملكة رؤية 2030 خلق محركاً جديداً للسياسة الخارجية السعودية يتمثل في ترقية القضايا الاقتصادية في سلم أولوياتها ومن ثم يقتضي ترقية العلاقات مع الدول المؤهلة لبناء شراكات اقتصادية. إلا أن فخ الانشغال بالإقليم اعترض مرة أخرى تحقيق هذا الهدف، فجُل اهتمام المسؤول السعودي منصب على قضايا المنطقة التي تستنزف التركيز والوقت والمال وتتسبب في فوات فرص جديدة لتعزيز حضور المملكة الدولي.
السؤال المطروح إذاً هو هل يوجد مخرج من هذا الفخ الإقليمي؟ الأمر ليس سهلاً بالطبع؛ فالمملكة لا يمكن أن تتجاوز جوارها الجغرافي، كما أن التجربة التركية تؤكد عدم القدرة على «تصفير المشاكل» كما كان يحلم وزير الخارجية التركية السابق أحمد داود أوغولو؛ فيبدو أن قدر هذه الرقعة الجغرافية أن تعيش في دوامة مستمرة من الأزمات. لكن الأمر ليس مستحيلا أيضاً، إلا أنه يتطلب تحولاً في منهجية التفكير بالخروج من نموذج «الدوائر» المهيمن على ثقافة السياسة الخارجية السعودية. هذا بالطبع لا يعني تخلياً عن اهتمامات المملكة التقليدية، ولكن إعادة تقييمها بشكل يسمح بمرونة تتيح اقتناص الفرص لتحقيق المزيد من التأثير؛ خاصة بعد التراجع النسبي في مصادر القوتين الصلبة (النفط) والناعمة (القوة الروحية) نتيجة ظهور منافسين في إنتاج النفط وإنتاج الخطاب.
الخطوة الأولى تبدأ بتقييم واقعي لمصادر القوة هذه وما أصبح يعتريها وبحث عن كيفية إعادة بنائها لتنسجم مع الواقع الدولي الراهن. وإذا كان التحدي الذي يواجه القوة الاقتصادية للمملكة أكثر وضوحاً ويظهر في تعدد المنتجين وارتفاع قدرتهم الإنتاجية (الولايات المتحدة وروسيا) وتنوع مصادر الطاقة والتحول عن المصادر التقليدية ومنها النفط، فإن التحدي الذي يواجه قوتها الروحية أقل وضوحاً وأصعب تشخيصاً بالنظر الى تفرد المملكة بخصائص يستحيل توفرها لغيرها (مهبط الوحي وقبلة المسلمين واحتضان الحرمين الشريفين) مقابل خطاب ديني يجد صعوبة في التأقلم مع التحولات الكبرى التي شهدها العالم وأنتجت منظومات قيم منافسة. الخصائص التي تتفرد بها المملكة تمكنها من مواجهة هذه المنظومات الجديدة والمحافظة على التأثير، إلا أنها تتطلب تفكيراً عميقاً في صياغة خطاب جديد مؤسس على هذه الخصائص ومنسجم مع مقتضيات الحياة الإنسانية الحديثة.
وإذا كانت المملكة قادرة بسهولة على تجديد قوتها النفطية والمحافظة على تصدرها من خلال زيادة فائضها الإنتاجي الذي لا يتوفر لمنافسيها، فإن قوتها الروحية لديها قابلة للتجديد أيضاً وإن كان بشكل أصعب ويتطلب توفر شروط يأتي في مقدمتها إعمال التفكير العميق خارج الصندوق. المشكلة أن مثل هذا التفكير العميق صعب تحقيقه بسبب انغماس المسؤول اليومي في مشاكل الإقليم وغياب الرافد المعرفي نتيجة فقر التفكير الإستراتيجي الذي تحدثنا عنه سابقا. قبل هذا كله لا بد من تفكير جاد في كيفية الخروج من إشكالية الفخ الإقليمي بطريقة تحافظ على مصالح المملكة من جهة، وتمنحها مساحة أكبر للتحرك من جهة أخرى تمكنها من بناء شراكات جديدة واقتناص الفرص وتفويتها على من يسعى إلى تطويق حضورها على الساحة الدولية.
* كاتب وأكاديمي سعودي
ولا يبدو في الأفق أن المنطقة ستخرج يوما ما من هذه المعضلة؛ فقد أصبحت سمة دائمة للعلاقات بين دولها. وهنا يتبين معنى الفخ المشار إليه في العنوان؛ فالسياسة الخارجية لهذه الدول وخاصة الكبرى منها مثل المملكة تصبح أسيرة لهذه الخلافات تستهلكها لدرجة الإنهاك وتصرفها عن استثمار فرص كثيرة لتعزيز مصالحها الوطنية خارج نطاق المنطقة.
المملكة وخلال العقدين الأخيرين وسعت دائرة علاقتها الدبلوماسية نتيجة تحولات كبرى على الساحة الدولية من أبرزها سقوط الأنظمة الشيوعية التي كانت عائقاً حال دون إقامة علاقات مع عدد كبير من الدول. ونتيجة لهذا التحول أقامت المملكة علاقات مع ما يقارب من عشرين دولة تتصدرها روسيا والصين، إضافة إلى دول في وسط وشرق أوروبا والقوقاز ووسط آسيا. العلاقة مع بعض هذه الدول مؤهلة لأن ترتقي إلى مستوى الشراكة وهو هدف كان حاضراً باستمرار خلال مباحثات مع قادتها.
الوصول إلى هذا المستوى من العلاقات يقتضي جهداً لا ينقطع لتطويرها في كافة المجالات ويترجم الرغبة إلى واقع ملموس وهذا للأسف لم يتحقق لسبب رئيس هو أن الانشغال المفرط بقضايا المنطقة حال دون بذل الجهد المطلوب لتحقيق الشراكة ما جعل العلاقات تبقى في دائرة العلاقات العادية إذا صح القول.
تبني المملكة رؤية 2030 خلق محركاً جديداً للسياسة الخارجية السعودية يتمثل في ترقية القضايا الاقتصادية في سلم أولوياتها ومن ثم يقتضي ترقية العلاقات مع الدول المؤهلة لبناء شراكات اقتصادية. إلا أن فخ الانشغال بالإقليم اعترض مرة أخرى تحقيق هذا الهدف، فجُل اهتمام المسؤول السعودي منصب على قضايا المنطقة التي تستنزف التركيز والوقت والمال وتتسبب في فوات فرص جديدة لتعزيز حضور المملكة الدولي.
السؤال المطروح إذاً هو هل يوجد مخرج من هذا الفخ الإقليمي؟ الأمر ليس سهلاً بالطبع؛ فالمملكة لا يمكن أن تتجاوز جوارها الجغرافي، كما أن التجربة التركية تؤكد عدم القدرة على «تصفير المشاكل» كما كان يحلم وزير الخارجية التركية السابق أحمد داود أوغولو؛ فيبدو أن قدر هذه الرقعة الجغرافية أن تعيش في دوامة مستمرة من الأزمات. لكن الأمر ليس مستحيلا أيضاً، إلا أنه يتطلب تحولاً في منهجية التفكير بالخروج من نموذج «الدوائر» المهيمن على ثقافة السياسة الخارجية السعودية. هذا بالطبع لا يعني تخلياً عن اهتمامات المملكة التقليدية، ولكن إعادة تقييمها بشكل يسمح بمرونة تتيح اقتناص الفرص لتحقيق المزيد من التأثير؛ خاصة بعد التراجع النسبي في مصادر القوتين الصلبة (النفط) والناعمة (القوة الروحية) نتيجة ظهور منافسين في إنتاج النفط وإنتاج الخطاب.
الخطوة الأولى تبدأ بتقييم واقعي لمصادر القوة هذه وما أصبح يعتريها وبحث عن كيفية إعادة بنائها لتنسجم مع الواقع الدولي الراهن. وإذا كان التحدي الذي يواجه القوة الاقتصادية للمملكة أكثر وضوحاً ويظهر في تعدد المنتجين وارتفاع قدرتهم الإنتاجية (الولايات المتحدة وروسيا) وتنوع مصادر الطاقة والتحول عن المصادر التقليدية ومنها النفط، فإن التحدي الذي يواجه قوتها الروحية أقل وضوحاً وأصعب تشخيصاً بالنظر الى تفرد المملكة بخصائص يستحيل توفرها لغيرها (مهبط الوحي وقبلة المسلمين واحتضان الحرمين الشريفين) مقابل خطاب ديني يجد صعوبة في التأقلم مع التحولات الكبرى التي شهدها العالم وأنتجت منظومات قيم منافسة. الخصائص التي تتفرد بها المملكة تمكنها من مواجهة هذه المنظومات الجديدة والمحافظة على التأثير، إلا أنها تتطلب تفكيراً عميقاً في صياغة خطاب جديد مؤسس على هذه الخصائص ومنسجم مع مقتضيات الحياة الإنسانية الحديثة.
وإذا كانت المملكة قادرة بسهولة على تجديد قوتها النفطية والمحافظة على تصدرها من خلال زيادة فائضها الإنتاجي الذي لا يتوفر لمنافسيها، فإن قوتها الروحية لديها قابلة للتجديد أيضاً وإن كان بشكل أصعب ويتطلب توفر شروط يأتي في مقدمتها إعمال التفكير العميق خارج الصندوق. المشكلة أن مثل هذا التفكير العميق صعب تحقيقه بسبب انغماس المسؤول اليومي في مشاكل الإقليم وغياب الرافد المعرفي نتيجة فقر التفكير الإستراتيجي الذي تحدثنا عنه سابقا. قبل هذا كله لا بد من تفكير جاد في كيفية الخروج من إشكالية الفخ الإقليمي بطريقة تحافظ على مصالح المملكة من جهة، وتمنحها مساحة أكبر للتحرك من جهة أخرى تمكنها من بناء شراكات جديدة واقتناص الفرص وتفويتها على من يسعى إلى تطويق حضورها على الساحة الدولية.
* كاتب وأكاديمي سعودي