أحد أصدقائي الأعزاء عندما يشتري كتاباً يأخذ منه نسختين، واحدة يهديني إياها والأخرى له، وآخر هذه الكتب التي أهداني إياها كتاب «المنطقة المعتمة: التاريخ السري للحرب السيبرانية»، تأليف: فرد كابلان، ترجمة: لؤي عبدالمجيد، والمنشور ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية في شهر مارس الماضي.
العجيب أن هذا الكتاب أكد رؤى وأفكارا كانت دائماً تجول في خاطري، ومنها أننا أُبعدنا عن العالم من خلال فكر الصحوة، وكيف سعت وعملت هذه الصحوة على القضاء على القوى الناعمة، كما أنها عملت وكرست منظومة النقل وليس العقل؛ حتى أصبح بعض الناس يسألون كيف يشربون ويأكلون!
لقد كان العالم من حولنا يتغير بسرعة مُذهلة، وعالمنا يعيش في الماضي وإشكالياته وعداواته وأحقاده وسياساته، حتى أن كثيراً من المثقفين والنخبة عانوا من هذا البعد عن الواقع، ومن الأفكار التي وظفت من أجل اختطاف المجتمعات.
في هذا الكتاب الجدير بالقراءة أوضح الكاتب كيف أن القوى الناعمة غيرت وأثرت في فكر القادة من خلال الأعمال السينمائية والروايات، وأعمال كُتاب شباب قدموا العالم بشكل مغايير ومختلف عما ألفه الجيل السابق للإنترنت؛ فالتكنولوجيا «تتغير من التماثلية (التناظرية) إلى الرقمية، من البث الراديو (اللاسلكي) إلى الألياف الضوئية، ومن الدوائر المنفصلة لخطوط الهاتف إلى حزم البيانات (data packets) لما كان سيطلق عليه اسم «الفضاء السيبراني».
في يوم السبت الموافق 4 يونيو عام 1983، كان الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، يُشاهد أحد الأفلام، الذي صادف أن يكون فيلم (ألعاب الحرب War Games) الذي يحكي قصة فتى مراهق بارع في أمور التكنولوجيا، يخترق من دون قصد الحاسوب الرئيسي في «قيادة دفاع الفضاء الجوي لأمريكا الشمالية»، يلعب حتى كاد أن يشعل حرباً عالمية ثالثة.
وفي أول اجتماع للرئيس ريغان مع فريقه لشؤون الأمن القومي سألهم: هل يمكن أن يحدث هذا الأمر في الواقع؟ وبعد البحث والتقصي جاء الرد على السؤال بأن ذلك الأمر ممكناً، وأن المسألة أسوأ كثيراً مما يظن.
على إثر ذلك شُكلت مجموعة عمل انتهت بعد مضي خمسة عشر شهراً إلى صياغة التوجيه الرئاسي السري المتعلق بالأمن القومي الأمريكي، والذي جاء بعنوان: السياسة القومية بشأن الاتصالات وأمن نظم المعلومات المؤللة.
لقد استطاعت قوى ناعمة متمثلة في فيلم سينمائي، أن تغير النظرة للمستقبل، وقد جاء في الكتاب أن ماكونيل مدير الأمن القومي استخلص الرؤية المستقبلية للولايات المتحدة الأمريكية من فيلم «المتسللون»، ومن جملة جاءت على لسان أحد الممثلين فيه عندما قال: «لم يعد العالم يُدار بالأسلحة أو الطاقة أو المال، إنه يُدار بالآحاد والأصفار، و«بتات» أجزاء ضئيلة من البيانات. إن كل شيء ما هو إلا إلكترونيات». وهذه هي رؤية المستقبل التي استخلصها ماكونيل مدير الأمن القومي من فيلم «المتسللون».
شرح الكتاب تعريف كلمة (سيبر cyber) وذكر أن جذورها جاءت من كلمة «السيبرنيطيقا» وهو مصطلح وضع في منتصف القرن التاسع عشر، ليصف الحلقات المغلقة لأنظمة المعلومات. وقد نشأ عن رواية «نيورومانسر» وهي رواية خيال علمي، كتبها ويليام جيبسون. وهكذا أصبحنا نتحدث عن «الجريمة السيبرانية» والأمن السيبراني والحرب السيبرانية.
إن التغيرات التي تحدث في العالم حولنا تُظهر بجلاء أن الثقافة لم تعد تصنع فقط من قبل النخبة بل يشارك فيها الشباب المبدع، والحاسوب الذي أصبح له دور مهم. كما تُظهر أن الفنون والرواية تساعدنا على إعادة نظرتنا للأشياء وفهم كيف يُدار العالم.
وأختم المقال بما خلص إليه تقرير لجنة الرئيس الأمريكي لحماية البنية الأساسية في 13 أكتوبر 1997، والذي جاء فيه: «تماما مثل ما حدث في العصر النووي.. ودعتنا الأسلحة الرهيبة بعيدة المدى إلى التفكير بشكل مختلف بشأن الأمن، الآن تدفعنا التكنولوجيا الإلكترونية لعصر المعلومات إلى اختراع وسائل جديدة لحماية أنفسنا. نحن ينبغي أن نتعلم كيفية التغلب على جغرافيا جديدة، حيث تكون الحدود غير ذات أهمية، والمسافات غير ذات معنى، حيث العدو ربما قادر على الإضرار بالنظم الحيوية التي نعتمد عليها من دون أن يتواجه مع قواتنا العسكرية».
والخلاصة، إن العالم يتغير بسرعة من حولنا، ولن نستطيع أن ندخله إلا بإعادة النظر في مفاهيمنا وثقافتنا التي تكاد أن تنقطع بِنَا وتعوقنا عن مسايرة حركة العالم والتطورات السريعة في كل الأصعدة.
* مستشار قانوني
@osamayamani
yamani.osama@gmail.com
العجيب أن هذا الكتاب أكد رؤى وأفكارا كانت دائماً تجول في خاطري، ومنها أننا أُبعدنا عن العالم من خلال فكر الصحوة، وكيف سعت وعملت هذه الصحوة على القضاء على القوى الناعمة، كما أنها عملت وكرست منظومة النقل وليس العقل؛ حتى أصبح بعض الناس يسألون كيف يشربون ويأكلون!
لقد كان العالم من حولنا يتغير بسرعة مُذهلة، وعالمنا يعيش في الماضي وإشكالياته وعداواته وأحقاده وسياساته، حتى أن كثيراً من المثقفين والنخبة عانوا من هذا البعد عن الواقع، ومن الأفكار التي وظفت من أجل اختطاف المجتمعات.
في هذا الكتاب الجدير بالقراءة أوضح الكاتب كيف أن القوى الناعمة غيرت وأثرت في فكر القادة من خلال الأعمال السينمائية والروايات، وأعمال كُتاب شباب قدموا العالم بشكل مغايير ومختلف عما ألفه الجيل السابق للإنترنت؛ فالتكنولوجيا «تتغير من التماثلية (التناظرية) إلى الرقمية، من البث الراديو (اللاسلكي) إلى الألياف الضوئية، ومن الدوائر المنفصلة لخطوط الهاتف إلى حزم البيانات (data packets) لما كان سيطلق عليه اسم «الفضاء السيبراني».
في يوم السبت الموافق 4 يونيو عام 1983، كان الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، يُشاهد أحد الأفلام، الذي صادف أن يكون فيلم (ألعاب الحرب War Games) الذي يحكي قصة فتى مراهق بارع في أمور التكنولوجيا، يخترق من دون قصد الحاسوب الرئيسي في «قيادة دفاع الفضاء الجوي لأمريكا الشمالية»، يلعب حتى كاد أن يشعل حرباً عالمية ثالثة.
وفي أول اجتماع للرئيس ريغان مع فريقه لشؤون الأمن القومي سألهم: هل يمكن أن يحدث هذا الأمر في الواقع؟ وبعد البحث والتقصي جاء الرد على السؤال بأن ذلك الأمر ممكناً، وأن المسألة أسوأ كثيراً مما يظن.
على إثر ذلك شُكلت مجموعة عمل انتهت بعد مضي خمسة عشر شهراً إلى صياغة التوجيه الرئاسي السري المتعلق بالأمن القومي الأمريكي، والذي جاء بعنوان: السياسة القومية بشأن الاتصالات وأمن نظم المعلومات المؤللة.
لقد استطاعت قوى ناعمة متمثلة في فيلم سينمائي، أن تغير النظرة للمستقبل، وقد جاء في الكتاب أن ماكونيل مدير الأمن القومي استخلص الرؤية المستقبلية للولايات المتحدة الأمريكية من فيلم «المتسللون»، ومن جملة جاءت على لسان أحد الممثلين فيه عندما قال: «لم يعد العالم يُدار بالأسلحة أو الطاقة أو المال، إنه يُدار بالآحاد والأصفار، و«بتات» أجزاء ضئيلة من البيانات. إن كل شيء ما هو إلا إلكترونيات». وهذه هي رؤية المستقبل التي استخلصها ماكونيل مدير الأمن القومي من فيلم «المتسللون».
شرح الكتاب تعريف كلمة (سيبر cyber) وذكر أن جذورها جاءت من كلمة «السيبرنيطيقا» وهو مصطلح وضع في منتصف القرن التاسع عشر، ليصف الحلقات المغلقة لأنظمة المعلومات. وقد نشأ عن رواية «نيورومانسر» وهي رواية خيال علمي، كتبها ويليام جيبسون. وهكذا أصبحنا نتحدث عن «الجريمة السيبرانية» والأمن السيبراني والحرب السيبرانية.
إن التغيرات التي تحدث في العالم حولنا تُظهر بجلاء أن الثقافة لم تعد تصنع فقط من قبل النخبة بل يشارك فيها الشباب المبدع، والحاسوب الذي أصبح له دور مهم. كما تُظهر أن الفنون والرواية تساعدنا على إعادة نظرتنا للأشياء وفهم كيف يُدار العالم.
وأختم المقال بما خلص إليه تقرير لجنة الرئيس الأمريكي لحماية البنية الأساسية في 13 أكتوبر 1997، والذي جاء فيه: «تماما مثل ما حدث في العصر النووي.. ودعتنا الأسلحة الرهيبة بعيدة المدى إلى التفكير بشكل مختلف بشأن الأمن، الآن تدفعنا التكنولوجيا الإلكترونية لعصر المعلومات إلى اختراع وسائل جديدة لحماية أنفسنا. نحن ينبغي أن نتعلم كيفية التغلب على جغرافيا جديدة، حيث تكون الحدود غير ذات أهمية، والمسافات غير ذات معنى، حيث العدو ربما قادر على الإضرار بالنظم الحيوية التي نعتمد عليها من دون أن يتواجه مع قواتنا العسكرية».
والخلاصة، إن العالم يتغير بسرعة من حولنا، ولن نستطيع أن ندخله إلا بإعادة النظر في مفاهيمنا وثقافتنا التي تكاد أن تنقطع بِنَا وتعوقنا عن مسايرة حركة العالم والتطورات السريعة في كل الأصعدة.
* مستشار قانوني
@osamayamani
yamani.osama@gmail.com