يكتب ما يعتقد أنه الصواب، لذلك تصل أسئلته واستفساراته واختياراته إلى هدفها ويتفاعل معها الكثيرون. قاسم الرويس واحد من المثقفين المهمومين بالساحة الثقافية والكتاب والنشر والتاريخ ولديه العديد من الآراء الجريئة في هذا الشأن.. فإلى نصِّ الحوار معه:
• دعنا ابتداءً ندخل من باب الوصاية، هل ما زال بيننا وصاة بعد كل هذا الانفتاح؟
•• الوصاة في مجتمعنا أنواع وأشكال، هناك من يريدك نسخة منه في أقوالك وأفعالك وسلوكك ربما شفقة ومحبة لك وربما غروراً وإعجاباً بنفسه لأنه يتقمص بقميص الصراط المستقيم، وهؤلاء عادة هم الذين يعدون أنفسهم حراس الفضيلة في المجتمع، وهناك من يريد الناس أن تتبنى أفكاره وآراءه ولا تخرج عن قناعاته قيد أنملة تحت دعوى التفوق المعرفي والخبرة في الحياة والانفتاح على الآخر في برجه العاجي، وهناك من يبتغي الناس أدوات لرغباته وأهوائه ليحبوا من يحب ويكرهوا من يكره بل وليمدحوا من يمدح ويشتموا من يشتم بحجة امتلاكه للحقيقة وكشفه للمستور، فهذه النماذج التي يجمعها كبرياء الفوقية مجرد أمثلة تعطي انطباعاً عن تعامل النخب مع الجماهير فهي لا تقودها بل تسوقها سوقاً بأسلوب القطيع دون أن يكون له حرية التفكير أو التعبير لأنه لا يعرف مصلحة نفسه ويحتاج للإرشاد والتوجيه مهما بلغ من العلم والثقافة.
وتجربتي في تويتر تجبرنا على الاصطدام بنماذج من محترفي الوصاية ووكلائهم الذين يريدون أن يفرضوا علينا ماذا نكتب وكيف نرد ومن نتابع؟ دون أن يستطيعوا الانسجام مع أطياف التنوع الفكري والتعاطي معها بحسن ظن!
• ماذا عن الجوائز الأدبية التي طالبت بإيقاف بعضها؟
•• لا يختلف اثنان على أهمية الجوائز في الوسط الثقافي ودورها في تشجيع المواهب ورفع مستوى الإنتاج والاحتفاء بالمنجز وتقدير التميز، لذا فوجودها نهج حضاري وضرورة ثقافية ويسعدني نموها وتكاثرها، وأتمنى أن تستمر في النمو والانتشار كماً وكيفاً ونوعاً وأن تمتد إلى كل جزء من أجزاء بلادنا.
بالنسبة لجوائز الكتاب فقد طالبت بإيقاف ثلاث منها -كنت اطلعت على بعض خفاياها- لعدم تحقيقها أهدافها النبيلة التي قامت لأجلها، حيث وقفت بنفسي على تجاوزات تؤكد تساهل القائمين عليها على مدى سنوات بتطبيق شروطها فما بالك بمعاييرها! دون مبالاة بالانتقادات أو استماع للملاحظات. وكأنهم يستغفلون الوطن والمجتمع وينظرون للمثقف السعودي نظرة دونية كونه لا يدرك ما يجري حوله ويسهل خداعه وتمرير الأمر عليه في وقت يصمت فيه معظم المثقفين إيثاراً للسلامة والنجاة ومراعاة للمصلحة والعلاقات ولا يجرؤ على الكلام إلا عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة!!
• كتَّابنا يفوزون بجوائز للكتاب خارج السعودية ويغيبون عنها في الداخل.. لماذا؟
•• هذا السؤال مرتبط بحديثنا في السؤال السابق عن وضع الجوائز عندما تهتز الثقة فيها وتفقد مصداقيتها واحترامها، ولكن هناك أسباباً أخرى مرتبطة بنظام الجوائز لدينا، فهي تشترط أن يقدم المؤلف كتابه للجائزة أو أن ترشحه جهة من الجهات، وبالتالي فقد يعتذر القائمون على هذه الجوائز بأن هذا الكتاب أو تلك الرواية لم تقدم أو تتقدم للجائزة فكيف يمكن أن تفوز؟! والحقيقة أنه لو اكتسبت الجائزة قيمة ثقافية عالية لأصبحت جائزة جاذبة للكتب المتميزة ولتسابق إليها المؤلفون، مع العلم أنه من الواجب الوطني أن يبحث عن الكتاب المميز الذي يضيف للثقافة السعودية بعدها الحضاري ويتوج بالجائزة التي يستحقها ولا تنتظر ذلك الكتاب أن يأتيها! الأمر الآخر أن الجوائز تشترط في نظامها أنه لم يسبق للكتاب المرشح للجائزة الفوز بجائزة أو أنه قيد الترشيح لجائزة ما، وبذلك فإن بعض المؤلفين المميزين يفضل أن يتقدم كتابه لجائزة بحجم جائزة الشيخ زايد مثلاً أو روايته لجائزة بحجم جائزة البوكر العربية لأنها أعلى شأناً وأكثر انتشاراً وأقوى إعلاماً إضافة إلى سمعتها الرصينة ومصداقيتها العالية.
• ماذا عن المشهد الثقافي لدينا؟ وكيف يمكن تفعيل دوره؟
•• المشهد الثقافي انتقل من مرحلة القلق وعدم الاستقرار إلى مرحلة السكون والترقب على ضوء قرارات هيكلة ومرجعية القطاع الثقافي، ورغم أننا نعقد الآمال على وزارة الثقافة التي أطلقت إستراتيجيتها مؤخراً إلا أن المشهد الثقافي سيظل في حالة السكون والترقب حتى يكتمل البناء المؤسسي للوزارة ليعاد ترتيب المجتمع الثقافي من جديد وتبدأ عملية تأهيله، وأتمنى أن لا تستمر هذه الحالة طويلاً!
علينا أن ندرك أنَّ صناعة المشهد وتشكيله بيد المثقفين الذين يفترض أن يكونوا النخب التي تقود المجتمع، ولذا فمن الواجب ألا يتركوا الساحة الثقافية لعبة في أيدي المتطفلين والمرتزقة الذين يعلقون سنارات جهلهم في أركانها وكأنهم في رحلة صيد، فالثقافة كما يقول عبدالفتاح أبومدين: مغارم وليست مغانم!
ليدنا إشكاليَّة في غياب النقد تؤدي إلى تسطيح الفعل الثقافي وتغييب المنتج العميق الجاد أو على الأقل هيمنة النسق المسلِّي الذي يقتات على الجذر الأصلي شعراً ونثراً.
• هل أصبحت السوشال ميديا أكثر تأثيراً في التحولات الثقافية اليوم؟
•• الانشغال بالمشاهير بمختلف أنماطهم ظاهرة عالمية لا تقتصر على العرب وحدهم وذلك على مستوى الجماهير وسلوكياتهم، ولكن لدينا ظاهرة غريبة وهي استعانة بعض الجهات الرسمية وشبه الرسمية بمشاهير السوشال ميديا بهدف صناعة (البروباغندا) الجوفاء، وهذه الطريقة وإن كان لها أثر دعائي على الجماهير فإنه سريعاً ما يتلاشى دون تأثير ويبقى الإنجاز الحقيقي، ولعل في مقولة أبي عمرو بن العلاء عن شعر ذي الرمة: «نقط عروس وأبعار ظباء» تشخيص للوضع الراهن، والغريب أن وسائل الإعلام التقليدية أصبحت تسوق دون وعي لمشاهير السوشال ميديا بشكل سخيف! وبشكل عام فإن الرهان على وعي المجتمع الذي أدرك خطورة السفهاء والتافهين من أولئك المشاهير على صورة الوطن الجميلة، وأما المثقف فيجب أن يكون له دور أكبر في السوشال ميديا يقدم من خلاله المحتوى الراقي الذي يساهم به في رفع مستوى الوعي والمعرفة في المجتمع ويقربه من الجماهير دون إهمال للبعد الوطني في هذه المرحلة التاريخية، وللعلم فإن عدداً من مشاهير السوشال ميديا إنما أشهرهم المحتوى الثقافي الجميل الذي يقدمونه.
• ماذا عن الاقتراح الذي قدمته في تويتر لمشروع وطني تاريخي يخص الشهداء في كل القطاعات؟
•• قاموس الشهداء فكرة انطلقت بالتزامن مع عاصفة الحزم وهي فكرة منبثقة من اهتمام ولاة الأمر والحكومة الرشيدة بالشهداء وأسرهم وحرصها على رعايتهم وبحكم اهتماماتي الثقافية وجدت أننا بحاجة إلى توثيق أسماء شهداء الوطن في سجل تاريخي خالد يبقى شاهداً للأجيال القادمة على تضحيات الآباء والأجداد، والفكرة تقوم على مبدأ الوفاء لهؤلاء الأبطال فالقاموس سيتضمن سيرة موجزة عن كل شهيد مرفقة بصورته وتاريخ ومكان استشهاده ويكون ترتيبه على حروف المعجم ويصدر في كتاب، أما الحدود الزمانية لهذا المشروع الوطني فإني أفضل أن يبدأ بأسماء الشهداء في الحرب الدائرة الآن لترصد أولاً بأول اعتماداً على السجلات والوثائق الرسمية فلا ينسى أحد منهم مع مرور الزمان، ثم يمكن بعد ذلك أن نعود إلى توثيق أسماء الشهداء في جميع الأحداث والحروب السابقة ثم شهداء الدولة السعودية الثالثة بشكل عام ويمكن الغوص في أعماق التاريخ لتوثيق شهداء الدولة السعودية الأولى والثانية أيضاً!
لا يفوتني التنويه بأسبقية الأديب والمجاهد فهد المارك الذي رصد ووثق أسماء الشهداء السعوديين المتطوعين الذين استشهدوا في حرب فلسطين سنة 1948م في كتابه الموسوم بـ(سجل الشرف) المنشور عام 1965م وعلى كل جهة ومؤسسة وطنية سواء من القطاع العام أو القطاع الخاص أن تسهم في هذا المشروع.
• ما المطلوب من وزارة الثقافة تجاه المؤلف السعودي؟
•• من المؤسف أن صناعة النشر في العالم العربي بشكل عام صناعة قاصرة يفترس فيها الناشرون حقوق المؤلفين افتراساً على عكس صناعة النشر في أوروبا وأمريكا التي تحفظ حقوق المؤلفين المادية والمعنوية إلى درجة أن كتاباً واحداً للمؤلف ربما يتحول إلى مورد مالي دائم.
معاناة المؤلف السعودي مع النشر معاناة قديمة والنشر الحكومي أو شبه الحكومي في سنوات ماضية لا يصل للمستوى المنشود تنظيماً وأحقية وكم طرقنا أبوابها فأوصدت في وجوهنا تحت ذريعة زحمة النشر التي للأسف الشديد تضيق بإنتاج أبناء الوطن بينما تتسع لإنتاج هزيل لغير أبنائه.
لدينا برنامج لدعم المؤلفين بشراء مؤلفاتهم فالذي يفوز به عادة كثير ممن يجيدون فنون العلاقات والبركات وقليل من غيرهم، وربما يكون لهذه المعاناة دور في تأسيس بعض المؤلفين المكثرين دوراً للنشر تعنى بنشر إنتاجهم بالدرجة الأولى أمثال الشيخ حمد الجاسر وعاتق البلادي وأبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري وعبدالرحمن السويداء وفائز البدراني!
المؤسف أن المؤسسات الثقافية في بلادنا أصبحت صيداً ثميناً لدور النشر العربية حيث نجد أنها تدفع تكاليف طباعة إصدارتها لهذه الدور ثم تشركها في المبيعات وهذا هدر مالي يجب إيقافه مهما تذرعوا بحكاية الانتشار ومعارض الكتاب.
الأولى أن توقع مثل هذه المؤسسات اتفاقية نشر إصداراتها مع جمعية الناشرين السعوديين على سبيل المثال رغم أن هذه الجمعية كانت فيما سبق موجودة رسماً وغير موجودة فعلاً!! ومن الملاحظات أن بعض كبار الأدباء السعوديين ذوي السعة المالية يدفعون آلاف الريالات للناشرين العرب لنشر إنتاجهم دون أن يدخل جيوبهم ريال واحد من مبيعاتها بل يتركونها وقفاً أو صدقة جارية على هذا الناشر أو ذاك، وبعض كبار الأدباء لا يدفعون للناشر ولكنهم في الوقت نفسه لا يقبضون من الناشر ريالاً واحداً عن رضا وطيب خاطر!!
كل هذا أفرز لنا ظاهرة تسول المؤلف للناشر لكي يتكرم عليه بنشر كتابه بشيمة أو بقيمة!
• ما الذي يميز كتاب الدكتور سعد الصويان «الصحراء العربية» الذي تعدُّه مفخرة من مفاخر السعوديين على العرب وغير العرب؟
•• الدكتور سعد الصويان أنثروبولوجي متخصص قضى عمره في إنجاز مفردات مشروع ثقافي متصل يهدف من خلاله إلى التعريف بهويتنا الثقافية الحقيقية المتجذرة في صحراء الجزيرة العربية من خلال توظيف الثقافة الشفهية في التعامل مع الثقافة الكتابية والتاريخ المكتوب وفق منهجية علمية تحكي قصة البداوة العربية في محاولة جادة تتجه إلى ربط الحاضر مع الماضي عبر شعر البادية وثقافة الصحراء؛ فهما -في رأي الصويان ولا أخاله جانب الصواب- الامتداد الطبيعي والاستمرارية التاريخية لشعر الجاهلية ولغتها وثقافتها، وكتابه يجدر به أن تتولى المراكز العلمية في بلادنا طباعته ونشره ومكافأة مؤلفه ليكون شاهداً على القيمة العلمية لإنتاج الصويان المعرفي وعلى الجهد الذي يبذله في تأصيل مشروعه الثقافي الرائد، لأنه في كتابه هذا ربط الحاضر مع الماضي عبر المصادر الشفهية والثقافة التقليدية وكان يطمح إلى أن يصحح عمله هذا الصورة المشوهة التي تحملها النخب العربية في أذهانهم عن التنظيم القبلي، وطبيعة الحياة البدوية، وقيم الثقافة الصحراوية، وعن حقيقة العلاقة بين البدو والحضر في الجزيرة العربية، ولعل سبب عدم عناية المثقفين السعوديين بهذا الكتاب يكمن في العقدة النخبوية العربية المزمنة التي تنظر لثقافتها (ثقافة الصحراء) أو ثقافة (الجمل والنخلة) نظرة دونية متجاهلة عمق الهوية الوطنية تحت طائلة الانبهار بثقافة الغرب والشرق. وقد يأتي على الناس يوم يدركون فيه عظمة هذا الكتاب مادة ومنهجاً فيكون مقرراً في الجامعات بعد أن يقرأوا شهادات المراكز العلمية في الغرب على تميزه ومرجعيته في موضوعه.
• السير الذاتية والمذكرات العربية تتجاوز عن الخطأ والضعف والهزيمة.. هل يمكن تعميم هذا الرأي؟
•• الذات العربية تختلف في تركيبتها النفسية والاجتماعية عن الذات الغربية التي تتخذ ثقافة الاعتراف بدون تحفظ أولوية في طقوس كتابة سيرها الذاتية لأسباب عديدة ورغم ذلك فهناك من الكتاب العرب من تأثر بهذه الثقافة في كتابته لسيرته الذاتية مثل طه حسين في أيامه أو أحمد أمين في سيرة حياته وغيرهما. وبغض النظر عن قيود حرية التعبير فإن الصدق الخالص في كتابة السيرة الذاتية كما أشار إحسان عباس أمر ملحق بالمستحيل وتظل الحقيقة الذاتية صدقاً نسبياً مهما أخلص صاحبها في نقلها على حالها، على أن الذهنية العربية جبلت تحت سطوة النسق على الحرج من كشف المستور والتخوف من ردة الفعل ولذا لجأ بعضهم إلى كتابة سيرته الذاتية على شكل رواية أدبية ليلبس تلك السيرة بلبوس الخيال تمويهاً للحقيقة والأمثلة على ذلك كثيرة. على أن الأنانية الفجة والتكلف
الممجوج والزخرفة اللامعة والبعد عن الواقع والاستشهاد بالأموات التي تظهر في ثنايا بعض السير تضر كاتبها أكثر مما تنفعه.
• تختار عناوين كتبك بعناية فائقة.. لماذا العنوان أولاً؟ وما الموضوعات التي تأخذك للكتابة والتنقيب فيها؟
•• لعنوان الكتاب دور في لفت النظر إليه وتسويقه واختياره فن تدركه دور النشر أكثر من المؤلفين، أما بالنسبة لي فصياغة العنوان النهائية تأتي آخراً وليس أولاً، ولكن الأهم من الصياغة هو أني أحرص غاية الحرص على أن يكون العنوان معبراً عن المحتوى فحين اخترت عنوان (المسبار) لكتابي الأول إنما هو رمزية للقراءات النقدية التي تضمنها، وعندما اخترت (يوميات الدبدبة) عنواناً لمقالات يوسف ياسين التي جمعتها من أم القرى كان هذا العنوان يمثل وصفاً حقيقياً لمحتوى الكتاب، وهناك كتب أنهيتها واخترت لها عناوين معينة وأبقيتها لدي ثم قمت بعد مدة طويلة بمراجعتها وتنقيحها وعلى ضوء ذلك تم تغيير عنوان الكتاب قبل دفعه للطباعة مثل كتاب (خواجات وحكايات) وكتاب (سيرة كتب)، وأحياناً يتم التشاور مع بعض الأصدقاء عند صياغة بعض العناوين، وهناك حالة واحدة فقط قمت فيها بتغيير عنوان الكتاب استجابة لمشورة الناشر لاعتبارات رقابية، وفي كل الأحوال العنوان الجميل للكتاب دون مضمون جليل لا قيمة له لأنه سرعان ما ينكشف زيفه!!
أما الموضوعات التي تشدني للكتابة والتنقيب فهي تتمثل في تاريخ وتراث وآداب الجزيرة العربية بشكل عام وبقدر ما أهوى التأريخ لما أهمله التاريخ، وأحبذ البحث عن الشخصيات الغائبة عن المشهد، وأسعد بالمخطوطات التي لم تنل العناية، وأهتم بالوثائق التي لم تحظَ بالاهتمام، فإني ربما أكون سلطت الضوء على بعض الزوايا التي لم يسلط عليها الضوء، وربما انتشلت بعض المسائل التي غمرها الزمن في غيابة النسيان فأخرجتها للوجود في أبهى حلة.
• دعنا ابتداءً ندخل من باب الوصاية، هل ما زال بيننا وصاة بعد كل هذا الانفتاح؟
•• الوصاة في مجتمعنا أنواع وأشكال، هناك من يريدك نسخة منه في أقوالك وأفعالك وسلوكك ربما شفقة ومحبة لك وربما غروراً وإعجاباً بنفسه لأنه يتقمص بقميص الصراط المستقيم، وهؤلاء عادة هم الذين يعدون أنفسهم حراس الفضيلة في المجتمع، وهناك من يريد الناس أن تتبنى أفكاره وآراءه ولا تخرج عن قناعاته قيد أنملة تحت دعوى التفوق المعرفي والخبرة في الحياة والانفتاح على الآخر في برجه العاجي، وهناك من يبتغي الناس أدوات لرغباته وأهوائه ليحبوا من يحب ويكرهوا من يكره بل وليمدحوا من يمدح ويشتموا من يشتم بحجة امتلاكه للحقيقة وكشفه للمستور، فهذه النماذج التي يجمعها كبرياء الفوقية مجرد أمثلة تعطي انطباعاً عن تعامل النخب مع الجماهير فهي لا تقودها بل تسوقها سوقاً بأسلوب القطيع دون أن يكون له حرية التفكير أو التعبير لأنه لا يعرف مصلحة نفسه ويحتاج للإرشاد والتوجيه مهما بلغ من العلم والثقافة.
وتجربتي في تويتر تجبرنا على الاصطدام بنماذج من محترفي الوصاية ووكلائهم الذين يريدون أن يفرضوا علينا ماذا نكتب وكيف نرد ومن نتابع؟ دون أن يستطيعوا الانسجام مع أطياف التنوع الفكري والتعاطي معها بحسن ظن!
• ماذا عن الجوائز الأدبية التي طالبت بإيقاف بعضها؟
•• لا يختلف اثنان على أهمية الجوائز في الوسط الثقافي ودورها في تشجيع المواهب ورفع مستوى الإنتاج والاحتفاء بالمنجز وتقدير التميز، لذا فوجودها نهج حضاري وضرورة ثقافية ويسعدني نموها وتكاثرها، وأتمنى أن تستمر في النمو والانتشار كماً وكيفاً ونوعاً وأن تمتد إلى كل جزء من أجزاء بلادنا.
بالنسبة لجوائز الكتاب فقد طالبت بإيقاف ثلاث منها -كنت اطلعت على بعض خفاياها- لعدم تحقيقها أهدافها النبيلة التي قامت لأجلها، حيث وقفت بنفسي على تجاوزات تؤكد تساهل القائمين عليها على مدى سنوات بتطبيق شروطها فما بالك بمعاييرها! دون مبالاة بالانتقادات أو استماع للملاحظات. وكأنهم يستغفلون الوطن والمجتمع وينظرون للمثقف السعودي نظرة دونية كونه لا يدرك ما يجري حوله ويسهل خداعه وتمرير الأمر عليه في وقت يصمت فيه معظم المثقفين إيثاراً للسلامة والنجاة ومراعاة للمصلحة والعلاقات ولا يجرؤ على الكلام إلا عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة!!
• كتَّابنا يفوزون بجوائز للكتاب خارج السعودية ويغيبون عنها في الداخل.. لماذا؟
•• هذا السؤال مرتبط بحديثنا في السؤال السابق عن وضع الجوائز عندما تهتز الثقة فيها وتفقد مصداقيتها واحترامها، ولكن هناك أسباباً أخرى مرتبطة بنظام الجوائز لدينا، فهي تشترط أن يقدم المؤلف كتابه للجائزة أو أن ترشحه جهة من الجهات، وبالتالي فقد يعتذر القائمون على هذه الجوائز بأن هذا الكتاب أو تلك الرواية لم تقدم أو تتقدم للجائزة فكيف يمكن أن تفوز؟! والحقيقة أنه لو اكتسبت الجائزة قيمة ثقافية عالية لأصبحت جائزة جاذبة للكتب المتميزة ولتسابق إليها المؤلفون، مع العلم أنه من الواجب الوطني أن يبحث عن الكتاب المميز الذي يضيف للثقافة السعودية بعدها الحضاري ويتوج بالجائزة التي يستحقها ولا تنتظر ذلك الكتاب أن يأتيها! الأمر الآخر أن الجوائز تشترط في نظامها أنه لم يسبق للكتاب المرشح للجائزة الفوز بجائزة أو أنه قيد الترشيح لجائزة ما، وبذلك فإن بعض المؤلفين المميزين يفضل أن يتقدم كتابه لجائزة بحجم جائزة الشيخ زايد مثلاً أو روايته لجائزة بحجم جائزة البوكر العربية لأنها أعلى شأناً وأكثر انتشاراً وأقوى إعلاماً إضافة إلى سمعتها الرصينة ومصداقيتها العالية.
• ماذا عن المشهد الثقافي لدينا؟ وكيف يمكن تفعيل دوره؟
•• المشهد الثقافي انتقل من مرحلة القلق وعدم الاستقرار إلى مرحلة السكون والترقب على ضوء قرارات هيكلة ومرجعية القطاع الثقافي، ورغم أننا نعقد الآمال على وزارة الثقافة التي أطلقت إستراتيجيتها مؤخراً إلا أن المشهد الثقافي سيظل في حالة السكون والترقب حتى يكتمل البناء المؤسسي للوزارة ليعاد ترتيب المجتمع الثقافي من جديد وتبدأ عملية تأهيله، وأتمنى أن لا تستمر هذه الحالة طويلاً!
علينا أن ندرك أنَّ صناعة المشهد وتشكيله بيد المثقفين الذين يفترض أن يكونوا النخب التي تقود المجتمع، ولذا فمن الواجب ألا يتركوا الساحة الثقافية لعبة في أيدي المتطفلين والمرتزقة الذين يعلقون سنارات جهلهم في أركانها وكأنهم في رحلة صيد، فالثقافة كما يقول عبدالفتاح أبومدين: مغارم وليست مغانم!
ليدنا إشكاليَّة في غياب النقد تؤدي إلى تسطيح الفعل الثقافي وتغييب المنتج العميق الجاد أو على الأقل هيمنة النسق المسلِّي الذي يقتات على الجذر الأصلي شعراً ونثراً.
• هل أصبحت السوشال ميديا أكثر تأثيراً في التحولات الثقافية اليوم؟
•• الانشغال بالمشاهير بمختلف أنماطهم ظاهرة عالمية لا تقتصر على العرب وحدهم وذلك على مستوى الجماهير وسلوكياتهم، ولكن لدينا ظاهرة غريبة وهي استعانة بعض الجهات الرسمية وشبه الرسمية بمشاهير السوشال ميديا بهدف صناعة (البروباغندا) الجوفاء، وهذه الطريقة وإن كان لها أثر دعائي على الجماهير فإنه سريعاً ما يتلاشى دون تأثير ويبقى الإنجاز الحقيقي، ولعل في مقولة أبي عمرو بن العلاء عن شعر ذي الرمة: «نقط عروس وأبعار ظباء» تشخيص للوضع الراهن، والغريب أن وسائل الإعلام التقليدية أصبحت تسوق دون وعي لمشاهير السوشال ميديا بشكل سخيف! وبشكل عام فإن الرهان على وعي المجتمع الذي أدرك خطورة السفهاء والتافهين من أولئك المشاهير على صورة الوطن الجميلة، وأما المثقف فيجب أن يكون له دور أكبر في السوشال ميديا يقدم من خلاله المحتوى الراقي الذي يساهم به في رفع مستوى الوعي والمعرفة في المجتمع ويقربه من الجماهير دون إهمال للبعد الوطني في هذه المرحلة التاريخية، وللعلم فإن عدداً من مشاهير السوشال ميديا إنما أشهرهم المحتوى الثقافي الجميل الذي يقدمونه.
• ماذا عن الاقتراح الذي قدمته في تويتر لمشروع وطني تاريخي يخص الشهداء في كل القطاعات؟
•• قاموس الشهداء فكرة انطلقت بالتزامن مع عاصفة الحزم وهي فكرة منبثقة من اهتمام ولاة الأمر والحكومة الرشيدة بالشهداء وأسرهم وحرصها على رعايتهم وبحكم اهتماماتي الثقافية وجدت أننا بحاجة إلى توثيق أسماء شهداء الوطن في سجل تاريخي خالد يبقى شاهداً للأجيال القادمة على تضحيات الآباء والأجداد، والفكرة تقوم على مبدأ الوفاء لهؤلاء الأبطال فالقاموس سيتضمن سيرة موجزة عن كل شهيد مرفقة بصورته وتاريخ ومكان استشهاده ويكون ترتيبه على حروف المعجم ويصدر في كتاب، أما الحدود الزمانية لهذا المشروع الوطني فإني أفضل أن يبدأ بأسماء الشهداء في الحرب الدائرة الآن لترصد أولاً بأول اعتماداً على السجلات والوثائق الرسمية فلا ينسى أحد منهم مع مرور الزمان، ثم يمكن بعد ذلك أن نعود إلى توثيق أسماء الشهداء في جميع الأحداث والحروب السابقة ثم شهداء الدولة السعودية الثالثة بشكل عام ويمكن الغوص في أعماق التاريخ لتوثيق شهداء الدولة السعودية الأولى والثانية أيضاً!
لا يفوتني التنويه بأسبقية الأديب والمجاهد فهد المارك الذي رصد ووثق أسماء الشهداء السعوديين المتطوعين الذين استشهدوا في حرب فلسطين سنة 1948م في كتابه الموسوم بـ(سجل الشرف) المنشور عام 1965م وعلى كل جهة ومؤسسة وطنية سواء من القطاع العام أو القطاع الخاص أن تسهم في هذا المشروع.
• ما المطلوب من وزارة الثقافة تجاه المؤلف السعودي؟
•• من المؤسف أن صناعة النشر في العالم العربي بشكل عام صناعة قاصرة يفترس فيها الناشرون حقوق المؤلفين افتراساً على عكس صناعة النشر في أوروبا وأمريكا التي تحفظ حقوق المؤلفين المادية والمعنوية إلى درجة أن كتاباً واحداً للمؤلف ربما يتحول إلى مورد مالي دائم.
معاناة المؤلف السعودي مع النشر معاناة قديمة والنشر الحكومي أو شبه الحكومي في سنوات ماضية لا يصل للمستوى المنشود تنظيماً وأحقية وكم طرقنا أبوابها فأوصدت في وجوهنا تحت ذريعة زحمة النشر التي للأسف الشديد تضيق بإنتاج أبناء الوطن بينما تتسع لإنتاج هزيل لغير أبنائه.
لدينا برنامج لدعم المؤلفين بشراء مؤلفاتهم فالذي يفوز به عادة كثير ممن يجيدون فنون العلاقات والبركات وقليل من غيرهم، وربما يكون لهذه المعاناة دور في تأسيس بعض المؤلفين المكثرين دوراً للنشر تعنى بنشر إنتاجهم بالدرجة الأولى أمثال الشيخ حمد الجاسر وعاتق البلادي وأبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري وعبدالرحمن السويداء وفائز البدراني!
المؤسف أن المؤسسات الثقافية في بلادنا أصبحت صيداً ثميناً لدور النشر العربية حيث نجد أنها تدفع تكاليف طباعة إصدارتها لهذه الدور ثم تشركها في المبيعات وهذا هدر مالي يجب إيقافه مهما تذرعوا بحكاية الانتشار ومعارض الكتاب.
الأولى أن توقع مثل هذه المؤسسات اتفاقية نشر إصداراتها مع جمعية الناشرين السعوديين على سبيل المثال رغم أن هذه الجمعية كانت فيما سبق موجودة رسماً وغير موجودة فعلاً!! ومن الملاحظات أن بعض كبار الأدباء السعوديين ذوي السعة المالية يدفعون آلاف الريالات للناشرين العرب لنشر إنتاجهم دون أن يدخل جيوبهم ريال واحد من مبيعاتها بل يتركونها وقفاً أو صدقة جارية على هذا الناشر أو ذاك، وبعض كبار الأدباء لا يدفعون للناشر ولكنهم في الوقت نفسه لا يقبضون من الناشر ريالاً واحداً عن رضا وطيب خاطر!!
كل هذا أفرز لنا ظاهرة تسول المؤلف للناشر لكي يتكرم عليه بنشر كتابه بشيمة أو بقيمة!
• ما الذي يميز كتاب الدكتور سعد الصويان «الصحراء العربية» الذي تعدُّه مفخرة من مفاخر السعوديين على العرب وغير العرب؟
•• الدكتور سعد الصويان أنثروبولوجي متخصص قضى عمره في إنجاز مفردات مشروع ثقافي متصل يهدف من خلاله إلى التعريف بهويتنا الثقافية الحقيقية المتجذرة في صحراء الجزيرة العربية من خلال توظيف الثقافة الشفهية في التعامل مع الثقافة الكتابية والتاريخ المكتوب وفق منهجية علمية تحكي قصة البداوة العربية في محاولة جادة تتجه إلى ربط الحاضر مع الماضي عبر شعر البادية وثقافة الصحراء؛ فهما -في رأي الصويان ولا أخاله جانب الصواب- الامتداد الطبيعي والاستمرارية التاريخية لشعر الجاهلية ولغتها وثقافتها، وكتابه يجدر به أن تتولى المراكز العلمية في بلادنا طباعته ونشره ومكافأة مؤلفه ليكون شاهداً على القيمة العلمية لإنتاج الصويان المعرفي وعلى الجهد الذي يبذله في تأصيل مشروعه الثقافي الرائد، لأنه في كتابه هذا ربط الحاضر مع الماضي عبر المصادر الشفهية والثقافة التقليدية وكان يطمح إلى أن يصحح عمله هذا الصورة المشوهة التي تحملها النخب العربية في أذهانهم عن التنظيم القبلي، وطبيعة الحياة البدوية، وقيم الثقافة الصحراوية، وعن حقيقة العلاقة بين البدو والحضر في الجزيرة العربية، ولعل سبب عدم عناية المثقفين السعوديين بهذا الكتاب يكمن في العقدة النخبوية العربية المزمنة التي تنظر لثقافتها (ثقافة الصحراء) أو ثقافة (الجمل والنخلة) نظرة دونية متجاهلة عمق الهوية الوطنية تحت طائلة الانبهار بثقافة الغرب والشرق. وقد يأتي على الناس يوم يدركون فيه عظمة هذا الكتاب مادة ومنهجاً فيكون مقرراً في الجامعات بعد أن يقرأوا شهادات المراكز العلمية في الغرب على تميزه ومرجعيته في موضوعه.
• السير الذاتية والمذكرات العربية تتجاوز عن الخطأ والضعف والهزيمة.. هل يمكن تعميم هذا الرأي؟
•• الذات العربية تختلف في تركيبتها النفسية والاجتماعية عن الذات الغربية التي تتخذ ثقافة الاعتراف بدون تحفظ أولوية في طقوس كتابة سيرها الذاتية لأسباب عديدة ورغم ذلك فهناك من الكتاب العرب من تأثر بهذه الثقافة في كتابته لسيرته الذاتية مثل طه حسين في أيامه أو أحمد أمين في سيرة حياته وغيرهما. وبغض النظر عن قيود حرية التعبير فإن الصدق الخالص في كتابة السيرة الذاتية كما أشار إحسان عباس أمر ملحق بالمستحيل وتظل الحقيقة الذاتية صدقاً نسبياً مهما أخلص صاحبها في نقلها على حالها، على أن الذهنية العربية جبلت تحت سطوة النسق على الحرج من كشف المستور والتخوف من ردة الفعل ولذا لجأ بعضهم إلى كتابة سيرته الذاتية على شكل رواية أدبية ليلبس تلك السيرة بلبوس الخيال تمويهاً للحقيقة والأمثلة على ذلك كثيرة. على أن الأنانية الفجة والتكلف
الممجوج والزخرفة اللامعة والبعد عن الواقع والاستشهاد بالأموات التي تظهر في ثنايا بعض السير تضر كاتبها أكثر مما تنفعه.
• تختار عناوين كتبك بعناية فائقة.. لماذا العنوان أولاً؟ وما الموضوعات التي تأخذك للكتابة والتنقيب فيها؟
•• لعنوان الكتاب دور في لفت النظر إليه وتسويقه واختياره فن تدركه دور النشر أكثر من المؤلفين، أما بالنسبة لي فصياغة العنوان النهائية تأتي آخراً وليس أولاً، ولكن الأهم من الصياغة هو أني أحرص غاية الحرص على أن يكون العنوان معبراً عن المحتوى فحين اخترت عنوان (المسبار) لكتابي الأول إنما هو رمزية للقراءات النقدية التي تضمنها، وعندما اخترت (يوميات الدبدبة) عنواناً لمقالات يوسف ياسين التي جمعتها من أم القرى كان هذا العنوان يمثل وصفاً حقيقياً لمحتوى الكتاب، وهناك كتب أنهيتها واخترت لها عناوين معينة وأبقيتها لدي ثم قمت بعد مدة طويلة بمراجعتها وتنقيحها وعلى ضوء ذلك تم تغيير عنوان الكتاب قبل دفعه للطباعة مثل كتاب (خواجات وحكايات) وكتاب (سيرة كتب)، وأحياناً يتم التشاور مع بعض الأصدقاء عند صياغة بعض العناوين، وهناك حالة واحدة فقط قمت فيها بتغيير عنوان الكتاب استجابة لمشورة الناشر لاعتبارات رقابية، وفي كل الأحوال العنوان الجميل للكتاب دون مضمون جليل لا قيمة له لأنه سرعان ما ينكشف زيفه!!
أما الموضوعات التي تشدني للكتابة والتنقيب فهي تتمثل في تاريخ وتراث وآداب الجزيرة العربية بشكل عام وبقدر ما أهوى التأريخ لما أهمله التاريخ، وأحبذ البحث عن الشخصيات الغائبة عن المشهد، وأسعد بالمخطوطات التي لم تنل العناية، وأهتم بالوثائق التي لم تحظَ بالاهتمام، فإني ربما أكون سلطت الضوء على بعض الزوايا التي لم يسلط عليها الضوء، وربما انتشلت بعض المسائل التي غمرها الزمن في غيابة النسيان فأخرجتها للوجود في أبهى حلة.