«قمة المجد ليست في عدم الإخفاق والفشل، بل في النهوض بعد كل عثرة». هذه المقولة الذهبية تنسب إلى نيلسون مانديلا، ذلك المناضل الأسمر الذي لفَت العالم كلَّه إلى نجاحه في تفكيك نظام الفصل العنصري وتعزيز المصالحة العرقية في دولة جنوب أفريقيا. وفي المقابل فإن رضا لاري (1938- 2013) يستحق بجدارة أن يكون ممن ينضوون تحت هذه المقولة، فقد تعرض لعثرات عديدة خلال حياته الدراسية والمهنية أيضاً، ومع ذلك استطاع أن ينهض، كطائر فينيق ينبعث في كل مرَّة ليؤكد إصراره على الحياة برغم قسوة الظروف التي مرِّ بها، إذ توقف عن إتمام دراسته الثانوية في مصر وعاد إلى بلاده المملكة العربية السعودية، والتحق بوظيفةٍ في وزارة التجارة، ثم ما لبث أن قرر العودة إلى مقاعد الدراسة في جدة مع بقائه في العمل، حتى أتمّ المرحلة الثانوية في المدارس الليلية. وقرر أن يكمل دراسته الجامعية في العلوم السياسية تحت قُبَّة جامعة القاهرة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكانت الكلية آنذاك لم تزل بَعدُ جديدة، حيث يشكِّل رِضا وزملاؤه في تلك السنة الدفعةَ الأولى فيها. بقي رضا في وظيفته، وكان يأخذ كلّ سنة إجازة (دون راتب) فيقضي السنة الدراسية كلَّها في القاهرة، ثم إذا عاد إلى مدينة جدة باشر عمله حتى نهاية الصيف، وهكذا ناوب بين الدراسة والعمل حتى أتمّ الجامعة، وبعدها بدأ مشواره الوظيفي الذي لم يخلُ من عثرات في مراحله المتأخرة بالذات.
والحقيقة أن رضا لاري يرحمه الله من النماذج النادرة في ترك الأثر العميق لدى من عرفه أو سمع عنه، فكان شخصية قيادية جاذبة، ولم تكن الشخصية القيادية هي السِّمة المميزة له وحسب، فقد وجد فيه رفاقُه كثيراً من الصفات العديدة، بما فيها تَسَلُّمُهُ زِمام الحديث في أي مجلس يجلسه، أو أي رحلة يمضي فيها معهم. كانت شخصيته بكلِّ جوانبها العديدة تنعكس دوماً على أجواء المكان الذي يَحلُّ فيه، بما تكتنزه من بديهة حاضرة سريعة، وظَرْفٍ في كلامه وسلوكه، مع سعة اطِّلاعه وتعدد قراءاته وتنوع ثقافته، فكانت جلساته ممتعة، لا تخلو من الضحك والبهجة والتجدّد، كما لا تخلو من المعلومة والمعرفة والحكاية والتحليل، يشهد بذلك كلُّ مَنْ جَالسَه أو التقى به. وبقدر تلك المتعة فقد كان السفر معه أمتع وأجمل، حيث يتحلق حوله رفاقه في السفر في بهو الفندق أو في مطعم من المطاعم، فيمزج الهزل بالجد والمعرفة بالطرفة والتحليل السياسي بالظواهر والعلاقات الاجتماعية المتعارف عليها، ولعل أكثر استخدامه لهذه الطريقة يكمن في عناوين المقالات لديه، ويستطيع القارئ العثور عليها في مقدمتي لكتاب (بين قوسين)، أو إذا رام أكثر من ذلك فعليه استعراض مقالاته وما أكثرها.
حينما انعقدت النية على جمع مختارات من مقالات رضا لاري، كان من الصعب أن تُختار مقالاته السياسية، ليس لكثرتها وحسب، أو لما يتملك قارِئها من حيرة في أيّها يختار، بل لأن تلك المقالات السياسية لم يكن مكانها صفحات من كتاب (بين قوسين)، فزمنها أو قُل زمن قراءتها ولَّى، لتغيُّر المشهد السياسي باستمرار، ولعدم وجود الرابط النفس - اجتماعي فيها، وكان وجودُها النموذجيّ في قاعات الدراسة الجامعية، وهي جديرة بحق بهذا المكان. ولذلك كان القرار أن تُجمع مقالاته الاجتماعية، لما فيها من روح رضا لاري ورأيه في المجتمع والناس أيضاً، وما تحمله تلك المقالات من سمة جديرة بالظهور والبروز، وهي أن رضا لاري لم يكن فقط كاتباً سياسياً متميزاً، بل كان أيضاً كاتباً اجتماعياً رفيع المستوى، يكتب بقلبه وعقله ووجدانه في الحين نفسه. ففي تلك المقالات الاجتماعية حميمية عالية أنبأت عن نفسٍ جميلة محبة للناس، وَفِيَّةٍ للصداقة، حريصةٍ على مجتمعه الذي كان يعيش فيه. وإضافة إلى ذلك سيجد القارئ أن فيها اقتناصاً ذكياً جداً لمزايا كل فردٍ من الذين تحدث عنهم، خصوصاً أنه كتب عن أولئك الأشخاص تأبيناً لهم، وكأن بصره يغور في أعماقهم ليستخرج أندر ما بدواخلهم، وأبرز ما يميز شخصياتهم، فيرسم ملامحهم الشخصية ويذكر محاسنهم التي قد تغيب عن نظر من عاشروهم أو عرفوهم، وكأنه كَشَفَ عن صدر كل واحد منهم ونفسِه، فاستخرج أفضل ما تنطوي عليه، وأحسن ما يحب أن يعرفه الناس عنه، بل واستعرض مشوار حياته فإذا به يعرضه علينا وكأنه شريط سينمائي ينتقي أفضل محطاته وخيرها، فإذا ما طفق في الحديث عن دواخل ذلك الشخص وسماته ومواقفه شدك بدقة ملاحظته، وأسرك بتفاعله مع الناس بتلك الدرجة العالية من الذكاء الاجتماعي. كل ذلك دون أن يكرر موقفاً مرَّ بهم أو يعيد سِمةً من سماتهم، بل له ذلك الأسلوب الجميل الذي تنساب فيه الكلمات دون نبوٍّ أو عثرة ما يجعل القارئ ينسى ما حوله فلا يشعر بشيء عدا ما بين يديه من كلمات.
التقيت في البداية ابنيه أحمد رضا لاري (وكان شخصاً هادئاً خلوقاً يرحمه الله) وشقيقه الشابّ الجميل محمد أمدّ الله في عمره، وكانا حريصين على نشر الكتاب أيّما حرص، مستعدَين لبذل كل شيء في سبيل خروجه للناس، والحقُّ أن الجندي المجهول منهما في هذا الكتاب (محمد)، وهو شخص يأسرك بخلقه وكرمه لديه نفس أبيّة وعزيمة كعزيمة أبيه ودأبٍ كَدَأْبِه، ومن شابه أبه ما ظلم، فكان يوفر لي كل ما يؤدي إلى نجاح الكتاب من معلومات أو وثائق، وحرص على توفير كل ما يمكن توفيره من مقالات عفَتْ عليها سنون كثيرة وأعوام مديدة، كما كان معواناً لي في تعريفي بأصدقائه وأقربائه الذين قابلتهم والتنسيق معهم قبل اللقاء، لاستجلاء جوانب شخصية رضا لاري يرحمه الله، وهو ما أعانني على كتابة مقدمة الكتاب التي استعرضت فيها حياته، وكان حرصي أثناء الكتابة ألاّ تطغى تلك المقدمة على الهدف الأكبر من الكتاب وهو مقالات رضا لاري الاجتماعية، بل سعيت إلى أن تكون متوازنة تعطي رضا لاري حقه من الحديث عن حياته منذ طفولته حتى مماته، وتسمح لمقالاته بأن تأخذ حقها من مثولها بين أيدي القراء.
وبرغم أن ابنه محمد يعتزم جمع كل ما كتبه رضا لاري من مقالات وطرحها للجمهور في موقع إلكتروني باسمه، إلا أنني مازلت أكرر الدعوة بأن تجمع تلك المقالات، وخصوصاً السياسية منها، في كتب قد يستفيد منها الطالب الجامعيِّ، فقد وجدتُ كثيراً بل كثيراً جدّاً من تحليلاته السياسية ورؤاه الاجتماعية تحققت وكأنها رأي العين.
رحم الله رضا لاري وأحسن مثواه.
* ناقد وكاتب سعودي
والحقيقة أن رضا لاري يرحمه الله من النماذج النادرة في ترك الأثر العميق لدى من عرفه أو سمع عنه، فكان شخصية قيادية جاذبة، ولم تكن الشخصية القيادية هي السِّمة المميزة له وحسب، فقد وجد فيه رفاقُه كثيراً من الصفات العديدة، بما فيها تَسَلُّمُهُ زِمام الحديث في أي مجلس يجلسه، أو أي رحلة يمضي فيها معهم. كانت شخصيته بكلِّ جوانبها العديدة تنعكس دوماً على أجواء المكان الذي يَحلُّ فيه، بما تكتنزه من بديهة حاضرة سريعة، وظَرْفٍ في كلامه وسلوكه، مع سعة اطِّلاعه وتعدد قراءاته وتنوع ثقافته، فكانت جلساته ممتعة، لا تخلو من الضحك والبهجة والتجدّد، كما لا تخلو من المعلومة والمعرفة والحكاية والتحليل، يشهد بذلك كلُّ مَنْ جَالسَه أو التقى به. وبقدر تلك المتعة فقد كان السفر معه أمتع وأجمل، حيث يتحلق حوله رفاقه في السفر في بهو الفندق أو في مطعم من المطاعم، فيمزج الهزل بالجد والمعرفة بالطرفة والتحليل السياسي بالظواهر والعلاقات الاجتماعية المتعارف عليها، ولعل أكثر استخدامه لهذه الطريقة يكمن في عناوين المقالات لديه، ويستطيع القارئ العثور عليها في مقدمتي لكتاب (بين قوسين)، أو إذا رام أكثر من ذلك فعليه استعراض مقالاته وما أكثرها.
حينما انعقدت النية على جمع مختارات من مقالات رضا لاري، كان من الصعب أن تُختار مقالاته السياسية، ليس لكثرتها وحسب، أو لما يتملك قارِئها من حيرة في أيّها يختار، بل لأن تلك المقالات السياسية لم يكن مكانها صفحات من كتاب (بين قوسين)، فزمنها أو قُل زمن قراءتها ولَّى، لتغيُّر المشهد السياسي باستمرار، ولعدم وجود الرابط النفس - اجتماعي فيها، وكان وجودُها النموذجيّ في قاعات الدراسة الجامعية، وهي جديرة بحق بهذا المكان. ولذلك كان القرار أن تُجمع مقالاته الاجتماعية، لما فيها من روح رضا لاري ورأيه في المجتمع والناس أيضاً، وما تحمله تلك المقالات من سمة جديرة بالظهور والبروز، وهي أن رضا لاري لم يكن فقط كاتباً سياسياً متميزاً، بل كان أيضاً كاتباً اجتماعياً رفيع المستوى، يكتب بقلبه وعقله ووجدانه في الحين نفسه. ففي تلك المقالات الاجتماعية حميمية عالية أنبأت عن نفسٍ جميلة محبة للناس، وَفِيَّةٍ للصداقة، حريصةٍ على مجتمعه الذي كان يعيش فيه. وإضافة إلى ذلك سيجد القارئ أن فيها اقتناصاً ذكياً جداً لمزايا كل فردٍ من الذين تحدث عنهم، خصوصاً أنه كتب عن أولئك الأشخاص تأبيناً لهم، وكأن بصره يغور في أعماقهم ليستخرج أندر ما بدواخلهم، وأبرز ما يميز شخصياتهم، فيرسم ملامحهم الشخصية ويذكر محاسنهم التي قد تغيب عن نظر من عاشروهم أو عرفوهم، وكأنه كَشَفَ عن صدر كل واحد منهم ونفسِه، فاستخرج أفضل ما تنطوي عليه، وأحسن ما يحب أن يعرفه الناس عنه، بل واستعرض مشوار حياته فإذا به يعرضه علينا وكأنه شريط سينمائي ينتقي أفضل محطاته وخيرها، فإذا ما طفق في الحديث عن دواخل ذلك الشخص وسماته ومواقفه شدك بدقة ملاحظته، وأسرك بتفاعله مع الناس بتلك الدرجة العالية من الذكاء الاجتماعي. كل ذلك دون أن يكرر موقفاً مرَّ بهم أو يعيد سِمةً من سماتهم، بل له ذلك الأسلوب الجميل الذي تنساب فيه الكلمات دون نبوٍّ أو عثرة ما يجعل القارئ ينسى ما حوله فلا يشعر بشيء عدا ما بين يديه من كلمات.
التقيت في البداية ابنيه أحمد رضا لاري (وكان شخصاً هادئاً خلوقاً يرحمه الله) وشقيقه الشابّ الجميل محمد أمدّ الله في عمره، وكانا حريصين على نشر الكتاب أيّما حرص، مستعدَين لبذل كل شيء في سبيل خروجه للناس، والحقُّ أن الجندي المجهول منهما في هذا الكتاب (محمد)، وهو شخص يأسرك بخلقه وكرمه لديه نفس أبيّة وعزيمة كعزيمة أبيه ودأبٍ كَدَأْبِه، ومن شابه أبه ما ظلم، فكان يوفر لي كل ما يؤدي إلى نجاح الكتاب من معلومات أو وثائق، وحرص على توفير كل ما يمكن توفيره من مقالات عفَتْ عليها سنون كثيرة وأعوام مديدة، كما كان معواناً لي في تعريفي بأصدقائه وأقربائه الذين قابلتهم والتنسيق معهم قبل اللقاء، لاستجلاء جوانب شخصية رضا لاري يرحمه الله، وهو ما أعانني على كتابة مقدمة الكتاب التي استعرضت فيها حياته، وكان حرصي أثناء الكتابة ألاّ تطغى تلك المقدمة على الهدف الأكبر من الكتاب وهو مقالات رضا لاري الاجتماعية، بل سعيت إلى أن تكون متوازنة تعطي رضا لاري حقه من الحديث عن حياته منذ طفولته حتى مماته، وتسمح لمقالاته بأن تأخذ حقها من مثولها بين أيدي القراء.
وبرغم أن ابنه محمد يعتزم جمع كل ما كتبه رضا لاري من مقالات وطرحها للجمهور في موقع إلكتروني باسمه، إلا أنني مازلت أكرر الدعوة بأن تجمع تلك المقالات، وخصوصاً السياسية منها، في كتب قد يستفيد منها الطالب الجامعيِّ، فقد وجدتُ كثيراً بل كثيراً جدّاً من تحليلاته السياسية ورؤاه الاجتماعية تحققت وكأنها رأي العين.
رحم الله رضا لاري وأحسن مثواه.
* ناقد وكاتب سعودي