-A +A
علي حسن التواتي
تنتشر هذه الأيام صرعة (موضة) جديدة بين عدد من المسئولين الحكوميين الذين تتجه الأنظار والأصابع نحو وزاراتهم وأجهزتهم التي لا تقوم بواجباتها على الوجه المطلوب في خدمة الأغراض التي أنشئت من أجلها. وفي مقدّمة هذه الوزارات وزارة التخطيط والاقتصاد أو الاقتصاد والتخطيط التي حينما تفتح موقعها للتعرّف على آخر المستجدّات الاقتصادية تستقبلك عبارة مكتوبة بلغة الجزم والتأكد رغم أنها تعني بوضع مستقبلي يزيد في مداه على ستة عشر عاماً من اليوم ولا يعلم إلا الله إن كنت أنا وجلّ من يقرأون هذه المقالة بمن فيهم الوزير سيعيشون حتّى يروه، وتقول العبارة: (سيكون الاقتصاد السعودي بحلول عام 2025م متنوعاً ومزدهراً يقوده القطاع الخاص ويوفر فرص عمل مجزية وتعليم عالي الجودة وعناية صحية فائقة إضافة إلى المهارات اللازمة لرفاهية جميع المواطنين وحماية القيم الإسلامية وتراث المملكة الثقافي) وتصر وزارة التخطيط على ترديد هذه العبارات منذ زمن ليس بالقصير في كافة المحافل الإقليمية والعالمية. وكانت آخر مرّة أسمعه أو أقرأه يردد فيها هذه العبارات - التي أصبحت كاللازمة في أحاديثه العامّة – في تصريحات لعكاظ يوم السبت الماضي وقبل ذلك بعدّة سنوات في مؤتمر في القاهرة حتى إنه في تلك الفترة كان يضرب المثل بدبي ويصور حاضرها ذاك بالمستقبل المنشود للسعوديين..
والحقيقة أن التخطيط المركزي الذي تنتهجه وزارة التخطيط كان ولا يزال موضوعاً من الموضوعات المثيرة للجدل في التنمية الاقتصادية وذلك منذ انتهاجه من الدول مركزية التخطيط . ويرى المؤيدون للتخطيط المركزي أن في ملكية الدولة وإدارتها لعناصر وأدوات الإنتاج تحقيقاً لمبدأ العدالة الاجتماعية ، أما المعارضون فيرون أن فيه قتلاً للحوافز الفردية وتوزيعاً غير عادل للموارد والأسوأ من ذلك المسئولية الأدبية للدولة المركزيّة عن مصائر الناس. ومن الأمثلة التي تحضرني في هذا المجال ما حصل في الولايات المتحدة في أواسط السبعينات عندما ارتفعت أسعار النفط ارتفاعها الأول الشهير، فحينها قررت الحكومة الأمريكية أن تستفيد من مخزونها من الفحم الحجري فقامت بتدريب ما يزيد على ستة آلاف مواطن على الأعمال الفنية اللازمة للتعامل مع عملياته الإنتاجية من الاستخراج وحتى الاستخدام النهائي . ولكن أسعار النفط مالبثت أن انخفضت في فترة لاحقة فأصبح مشروع استخدام الفحم الحجري غير ذي جدوى من الناحية الاقتصادية فألغي برنامج التدريب وتم الاستغناء عن خدمات المدربين. وهنا ثار جدل واسع في الأوساط الأكاديمية الأمريكية عن المسئولية تجاه أولئك المستغنى عنهم فقد أنفقوا جزءاً من حياتهم وجهودهم وعلّقوا آمالهم على مشروع لم تتح له حتى فرصة الظهور إلى حيز التنفيذ . والنقطة الرئيسية التي كان يدور حولها الجدل هي أنه لو أن هؤلاء المتدربين قبلوا الانضمام لمثل ذلك البرنامج في القطاع التجاري الخاص فلا مشكلة هناك لأن كل واحد منهم يكون في تلك الحالة مسئولاً عن اختياره، ولكن الانضمام إلى برنامج تدريب حكومي يختلف تماماً عن الانضمام لبرنامج تدريبي في القطاع الخاص لأن الدولة تمثل مصلحة المجتمع والمؤسسة الخاصة تمثل مصلحة الفرد بشكل عام. وتجربة بلادنا في التنمية المخططة كانت تجربة فريدة ومتميزة في حينها أملتها ظروف تاريخية معيّنة ما لبثت أن تغيّرت مع هبوب رياح العولمة التي بدأت مطلع التسعينات وأدت فيما أدّت إليه من نتائج إلى تغيّر نظرة القيادة السياسية لدور القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني لتتحوّل وزارة التخطيط إلى وزارة ورقية لا تضيف للاقتصاد شيئاً يذكر إلا في مجال تجميع وتبويب ونشر الإحصاءات العامة ضمّ مصلحة الإحصاءات العامّة والمعلومات إليها وقصّ مسمى الاقتصاد الوطني من لوحة عنوان وزارة المالية ولصقه ضمن عنوان وزارة التخطيط. ولم نر أي تميز في وزارة التخطيط حتى الآن لا في مجال الاقتصاد الوطني الذي يعاني من معدّلات عالية للتضخم والبطالة ومحدودية الطاقة الاستيعابية والاختناقات الشديدة في مختلف المجالات ولا في الإحصاءات التي تنشر متقادمة أو على شكل تصريحات صحفية بطريقة انتقائية خاصة فيما يتعلق بالظواهر الاقتصادية التي تخبئ خللاً هيكلياً كبيراً. حيث يلاحظ أن معظم تلك الإحصاءات يتم التصريح بها بطريقة دفاعية تعتمد على النفي والتكذيب، وعلى سبيل المثال لا الحصر إذا قالت دراسة ميدانية إن 60% من السعوديين لا يملكون منازل خاصة يأتيك التصريح بنفي ذلك، وإذا حدث أن تكلم أحد عن أرقام البطالة المخيفة أتاك التصريح بعكس ذلك، وإذا لاحظنا أن الأهداف المحددة في الخطط الخمسية لم تتحقق أتاك التصريح بإنجازات الخطط.. وهلمّ جرّا.

ولذلك أرى أنه بدلاً من محاولة مداعبة أحلام المواطنين بالقفز على الواقع المعتم لأحوالهم المعيشيّة بالحديث عن جنّة المستقبل، من الأجدى للمسئولين في وزارة التخطيط التركيز على إصلاح أوّليّات الواقع الاقتصادي والمعلوماتي للبلاد بدءاً من الخلطة الأيديولوجية المتعددة الأبعاد التي نصرّ على الاستناد إليها والتي ولّدت نظاماً اقتصادياً غير واضح المعالم يعجز الباحثون في أوّليّات الاقتصاد عن تعريفه وعن تمييز العام فيه من الخاص بمثل السهولة التي يمكن بها تعريف اقتصاديات كثير من الدول الأخرى، وانتهاءً بالعمل الجادّ على تطوير الذات وتجديد الأدوات بتفعيل ما يعنيها في نظام المقاطعات والمناطق الإدارية الذي صدر عام 1412هـ بتعزيز (اللامركزيّة في التخطيط التنموي) وذلك بالالتزام بتفعيل مشاركة المواطنين في التخطيط لتنمية مناطقهم باعتبارها حقاً يحميه النظام بقوته التشريعية ليحل محلّ أسلوب التخطيط المركزي الذي عفا عليه الزمن منذ أمد بعيد..
altawati@yahoo.com