-A +A
طلال صالح بنان
كل فرد في المجتمع يشعر بعبء مضاعف في تكاليف الحياة. الغلاء طال كل شيء تقريباً: من رغيف العيش الذي "انسخط" حجماً ووزناً، وربما في قيمته الغذائية، إلى حديد التسليح ومواد البناء، مروراً بالملابس وأدوات التلاميذ المدرسية. في المقابل، لم تحصل تغييرات تُذكر في قيمة دخول الأفراد الحقيقية. دخل الأسرة السعودية، يكاد لم يتغير لما يقرب من ربع قرن، عدا زيادة حصلت لأجور موظفي الدولة منذ أكثر من سنتين، لم يشاركهم فيها الكثير من العاملين في القطاع الخاص، وأتى عليها التضخم، حتى قبل أن تُصرف. مؤخراً تقدمت الدولة بدفع إعانة نقدية بمقدار 5% من الأجر لموظفي الدولة، تزداد، بنفس النسبة سنوياً، حتى تبلغ 15% في السنة الثالثة، ثم يُعاد النظر فيها..!؟
تقول بعض التقارير إن التضخم بلغ 30% خلال السنة الماضية، ومتوقع أن يرتفع بمقدار 7% هذه السنة. في الحقيقة بلغ التضخم نفس النسبة المتوقعة سنوياً، في الشهرين الأولين من السنة المالية الحالية، ليصل الخانتين العشريتين في شهر مارس الماضي.!؟ باختصار: تكاليف المعيشة للأسرة السعودية، آخذة في الزيادة، بمستويات تفوق معدلات الدخول الحقيقية الآخذة في التناقص النمطي بمتواليات حسابية مقلقة. إذا أضفنا إلى مشكلة التضخم هذه تزايد معدلات البطالة بين الشباب السعودي، نجد أنفسنا أمام مشكلة اقتصادية مستعصية لا يمكن تجاهل تداعياتها الاجتماعية والسياسة والأمنية.
نظام الرقابة على الأسعار أسلوب عتيق ثبت، عملياً، عدم جدواه، لأنه ببساطة يحاول أن يحل مشكلة اقتصادية بإجراءات رقابية أمنية..!؟ هذا، بالإضافة إلى أنه أسلوب لا يتماشى مع روح ومضمون الحياة الاقتصادية المعاصرة، التي تعتمد أساساً على قوى السوق لتحديد أسعار السلع والخدمات، وأيضاً مستويات الأجور. لا يمكن، على سبيل المثال: حل مشكلة اختفاء الدقيق من الأسواق، رقابياً، وسعر شوال الدقيق قفز من 22 ريالا إلى ما يقرب 100 ريال..!؟
كذلك فإن الرقابة المتشددة على الأسعار، بزعم مكافحة "جشع" التجار، من شأنها أن تكلف الدولة والمجتمع الكثير من الموارد المالية لدفع تكاليف مراقبة الأسواق، بصورة يومية، وبدون فائدة مرجوة.. هذا بالإضافة إلى احتمال المساومة على جودة السلع والخدمات المعروضة في الأسواق، واحتمال مواجهة ندرتها. في النهاية: ما الذي يجبر التاجر البقاء في السوق في ظل التهديد بتوفير السلع بقيم أقل من أسعارها الحقيقية..!؟ حتى سياسات كبح تدفق السيولة لم تنجح، بشهادة التقارير الصادرة من مؤسسة النقد، التي أفادت أن السيولة زادت في شهر فبراير الماضي، بمعدل 29%، بينما كانت في الفترة السابقة من نفس السنة في حدود الـ 8%..!؟
مشكلة التضخم مالية في الأساس، وليست محض أزمة تجارية أو نقيصة أخلاقية.. أو تدخل متعمد لكبح مجالات الاستثمار، كما يصورها البعض. حل المشكلة لا يكمن في مراقبة الأسعار.. ولا ملاحقة التجار.. ولا الجدل بعالمية الظاهرة.. ولا الجدل بما يتردد عن ما يُسمى بالتضخم المستورد.. ولا بالتحكم القسري في حجم السيولة النقدية. حل المشكلة يكمن في قدرة المجتمع وإرادة الدولة الدفع تجاه سياسة مالية ونقدية محفزة للنمو تهدف إلى زيادة معدلات الناتج الإجمالي للمجتمع .. والاستفادة القصوى من إمكانات المجتمع البشرية والمادية والمالية، بتقليل معدلات البطالة، وترشيد الإنفاق الحكومي، ومحاربة الهدر في المال العام، وشفافية عمل مؤسسات الدولة، والاستفادة القصوى من ميزة المجتمع التنافسية في الصناعة النفطية، ومراجعة السياسة المالية القائمة التي تحول دون الريال السعودي وتحديد قيمته الحقيقية.
سياسات مالية ونقدية جذرية وعميقة الأثر يمكن أن تأخذ وقتاً لجني عوائدها... أما في الأمد القصير: فلابد من التخفيف من أعباء التضخم.. ودعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة لاستيعاب العمالة المتوفرة، مع الالتزام بتحديد مستوى أدنى للأجور.. ودفع معونات مباشرة للبطالة والأسر الفقيرة والكبيرة.. والاستمرار في دعم السلع والخدمات اللازمة للعملية الإنتاجية. إجراءات جار الأخذ ببعضها، إلا أنه يظل هناك مما يجب فعله. الغلاء لا يمكن هزيمته، فقط... بل يمكن قتله.

للتواصل ارسل sms الى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 154 ثم الرسالة