أستأنف تعليقي على موضوع السجال الذي دار بين الزميلين عبدالعزيز قاسم وتوفيق السيف حول ثنائية العلم والدين. فبعد أن طرحت رؤيتي في العدد الماضي حول الإجابة على السؤال: هل يمكن الفصل بين الدين والعلم؟ وبحثت عن معالم اللبس والخلط بينهما، سأكمل في هذا الجزء من التعليق ضرب شواهد أخرى من اللبس والخلط بين العلم والدين وسأبحث عن الفرق بينهما بما سبق وأن كتبته من مقالات حول هذا الموضوع في صحيفة (الاتحاد) الاماراتية. موضوع الدين هو الدنيا والآخرة معاً، أو الماضي والحاضر والمستقبل، بما في ذلك العالم الآخر.
أما موضوع العلم فيقتصر بشكل حصري على الحياة الدنيا، وتحديدا كل ظاهرة أو موضوع قابل للملاحظة والقياس في هذه الحياة الدنيا. ماعدا ذلك لا يقع ضمن حدود المنهج العلمي.
مثلاً مسألة الإسراء والمعراج هي مسألة محسومة من الناحية الدينية، وغير قابلة للشك. لكنها لا تقع ضمن حدود المنهج العلمي، وبالتالي غير خاضعة لحدود ومتطلبات هذا المنهج. لو جاء أحدهم وطرح ما يبدو له أنه سؤال علمي عن صحة ما حدث في الإسراء والمعراج يكون قد ارتكب خطأ علمياً فاضحاً، وتجاوز حدود الإيمان ومتطلباته. لا يملك المنهج العلمي إمكانية البرهنة من عدمها على ما حدث ليلة الإسراء والمعراج. والسبب في ذلك واضح، وهو أن هذا حدث غير قابل للملاحظة، وبالتالي لا يمكن توفر معلومات عنه قابلة للقياس والاختبار. بعبارة أخرى، الإسراء والمعراج مسألة خاضعة للإيمان، وليس للاختبار والبرهان. وليس أدل على ذلك من إجابة أبي بكر الصديق أهل مكة عندما قالوا له إن صاحبك (النبي صلى الله عليه وسلم) يدعي أنه أسري به البارحة إلى بيت المقدس، ثم عرج به في الليلة نفسها إلى السماء السابعة، ثم عاد من ليلته إلى مكة. كانوا ينتظرون استنكار أبي بكر وعدم تصديقه لما أخبر به محمد، لكنه فاجأهم بتصديقه للخبر لأنه قبل ذلك آمن بنبوة محمد. والإيمان بالنبوة هنا هو المرتكز. ما بعد ذلك أو دونه امتداد للإيمان الأول.
التباس المصدر الغيبي
الالتباس الرابع عدم إيلاء الأهمية المستحقة لحقيقة أن مصدر الدين إلهي غيبي، في حين أن مصدر العلم هو العقل البشري. في الوقت نفسه، وهذا هو مصدر الالتباس، يبقى العلم مع تميزه عن الدين، كمنهج وطريقة تفكير، ملكة منحها الله للإنسان كأحد مخلوقاته. موضوع العلم هو الطبيعة، وهذه من مخلوقات الله أيضاً. العلم هنا هو منهج لاكتشاف القوانين والنواميس التي تسير وفقا لها هذه الطبيعة. بعبارة أخرى، العقل البشري وقدرته على التفكير والتحليل، والطبيعة بأسرارها التي لا تنتهي، والعلم بمنهجيته المعنية باكتشاف كنه هذه الطبيعة، كل ذلك لا يتجاوز دائرة الإرادة الإلهية. كيف يمكن في هذه الحالة تفسير تناقض العلم مع الدين؟ هذا سؤال مهم ودقيق، لأنه يتعلق بالعلاقة بين حقلين مختلفين. هنا مجموعة ملاحظات لا غنى عنها أمام مثل هذا السؤال. لعله من الواضح أن التناقض في هذه الحالة هو تناقض في منهج، ومسلمات وفرضيات كل واحد من هذين الحقلين. الفرضية الأولى والمسلمة الأساسية في الدين هي الإيمان. في المقابل الفرضية الأولى والمسلمة الأساسية في العلم هي السؤال والبرهان. وبما أن الأمر كذلك، فإن التناقض هنا ليس بالضرورة تناقضا بين العلم كمنهج وما يرمي إليه من أهداف نهائية، من ناحية، وبين الدلالة الجوهرية والنهائية للدين كنص منزل. الأكيد، وأخذاً في الاعتبار ما أشرنا إليه من أن العقل، والمنهج العلمي كآلية اكتشفها العقل، والطبيعة كموضوع لهذا المنهج، من مخلوقات الله، وتعمل ضمن إرادة الله فإن التناقض بين العلم والدين في هذه الحالة ليس تناقضاً بين العلم والإرادة الإلهية. الأرجح أنه تناقض بين العلم والخطاب الديني. فيما يتعلق بموقف الخطاب الديني من هذا الموضوع تحديداً، يبدو أن هناك خلطاً بين الإرادة الإلهية من ناحية، وبين إرادة الإنسان التي تريد أن تخضع الدين كنص لقراءتها وحدود فهمها، من ناحية أخرى. وهذا ناتج طبيعي عن رفض الخطاب الديني لمبدأ التعددية والاختلاف كسنة من سنن الطبيعة البشرية، وبالتالي الطبيعة الاجتماعية.
اللافت أن التناقض بين العلم والدين بالنسبة لأصحاب الخطاب الديني يعني شيئين متناقضين أيضاً: فهو من ناحية يعني أن العلم هو الذي يجانبه الصواب في حالة عدم اتفاقه مع الدين أو الوحي. وفي الوقت نفسه يصر أصحاب الخطاب الديني على تطابق العلم مع الدين. مما يعني أن التطابق في الخطاب الديني هنا لا يتضمن التماثل بين الاثنين في المنهج وطريقة التفكير والممارسة، ولا يتضمن وحدة الهدف فيما بينهما، وإنما يعني إخضاع منطق العلم ومنهجه لمنطق ومنهجية التفكير الديني. في هذه الحالة يصبح موقف الخطاب الديني من مسألة العلاقة بين العلم والدين هو موقف سياسي بامتياز، وليس موقفا علمياً.
الفرق بين العلم والدين
من يقول إن العلم في الإسلام هو الدين لا ينطلق في ذلك من رؤية تاريخية أو علمية. تاريخياً عمر العلم بمعناه الحديث قصير لا يتجاوز على أكثر تقدير ألف سنة، في حين أن عمر الدين هو تقريباً عمر الإنسان على الأرض، وبالتالي يُحسب بمئات الآلاف، إنْ لم يكن بملايين السنين. الدين معني بتنظيم علاقة الإنسان مع ربه، ومعني بالشأن الأخروي. أما العلم، فمعنِي بتنظيم علاقة الإنسان مع الطبيعة. العلاقة الأولى فطرية، ومن الطبيعي أن يسبق الاهتمام بها الاهتمام بعلاقة الإنسان مع الطبيعة، لأن هذه الأخيرة تتطلب الكثير من الدربة والخبرة والتراكم المعرفي والمنهجي.
هناك فروق كثيرة بين العلم والدين، أهمها يتعلق بثلاثة: السلطة، والمرجعية، والمنهج. تحدد هذه المسائل طبيعة وجوهر كل من العلم والدين. السلطة في الدين الإسلامي هي للإيمان ثم التقليد ثم العقل. حضور البعد العقلي واضح هنا، وهو أحد الأسباب وراء الموقف الإيجابي للإسلام من العقل والعلم. ربما تساءل البعض عن مبرر إعطاء التقليد سلطة إلى جانب الإيمان. وهذا تحديداً ما يشير إليه مبدأ الاتباع، ونبذ الابتداع، خاصة فيما يعرف بفقه العبادات. ثم إن التقليد يمثل أحد مرتكزات المنهج المعرفي في الدين، مما يعطيه سلطة ثقافية. يتكامل التقليد في ذلك مع آلية القياس باعتبارها تعني قياس الشاهد على الغائب، والخلف على السلف، والحاضر على الماضي. بعبارة أخرى، يشكل التقليد مع القياس المنهج الديني. أخيراً تعود المرجعية في الدين الإسلامي إلى النص باعتباره مُنزّلا، وينطوي على حقيقة الدين، وعلى أركانه التأسيسية. كيف تبدو الصورة على الجانب الآخر، أو العلم؟
السلطة في العلم هي أولاً وأخيراً للعقل. أما المنهج، فهو ذلك الذي يقوم على السؤال كمنطلق، والفرضية كاحتمال، ثم البرهان من خلال التحليل والتجربة. كل شيء في العلم مطروح للسؤال، وعرضة للشك، وفي حاجة دائمة للبرهان. المرجعية في العلم هي للعقل وللمنهج العلمي معاً.
وعند المقارنة نجد أن المنطلق الأساسي للمنهج الديني هو الإيمان المسبق: الإيمان بصحة النص ودقته كمتطلب أولي، أو صحة الإجماع أو القياس في حال عدم وجود نص. ليس هناك مجال أبداً في المنهج الديني للسؤال أو الشك، خاصة أمام النص والإجماع. المبدأ هو الإيمان، والمنتهى هو اليقين، أو كما يقول الأثر “الإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة”.
آلية القياس للمتغيرات
يتطلب منطق السؤال والبرهان آلية للقياس: قياس المتغيرات، وليس القياس بالمعنى الفقهي. وهذه بدورها تتطلب بالضرورة توفر المعلومة التي من دونها لا يمكن القياس، والقدرة على الملاحظة. وحيث إن درجة دقة وصحة المعلومة ليست واحدة في كل حالة، وتعتمد على الأداة التي استخدمت للحصول عليها، وحيث إن تفسير المعلومة وتحليلها، واستخراج العلاقات بين الظواهر والعوامل على أساسها، تختلف أيضاً من حالة لأخرى، ووفقاً لمنهج التحليل المستخدم، تطلب الأمر أن تكون هناك مساحة كافية للنقد والمراجعة، والتدقيق والتمحيص. الاختلاف في المجال العلمي هنا طبيعي، وبالتالي من الضرورة بمكان أن تكون هناك مساحة كافية لاستيعاب الاختلافات، وضرورة التعايش فيما بينها. على العكس من المنطق الديني، ليس هناك في العلم إيمان مسبق، ولا يقين يمكن الركون إليه والتوقف عنده. وفقا للمنطق الذي يحكم المنهج العلمي يمكن القول بأن “العلم يبدأ بسؤال، وينتهي بسؤال”. من هنا الطبيعة التراكمية للعلم، وللدراسات العلمية.
الفرق في المنطق
من هنا يكون الفرق بين العلم والدين في أساسه فرقا في المنطلق وفي المنهج. فمن حيث أن الإيمان هو منطلق الدين، وهو السلطة الحاكمة فيه، ينحو دائماً نحو الثبات واليقين. أما العلم، فمن حيث أنه ينطلق من السؤال لينتهي إليه، والعقل بحيويته التي لا تنتهي عند حد هو السلطة الحاكمة فيه، نجد أنه، وعلى العكس من الدين، ينحو دائماً نحو التغير وليس الثبات. مثل هذه الفروقات الجوهرية لا تجيز أبداً القول بأن العلم هو الدين أو العكس. الدين منهج محدد في التفكير وله منطقه الخاص، وآلياته المعرفية التي لا تصلح إلا في إطاره الخاص. والعلم منهج آخر مختلف يعمل وفقاً لمنطق مختلف، وبآليات لا يمكن تطبيقها إلا ضمن حدود إطاره المنهجي الخاص به أيضاً.
أعود، في السياق نفسه، إلى الفيلسوف الإنجليزي الشهير، “برتراند راسل”، لنرى كيف عرف مجاله الفلسفي. يقول “الفلسفة كما أفهمها هي شيء يقع في المنتصف بين اللاهوت والعلم. هي مثل اللاهوت من حيث أنها تتكون من أفكار وتحليلات تأملية، (speculations) لمواضيع لا تتوفر عنها معلومات دقيقة، أو يمكن التأكد من صحتها. لكن الفلسفة مثل العلم من حيث أنها تستند إلى العقل الإنساني، وليس إلى السلطة، سواء في ذلك سلطة التقاليد أو سلطة الوحي. كل المعارف الدقيقة، كما أرى، تنتمي إلى العلم. وكل أشكال “الدوغما” (Dogma)، أو المعتقدات التي تتجاوز حدود المعرفة الدقيقة تنتمي إلى اللاهوت. فيما بين اللاهوت والعلم هناك متاهة مفتوحة للتناول من قبل الجانبين. هذه المتاهة هي الفلسفة. كل الأسئلة التي تستهوي أصحاب الذهنيات التي تميل إلى التحليل التأملي (speculative minds)، هي تلك الأسئلة التي لا يستطيع العلم الإجابة عليها، وإجابة اللاهوت الوثوقية لم تعد مقنعة كما كانت قبل قرون مضت. من هذه الأسئلة: هل العالم منقسم إلى عقل ومادة؟ وإذا كان كذلك، فما هو العقل؟ وما هي المادة؟ هل يخضع العقل للمادة أم أنه يتوفر على قدرات مستقلة بذاته؟ هل للكون أي وحدة أو هدف؟ هل هو يتطور في اتجاه هدف ما؟ هل هناك فعلاً قوانين للطبيعة، أم أننا نعتقد ذلك بسبب من ميلنا الفطري نحو النظام؟ .....” (راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، بالإنجليزي، ص13 من المقدمة). يؤكد “راسل” هنا على ضرورة الفلسفة لسد الفجوة المعرفية الناشئة عن عدم قدرة العلم على التعاطي مع هذا النوع من الأسئلة، وعدم قدرة اللاهوت على تقديم إجابات مقنعة عليها. إشارة “راسل” هنا إلى اللاهوت المسيحي، وإلى سيرورة التطور المعرفي للإنسان.
أما موضوع العلم فيقتصر بشكل حصري على الحياة الدنيا، وتحديدا كل ظاهرة أو موضوع قابل للملاحظة والقياس في هذه الحياة الدنيا. ماعدا ذلك لا يقع ضمن حدود المنهج العلمي.
مثلاً مسألة الإسراء والمعراج هي مسألة محسومة من الناحية الدينية، وغير قابلة للشك. لكنها لا تقع ضمن حدود المنهج العلمي، وبالتالي غير خاضعة لحدود ومتطلبات هذا المنهج. لو جاء أحدهم وطرح ما يبدو له أنه سؤال علمي عن صحة ما حدث في الإسراء والمعراج يكون قد ارتكب خطأ علمياً فاضحاً، وتجاوز حدود الإيمان ومتطلباته. لا يملك المنهج العلمي إمكانية البرهنة من عدمها على ما حدث ليلة الإسراء والمعراج. والسبب في ذلك واضح، وهو أن هذا حدث غير قابل للملاحظة، وبالتالي لا يمكن توفر معلومات عنه قابلة للقياس والاختبار. بعبارة أخرى، الإسراء والمعراج مسألة خاضعة للإيمان، وليس للاختبار والبرهان. وليس أدل على ذلك من إجابة أبي بكر الصديق أهل مكة عندما قالوا له إن صاحبك (النبي صلى الله عليه وسلم) يدعي أنه أسري به البارحة إلى بيت المقدس، ثم عرج به في الليلة نفسها إلى السماء السابعة، ثم عاد من ليلته إلى مكة. كانوا ينتظرون استنكار أبي بكر وعدم تصديقه لما أخبر به محمد، لكنه فاجأهم بتصديقه للخبر لأنه قبل ذلك آمن بنبوة محمد. والإيمان بالنبوة هنا هو المرتكز. ما بعد ذلك أو دونه امتداد للإيمان الأول.
التباس المصدر الغيبي
الالتباس الرابع عدم إيلاء الأهمية المستحقة لحقيقة أن مصدر الدين إلهي غيبي، في حين أن مصدر العلم هو العقل البشري. في الوقت نفسه، وهذا هو مصدر الالتباس، يبقى العلم مع تميزه عن الدين، كمنهج وطريقة تفكير، ملكة منحها الله للإنسان كأحد مخلوقاته. موضوع العلم هو الطبيعة، وهذه من مخلوقات الله أيضاً. العلم هنا هو منهج لاكتشاف القوانين والنواميس التي تسير وفقا لها هذه الطبيعة. بعبارة أخرى، العقل البشري وقدرته على التفكير والتحليل، والطبيعة بأسرارها التي لا تنتهي، والعلم بمنهجيته المعنية باكتشاف كنه هذه الطبيعة، كل ذلك لا يتجاوز دائرة الإرادة الإلهية. كيف يمكن في هذه الحالة تفسير تناقض العلم مع الدين؟ هذا سؤال مهم ودقيق، لأنه يتعلق بالعلاقة بين حقلين مختلفين. هنا مجموعة ملاحظات لا غنى عنها أمام مثل هذا السؤال. لعله من الواضح أن التناقض في هذه الحالة هو تناقض في منهج، ومسلمات وفرضيات كل واحد من هذين الحقلين. الفرضية الأولى والمسلمة الأساسية في الدين هي الإيمان. في المقابل الفرضية الأولى والمسلمة الأساسية في العلم هي السؤال والبرهان. وبما أن الأمر كذلك، فإن التناقض هنا ليس بالضرورة تناقضا بين العلم كمنهج وما يرمي إليه من أهداف نهائية، من ناحية، وبين الدلالة الجوهرية والنهائية للدين كنص منزل. الأكيد، وأخذاً في الاعتبار ما أشرنا إليه من أن العقل، والمنهج العلمي كآلية اكتشفها العقل، والطبيعة كموضوع لهذا المنهج، من مخلوقات الله، وتعمل ضمن إرادة الله فإن التناقض بين العلم والدين في هذه الحالة ليس تناقضاً بين العلم والإرادة الإلهية. الأرجح أنه تناقض بين العلم والخطاب الديني. فيما يتعلق بموقف الخطاب الديني من هذا الموضوع تحديداً، يبدو أن هناك خلطاً بين الإرادة الإلهية من ناحية، وبين إرادة الإنسان التي تريد أن تخضع الدين كنص لقراءتها وحدود فهمها، من ناحية أخرى. وهذا ناتج طبيعي عن رفض الخطاب الديني لمبدأ التعددية والاختلاف كسنة من سنن الطبيعة البشرية، وبالتالي الطبيعة الاجتماعية.
اللافت أن التناقض بين العلم والدين بالنسبة لأصحاب الخطاب الديني يعني شيئين متناقضين أيضاً: فهو من ناحية يعني أن العلم هو الذي يجانبه الصواب في حالة عدم اتفاقه مع الدين أو الوحي. وفي الوقت نفسه يصر أصحاب الخطاب الديني على تطابق العلم مع الدين. مما يعني أن التطابق في الخطاب الديني هنا لا يتضمن التماثل بين الاثنين في المنهج وطريقة التفكير والممارسة، ولا يتضمن وحدة الهدف فيما بينهما، وإنما يعني إخضاع منطق العلم ومنهجه لمنطق ومنهجية التفكير الديني. في هذه الحالة يصبح موقف الخطاب الديني من مسألة العلاقة بين العلم والدين هو موقف سياسي بامتياز، وليس موقفا علمياً.
الفرق بين العلم والدين
من يقول إن العلم في الإسلام هو الدين لا ينطلق في ذلك من رؤية تاريخية أو علمية. تاريخياً عمر العلم بمعناه الحديث قصير لا يتجاوز على أكثر تقدير ألف سنة، في حين أن عمر الدين هو تقريباً عمر الإنسان على الأرض، وبالتالي يُحسب بمئات الآلاف، إنْ لم يكن بملايين السنين. الدين معني بتنظيم علاقة الإنسان مع ربه، ومعني بالشأن الأخروي. أما العلم، فمعنِي بتنظيم علاقة الإنسان مع الطبيعة. العلاقة الأولى فطرية، ومن الطبيعي أن يسبق الاهتمام بها الاهتمام بعلاقة الإنسان مع الطبيعة، لأن هذه الأخيرة تتطلب الكثير من الدربة والخبرة والتراكم المعرفي والمنهجي.
هناك فروق كثيرة بين العلم والدين، أهمها يتعلق بثلاثة: السلطة، والمرجعية، والمنهج. تحدد هذه المسائل طبيعة وجوهر كل من العلم والدين. السلطة في الدين الإسلامي هي للإيمان ثم التقليد ثم العقل. حضور البعد العقلي واضح هنا، وهو أحد الأسباب وراء الموقف الإيجابي للإسلام من العقل والعلم. ربما تساءل البعض عن مبرر إعطاء التقليد سلطة إلى جانب الإيمان. وهذا تحديداً ما يشير إليه مبدأ الاتباع، ونبذ الابتداع، خاصة فيما يعرف بفقه العبادات. ثم إن التقليد يمثل أحد مرتكزات المنهج المعرفي في الدين، مما يعطيه سلطة ثقافية. يتكامل التقليد في ذلك مع آلية القياس باعتبارها تعني قياس الشاهد على الغائب، والخلف على السلف، والحاضر على الماضي. بعبارة أخرى، يشكل التقليد مع القياس المنهج الديني. أخيراً تعود المرجعية في الدين الإسلامي إلى النص باعتباره مُنزّلا، وينطوي على حقيقة الدين، وعلى أركانه التأسيسية. كيف تبدو الصورة على الجانب الآخر، أو العلم؟
السلطة في العلم هي أولاً وأخيراً للعقل. أما المنهج، فهو ذلك الذي يقوم على السؤال كمنطلق، والفرضية كاحتمال، ثم البرهان من خلال التحليل والتجربة. كل شيء في العلم مطروح للسؤال، وعرضة للشك، وفي حاجة دائمة للبرهان. المرجعية في العلم هي للعقل وللمنهج العلمي معاً.
وعند المقارنة نجد أن المنطلق الأساسي للمنهج الديني هو الإيمان المسبق: الإيمان بصحة النص ودقته كمتطلب أولي، أو صحة الإجماع أو القياس في حال عدم وجود نص. ليس هناك مجال أبداً في المنهج الديني للسؤال أو الشك، خاصة أمام النص والإجماع. المبدأ هو الإيمان، والمنتهى هو اليقين، أو كما يقول الأثر “الإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة”.
آلية القياس للمتغيرات
يتطلب منطق السؤال والبرهان آلية للقياس: قياس المتغيرات، وليس القياس بالمعنى الفقهي. وهذه بدورها تتطلب بالضرورة توفر المعلومة التي من دونها لا يمكن القياس، والقدرة على الملاحظة. وحيث إن درجة دقة وصحة المعلومة ليست واحدة في كل حالة، وتعتمد على الأداة التي استخدمت للحصول عليها، وحيث إن تفسير المعلومة وتحليلها، واستخراج العلاقات بين الظواهر والعوامل على أساسها، تختلف أيضاً من حالة لأخرى، ووفقاً لمنهج التحليل المستخدم، تطلب الأمر أن تكون هناك مساحة كافية للنقد والمراجعة، والتدقيق والتمحيص. الاختلاف في المجال العلمي هنا طبيعي، وبالتالي من الضرورة بمكان أن تكون هناك مساحة كافية لاستيعاب الاختلافات، وضرورة التعايش فيما بينها. على العكس من المنطق الديني، ليس هناك في العلم إيمان مسبق، ولا يقين يمكن الركون إليه والتوقف عنده. وفقا للمنطق الذي يحكم المنهج العلمي يمكن القول بأن “العلم يبدأ بسؤال، وينتهي بسؤال”. من هنا الطبيعة التراكمية للعلم، وللدراسات العلمية.
الفرق في المنطق
من هنا يكون الفرق بين العلم والدين في أساسه فرقا في المنطلق وفي المنهج. فمن حيث أن الإيمان هو منطلق الدين، وهو السلطة الحاكمة فيه، ينحو دائماً نحو الثبات واليقين. أما العلم، فمن حيث أنه ينطلق من السؤال لينتهي إليه، والعقل بحيويته التي لا تنتهي عند حد هو السلطة الحاكمة فيه، نجد أنه، وعلى العكس من الدين، ينحو دائماً نحو التغير وليس الثبات. مثل هذه الفروقات الجوهرية لا تجيز أبداً القول بأن العلم هو الدين أو العكس. الدين منهج محدد في التفكير وله منطقه الخاص، وآلياته المعرفية التي لا تصلح إلا في إطاره الخاص. والعلم منهج آخر مختلف يعمل وفقاً لمنطق مختلف، وبآليات لا يمكن تطبيقها إلا ضمن حدود إطاره المنهجي الخاص به أيضاً.
أعود، في السياق نفسه، إلى الفيلسوف الإنجليزي الشهير، “برتراند راسل”، لنرى كيف عرف مجاله الفلسفي. يقول “الفلسفة كما أفهمها هي شيء يقع في المنتصف بين اللاهوت والعلم. هي مثل اللاهوت من حيث أنها تتكون من أفكار وتحليلات تأملية، (speculations) لمواضيع لا تتوفر عنها معلومات دقيقة، أو يمكن التأكد من صحتها. لكن الفلسفة مثل العلم من حيث أنها تستند إلى العقل الإنساني، وليس إلى السلطة، سواء في ذلك سلطة التقاليد أو سلطة الوحي. كل المعارف الدقيقة، كما أرى، تنتمي إلى العلم. وكل أشكال “الدوغما” (Dogma)، أو المعتقدات التي تتجاوز حدود المعرفة الدقيقة تنتمي إلى اللاهوت. فيما بين اللاهوت والعلم هناك متاهة مفتوحة للتناول من قبل الجانبين. هذه المتاهة هي الفلسفة. كل الأسئلة التي تستهوي أصحاب الذهنيات التي تميل إلى التحليل التأملي (speculative minds)، هي تلك الأسئلة التي لا يستطيع العلم الإجابة عليها، وإجابة اللاهوت الوثوقية لم تعد مقنعة كما كانت قبل قرون مضت. من هذه الأسئلة: هل العالم منقسم إلى عقل ومادة؟ وإذا كان كذلك، فما هو العقل؟ وما هي المادة؟ هل يخضع العقل للمادة أم أنه يتوفر على قدرات مستقلة بذاته؟ هل للكون أي وحدة أو هدف؟ هل هو يتطور في اتجاه هدف ما؟ هل هناك فعلاً قوانين للطبيعة، أم أننا نعتقد ذلك بسبب من ميلنا الفطري نحو النظام؟ .....” (راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، بالإنجليزي، ص13 من المقدمة). يؤكد “راسل” هنا على ضرورة الفلسفة لسد الفجوة المعرفية الناشئة عن عدم قدرة العلم على التعاطي مع هذا النوع من الأسئلة، وعدم قدرة اللاهوت على تقديم إجابات مقنعة عليها. إشارة “راسل” هنا إلى اللاهوت المسيحي، وإلى سيرورة التطور المعرفي للإنسان.