-A +A
سمير عابد شيخ
كان ذا لحية طويلة بيضاء، وأخذ يحدّثنا بلغة عربية مكسّرة في مسجد العاصمة الكندية (أوتاوا). هناك فرق بين الصالح والمصلح، كما أنّ هناك فرقا بين الفاسد والمفسد! تعود لذاكرتي أقوال ذلك الرّجل عندما أتأمّل بعض الظواهر في المجتمع. ويبدو لي أنّ هذه القاعدة لا تنطبق على المُثل والأخلاقيات فحسب، بل على العلوم والمواهب والمقدرات. فليس كل إنسان موهوب أو ذو قدرات متميّزة يستطيع بالضرورة ان (يمرّر) هذه المقدرات الى الآخرين. وأتصوّر أنّ احدى الهفوات التي نقع فيها أحيانا هي اعتقادنا أن وجود شخص موهوب ومتميز على رأس مؤسسة أو ادارة سيجعل ذلك الكيان الاداري متميزا أو ناجحا. وهذه المقدّمة هي ما أحتاجه لتوصلني الى مآسي أمانة جدّة التي تتكرّر عبر عقود سابقة والى يومنا هذا!
فعندما أستعرض أمناء جدّة السابقين واللاحقين، أجد سيرهم الذاتية حافلة بالإنجازات والتميز الأكاديمي أو العملي أو كليهما. ولكن بعد ترقيهم سدّة المسؤولية بوقت، تظهر لنا العديد من الملاحظات على أداء الهرم الاداري والفني الذي يرأسونه. والمنطق العام يقول لنا إنّ سوء الأداء لا يمكن أن يلام حصريا على الأمناء، إذ إنّ في هذا تبسيط غير منطقي للحقائق. وأتصوّر أنّ تكرار التقصير وضعف الأداء لا بدّ أن يؤشّرا إلى وجود خلل آخر في هذا الكيان الحيوي لهذه المدينة التاريخية. ودعونا نستعرض خدمتين رئيستين تخفق الأمانة في القيام بهما.
فما من مواطن بمدينة جدّة إلاّ ويلاحظ مأساة النظافة خصوصا في الشوارع الفرعية. وممّا فاقم الأمر، سوء اختيار الحاويات الجديدة من حيث صغر حجمها إلى تناثر النفايات حول هذه الحاويات وبعثرتها حول المساكن بصورة لا ترضي الأمانة أو المؤتمنين! والملاحظة الثانية تتعلّق باضطراب أنظمة البناء في بعض الشوارع والأحياء. فمجرّد شراء الأرض وبنائها يشكّل عبئا ثقيلا جدا على المواطنين يستنفد مدّخراتهم ويحمّلهم ديونا إضافية من الدولة يحفظها الله أو من البنوك يصلحها الله!
فقيام الأمانات المتتالية بتبديل أنظمتها يعرّض أموال المواطنين للهدر. ولنتصوّر أن مجموعة مواطنين أنشأوا مساكنهم في مخطط مرخّص للفلل. وبعد أعوام أجازت الأمانة بناء العمائر بجوار تلك الفلل. وبذلك تتسببّ الأمانة في انتهاك خصوصية السكان القدامى، وتزدحم الشوارع التي كانت ضيّقة في الأصل بسيّارات مستأجري العمائر، وتنساب خزانات صرف العمائر في شوارع الأحياء، فتصبح الحياة بتلك الأحياء مزعجة للغاية. هذا كلّه يتم لمصلحة (هوامير) العقار الجدد الذين يصبّون أموالهم لإنشاء مبانٍ أصبحت تبلغ خمسة وستة طوابق بجانب الفلل ذات الطابقين. سيؤدي هذا الى تفكير بعض السكان القدامى ببيع بيوتهم والانتقال الى أحياء أخرى. لكن أسعار الأراضي المشتعلة سيجعل هذا مستعصيا إلاّ ما ندر، ممّا يضع السكّان في ربكة وضيق لا يرضاه ولاة الأمر. فهل ستقوم الأمانة بتعويض السكّان عن سوء تخطيطها وتخبّط أنظمتها!
وهكذا يظهر لنا جليا أنّ أداء الأمانة بالنسبة للتخطيط العمراني يعتبر كارثيا بأبسط المعايير. ولتعد الأمانة إن شاءت لتقارير الصحف وشكاوى المواطنين من هذين الأمرين خلال سنوات ماضية والى يومنا هذا. وكما أسلفت فمن السذاجة أن أحمّل موظفا بعينه مسؤولية هذا الإخفاق المخل بحقوق المواطنين التي تحرص عليه دولتنا الرشيدة يحفظها الله.
وطالما أنّ هذه الأمانات المتتالية أثبتت عجزها في حل هذه المتطلبات الأساسية، فإني أقترح عليها أن ترفع بهذا الى ولاة الأمر وتعترف بعجزها الواضح والصريح في هذين الجانبين. وبما أنّ مدينة جدّة تعتبر واجهة السياحة في مملكتنا الحبيبة، فإنّي أقترح أن تتولّى الهيئة العليا للسياحة مسؤولية ومهام الإشراف على أبسط المتطلبات السياحية في أي بلد، وهي النظافة وحسن المظهر واتساق التخطيط، وذلك أضعف الايمان.

للتواصل ارسل sms الى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 117 مسافة ثم الرسالة