-A +A
سمير عابد شيخ
هناك قيم تجتمع البشرية على استحسانها بصرف النّظر عن الأديان أو الأصول العرقية؛ فما من حضارة تستحسن السرقة أو الكذب أو الاعتداء على الآخر، ولا أظن الإصلاح بمنأى عن هذه القيم، ولكن الإشكال يكمن في كيفية تحقيق هذا الإصلاح! فأنبياء الله تبارك وتعالى بعثوا مُصلحين لمجتمعاتهم، وبُعث نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم مُصلحا للبشرية جمعاء، لكن الأنبياء لهم مناهج ربّانية واضحة المعالم؛ فملائكة من عند الله جلّ وعلا يوصلونهم بالسماء، وأصحاب وحواريون يوصلونهم بالأرض، لكنّ الناس لم تعد تهتدي بالكتب السماوية، فامتلأت البيوت فسادا كما امتلأت أسطحها بالأطباق اللاقطة واغراءاتها! ولهذا فلا بد لمسيرة الإصلاح أن تستمر مستندة إلى قوانين السماء وإن تبدلت قنواتها.
ولكنّي لا أحسب أنّ الأمر بهذه البساطة! وبرغم أنّ النوايا الحسنة تثيب صاحبها إلاّ أنّها لم تعد كافية لتحقيق الإصلاح في المجتمع؛ فالمجتمع يتكوّن من جزيئات تبدأ بالفرد فالأسرة فالعشيرة وهكذا حتى تشمل كافّة المواطنين. وقديما قالوا إنّ الأفراد يشبهون خلايا الجسد، فإذا صلح الفرد صلح المجتمع، لكن هذا الفرد له انتماءات متشابكة، وصلاح فرد واحد في شبكة اجتماعية واسعة لا يضمن صلاح باقي أعضاء هذه المجموعة. ودعوني أستعرض الجزئيات المكونة للمجتمع لتوضيح وجهة نظري؛ فاذا أخذنا أسرةً صغيرةً مكوّنةً من رجل وامرأة، قد يسهل إصلاح هذه الأسرة إذا صلح أحدهما،لكن إذا أصبحت لهذه الأسرة خمسة أولاد، واقترن الرّجل بثلاث زوجات أخريات أنجب منهن عشرة أطفال آخرين، سيكون إصلاحهم أصعب حتى إن كان الرجل صالحا! واذا ما انتقلنا بالرّجل الصالح إلى المؤسسة التي يعمل بها، ولنقل إنّها شركة متوسطة الحجم بها مائة وعشرون موظفا، فمن المرجح أن إصلاحهم سيزداد صعوبة بزيادة عددهم. أمّا اذا كان الرجل يعمل في هيئة خدمية حكومية أو غير حكومية ينتسب اليها خمسة عشر ألف موظف، ستتضاعف صعوبة إصلاحهم بمراحل عن ذي قبل.
وهناك إجراء تقليدي تقوم به المجتمعات عندما تود إصلاح منشأة أو هيئة بعينها، وهو تبديل رأس تلك الهيئة (غير المناسب) بآخر معروف بكافّة الأوصاف الإيجابية الخلقية والمهنية. وكثيرا ما ينتج عن هذا إحباط شديد لدى الرئيس الجديد لعجزه عن الإصلاح المنشود واستمرار إخفاق الهيئة المعنية. فبداية الإصلاح اذن ليست دائما بتبديل رأس الهرم الإداري، بل تتفاوت البداية مع تركيبة وطبيعة المجموعة الاجتماعية المعنية.
ففي حالة الأسرة الكبيرة جدا، قد يكون من الأجدى إصلاح (الحزام الأوسط) للأسرة، أي إصلاح الجيل الذي يسهل عليه التواصل مع الكبار والصغار معا. وفي حالة الشركات والهيئات الحكومية وغيرها، قد يكون من الأفضل إصلاح الشريحة الوسطى لأنّها كثيرا ما تكون هي المؤثّرة فعليا على أرض الواقع. فاذا افترضنا أنّه تم تعيين رئيس كفؤ ومستقيم على رأس هيئة تنتشر فيها المحسوبية والفساد، فما عساه أن يفعل مع الشريحة العظمى الفاسدة من الجهاز التنفيذي بهذه الهيئة. وأتصوّر أن إصلاح المجتمع كذلك، يستوجب إصلاح الطبقة الوسطى فيه.
واذا ما انتقلنا من التنظير الى التطبيق، يمكن أن نستنتج بأنّ الإصلاح الإداري لدينا حري أن يبدأ بالأحزمة الوسطى في المؤسسات الحكومية وغيرها. ولا يكون هذا الإصلاح ببذل المحاضرات والمواعظ لهم، بل باستقبال ملاحظاتهم واقتراحاتهم وحسن الإصغاء إليهم. وإنّي بهذا أتمنّى على الهيئات المكلّفة بمراقبة الفساد الإداري، أن تبدأ بتنظيم ورش عمل للإدارات الوسطى وعامّة التنفيذيين، للأخذ برأيهم بكيفية مكافحة الفساد بدلا من الاكتفاء بتطبيق بنود النظام على المتجاوزين.. فالوقاية لا تزال خير من العلاج.

للتواصل ارسل sms الى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 117 مسافة ثم الرسالة