-A +A
جولة: محمد علي الحربي
علق المسعودي على خبر كعب الأحبار في مجلس معاوية بن أبي سفيان قائلا: "فإذا كان هذا الخبر عن كعب حقا في هذه المدينة، فهو حسنٌ، وهو خبر يدخله الفساد من جهات النقل، وهو من صنعة القصاص، وقد تنازع الناس في هذه المدينة وأين هي؟ ولم يصح عند كثيرين من الإخباريين ممن ورد على معاوية من أهل الدراية بأخبار الماضي وسير الغابرين، وغيرهم من المتقدمين فيها إلا خبر عبيد بن شريه الجرهمي".
تظل "إرم" رغم كل ذلك لغزاً محيراً مستعصياً على الحل خارج آخر الروايات.. أو البحث اليائس من قبل الباحثين عن مجدها الأسطوري.. ولكن دون جدوى ويملأ الاحباط كل من سعوا وراءها وبذلوا جهوداً وأموالاً طائلة للعثور عليها.

فاضل الربيعي- باحث ومؤرخ- يقول: العرب تحبذ وصف مثل هذه الأساطير بكلمة (الخبر، الأخبار) تمييزا لها عن الحكايات ذات الطابع الخرافي، وهناك مسألة دقيقة تتعلق بالحدود الواجب اقامتها باستمرار، بين صحة "الخبر" من حيث كونه خبرا وبين مادته بما هي اسطره، وهذا ما يتوجب علينا نحن ايضا ان ننظر اليه بجدية ونقيم تمييزا مماثلا على مستوى القراءة داخل الاخباريات العربية الإسلامية عن "إرم" في اطار كونها أخبارا، إذ أن دقة الخبر وصحته في الحدود المألوفة والمتقبلة كخبر لا تعني بالضرورة تسليما بمادته، ولكن هل من الضروري دائما ان تكون الأسطورة صحيحة من وجهة نظرنا لكي نتقبلها؟
ويجيب الربيعي على سؤاله قائلا: يمكن اعطاء جواب غير متوقع في هذا الصدد، لأجل تقبل الأسطورة بوصفها أسطورة لابد من وجود قناعة حقيقية وراسخة بعدم صحتها، إذ لو صحت الأسطورة كواقعة لها تاريخ، أي قابلة لليقين في زمان ومكان فإنها في هذه الحال لن تعود أسطورة، بل تنتقل الى حيزها الطبيعي كخبر تاريخي، وهذا ما لا نفصله، لأنه يجرد الأسطورة من مزاياها الفريدة والخاصة التي تنأى بها عن حقل التاريخ.
ويضيف: لقد ارتأى ابن خلدون في قراءته السوسيولوجية لأسطورة "إرم" وهي قراءة نادرة وذات خصوصية تشجع على انشاء علاقة خلاقة مع التاريخ القديم، ان كل ما يتعلق بهذه الأسطورة هو مجرد "وهم" لأن ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة الفجر في قوله تعالى {ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد} يقوم على تحويل لفظة "إرم" اسما لمدينة وصفت بأنها "ذات عماد" وبرأي ابن خلدون فإن ما حمل المفسرين على صياغة الأسطورة هو صناعة الإعراب، إذ قاموا بإعراب "ذات العماد" على أنها صفة لـ"إرم"، وهذه هي قراءة ابن الزبير أي ان ابن خلدون يرفض حصر الأسطورة في حيز اللغة كمشكلة ويعمل على ابقائها في حيزها الطبيعي، في بيئتها ساعيا في الآن ذاته الى رفضها كواقعة تاريخية، وهذا ما ينسجم تماما مع منهج المسعودي.
ويضيف الربيعي: ثمة أكثر من احتمال قوي أمامنا، بأننا لو سعينا وراء المطابقة بين الخبر ومادته المؤسطرة لتوجب علينا البرهان على ان الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان "مثلا" قد التقى حقا شخصا اسمه عبدالله بن قلابه، وان هذا ضاع فعلا في صحاري عدن، وأنه عثر أخيرا على "إرم"، بل ان هذا سرد على الخليفة في مجلسه أسطورة دخوله الى مدينة من الذهب، وفي هذه الحالة يتوجب علينا ان نقيم البرهان على أنها وجدت بالفعل في عصر معاوية بقايا مدينة عجائبية مصنوعة من الذهب والمعادن الثمينة والأحجار الكريمة، واذا ما سرنا في هذا الاتجاه، الذي قد لا تكون له نهاية فإننا سنواجه سؤالا شائكا يمكن ان ينسف الأساس التاريخي الافتراضي الذي أقمناه، إذ كيف تلاشت هذه المدينة فجأة، كما انبثقت تماما، ولم يعد بوسع البدوي ان يعود اليها ثانية؟!
وكيف يمكن لقارئ التاريخ المعاصر ان يصدق وجود مدينة بمثل هذه الأبهة السحرية، أي المدينة "الجنة" دون ان يكون الخليفة "أمير المؤمنين" الذي افتتحت في عصره معظم وأهم المدينة الأثرية، قادرا على الوصول اليها بينما أمكن في النهاية لبدوي تائه ان يصل اليها ويقطف من ثمارها الذهبية مسكا وزعفرانا ولؤلؤا؟
ويستطرد قائلا: مع ذلك وفي سياق قراءة حذرة من اطلاق احكام قاطعة، فإننا لن نلزم أنفسنا بنفي أي أساس محتمل يمكن ان تكون قد نهضت عليه أسطورة "إرم" هذه، وهناك حاجة ملحة في الواقع لإبداء قدر أكبر من الحصافة عندما يراد على العكس من ذلك، انشاء سلسلة من الأسانيد لدعم ما هو تاريخي محتمل منها، ومن البين تماما في هذا النطاق المحدود من الفكرة ان هناك أساسات تاريخية من نوع ما، وجدت ذات يوم، وساعدت في انشاء أسطورة "إرم" على هذا النحو وأكثر من ذلك، ربما كانت هناك بالفعل أساسات تاريخية لمدينة عرفها العرب في طفولتهم البعيدة، ولكنها تلاشت أو انتقلت مع الوقت في المخيال العربي القديم ثم المخيال العربي الاسلامي من حيزها الواقعي الى حيزها الأسطوري، وهذه الأسطورة لما هو واقع مألوفة في المعتقدات القديمة، فواحدة من أهم وظائف هذه الأسطورة تقديم المساعدة غير المقدرة بثمن، والتي تعطى عادة للمتلهفين والمتعطشين لفهم ألغاز الماضي، لاسترداد شيء ما يخصهم ما كان بالإمكان ابداء استرداده بأي صورة من الصور.
ويضيف الربيعي: إن "إرم" من وجهة نظرنا تنطوي على دلالات تتجاوز في الواقع حتى حدودها كأسطورة عربية، وهذا ما نراه عندما نربط بين تيه الأعرابي وتيه بني اسرائيل.