كنا نتحدث في الأشهر الأخيرة عن القنوات الفضائية التي تؤصل لتغييب الفكر، قنوات تمارس الشعوذة علنا، ويتفنن مقدموها بتقديم أسخف ألاعيب التنجيم والسحر الصريح. يتواصل معها أصوات من بلاد الحرمين بكل أسف، ومن بلاد الإسلام كافة. تلك تطلب إصلاح حال زوجها، ذاك يطلب الشفاء، ويتوسلون ببشر تافهين شكلا ومضمونا، فلا يخفى على أحد ما ينعكس على وجه ممارسي السحر والشعوذة والتنجيم من علامات مسخ الروح وموت الضمير، والغياب التام في كفوف الشيطان، قنوات تحصد أموال الناس قبل عقولهم، أو عقولهم قبل أموالهم.
لكن الأخطر من تلك القنوات –على خطرها العقدي- قنوات أخرى تمارس نوعا آخر من الشعوذة، ما تسمى بالقنوات السياسية المتحدثة بالعربية، التي تعمل وفق مخطط دقيق طويل المدى، لتأسيس ذاكرة جمعية موجهة، يتم تفريغها تدريجيا من كل ما هو يقيني، من كل ما هو واضح ومعقول. باستغلال نقاط الضعف البارزة لدى المتلقي العربي، الذي لا يقرأ، وإن قرأ لا يفكر، وإن فكر لايجد أرضا صالحة للحوار المنتج. قنوات تقوم بخلخلة مستمرة للذاكرة المشروخة، تنتهي إلى هز ثقة المتلقي بذاته، ومن ثم اختيار موقف الحياد الدائم من أي قضية، ومع الزمن يجد نفسه بلا تاريخ، وبالتالي يعجز عن اتخاذ قرار شخصي ومستقل في المستقبل، فهو دائما “شاهد ما شافش حاجة”، حتى لو كانت هذه الحاجة هي حاجاته الفكرية والروحية الخاصة، التي تقوم عليها أدق قرارات مستقبله.. يخاف من تحمل المسؤولية عن أي قرار، ومقولته التي يمارسها مع الجميع ابتداء من أسرته إلى رب عمله، وهذا المواطن لا يصلح لأن يبني وطنا وهو العاجز عن بناء ذاته.
كيف نواجه هذه التعبئة المستمرة ضد الشخصية العربية المهددة بالانقراض؟ أيكون ذلك بالتعليم المفرغ من التخطيط الجاد لبناء الشخصية، سوى من أطر شكلية مكتوبة غير منفذة؟ وليتها مكتوبة بشكل مقنع، فمقولات مثل الأنشطة اللامنهجية وإذاعات الصباح والأندية الطلابية .. إلخ، من يمكنه الإعلان بثقة عن نتائج مقنعة لكل هذا؟ فضلا على كونها في غالبها مجهودات تضاف إلى المعلمين فوق عبئهم الدراسي فتكون محض وسيلة للحفاظ على التقدير الوظيفي، ولا تحقق المطلوب منها. أين الأقسام المتخصصة في التخطيط لمثل هذا الهدف الخطير، في وزارة التربية والتعليم؟ وعفوا، كتب آداب السلوك والتربية الوطنية لا تسد الرمق، فقيم الشخصية ومكوناتها أمر مختلف عن حب الوالدين واحترام الكبير وآداب الاستئذان، ولن أستشهد بشواهد من كتب غربية ولا شرقية، على الرغم من أن نظريات التربية والتفكير نضجت اليوم بشكل لا مثيل له، وتجاوزت مرحلة توظيفها الداخلي، ليتم استعمالها سلاحا يسخر الآخرين ويحركهم عن بعد بقمر صغير لا يكلف تكلفة تقدر، إلا أنه ينشر العتمة بدل النور.
لقد استغرق رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أربعين سنة، حتى خرج من كل تلك التجارب والمحن بتلك الشخصية الفذة، التي أعجزت أعداءه عن تحديها بالنظير؛ فلجأوا لأساليب الضعيف الذي يرمي الحصى من بعيد ويجري. وكم مكث عليه السلام يربي في أصحابه (الصديق)، و(الفاروق)، و(سيف الله المسلول)، و(أمين الأمة)، و(حبرها)؟ كان يقول لهذا ما لا يقول لذاك، ويؤاخذ الواحد بما لا يؤاخذ به الآخر، كلٌّ بحسب ما وهبه الله من مواهب، فيوجههم وجهات مختلفة، كل واحد منهم بناء لوحده، أركانا بنى عليها دولة وتاريخا لا مثيل له ولن يكون. فكيف استفدنا من منهجه الفذ لصنع نظريتنا الخاصة في صناعة الشخصية؟ ولقد كتب الدكتور عبد الله البريدي في جريدة المدينة الخميس الماضي، عما يسمى بمفكري المستوى الثالث، وهم الذين يعملون في مجال نظريات التفكير ومناهجه، والتخطيط لها ولتنفيذها، وأعجبتني ملاحظة هامة تفضل بها الدكتور، وهي أننا ينبغي ألا تأخذنا فتنة الألقاب، فنحصر أنفسنا في التنافس على لقب الأول والثاني، أو ننخدع بالمنجزات الفردية فنحسب أنفسنا لمسنا القمة حين يفوز باحث ما بجائزة دولية أو براءة اختراع. ينبغي بدلا من ذلك أن نهتم ببناء الذكاء الجمعي، تأسيس بيئة قادرة على أن تنبت الأذكياء، كلما غرس فيها البذار، لا أن تذبل الثمار الناضجة وتقتل جينات الإبداع فيها. مثل هذا التصريح من باحثين متخصصين ينبغي ألا يهمل، وأن يؤخذ في الاعتبار لدى تطوير المناهج وخطط التعليم، وأرجوكم، نريد أن تكون الخطة خطة، لا مجرد (كروكي) لجلسات واجتماعات وألقاب ومناصب وأوراق عمل مستهلكة من غير أهلها وفي غير محلها. والله الموفق.
asma@alzahrani.com
للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 103 مسافة ثم الرسالة
لكن الأخطر من تلك القنوات –على خطرها العقدي- قنوات أخرى تمارس نوعا آخر من الشعوذة، ما تسمى بالقنوات السياسية المتحدثة بالعربية، التي تعمل وفق مخطط دقيق طويل المدى، لتأسيس ذاكرة جمعية موجهة، يتم تفريغها تدريجيا من كل ما هو يقيني، من كل ما هو واضح ومعقول. باستغلال نقاط الضعف البارزة لدى المتلقي العربي، الذي لا يقرأ، وإن قرأ لا يفكر، وإن فكر لايجد أرضا صالحة للحوار المنتج. قنوات تقوم بخلخلة مستمرة للذاكرة المشروخة، تنتهي إلى هز ثقة المتلقي بذاته، ومن ثم اختيار موقف الحياد الدائم من أي قضية، ومع الزمن يجد نفسه بلا تاريخ، وبالتالي يعجز عن اتخاذ قرار شخصي ومستقل في المستقبل، فهو دائما “شاهد ما شافش حاجة”، حتى لو كانت هذه الحاجة هي حاجاته الفكرية والروحية الخاصة، التي تقوم عليها أدق قرارات مستقبله.. يخاف من تحمل المسؤولية عن أي قرار، ومقولته التي يمارسها مع الجميع ابتداء من أسرته إلى رب عمله، وهذا المواطن لا يصلح لأن يبني وطنا وهو العاجز عن بناء ذاته.
كيف نواجه هذه التعبئة المستمرة ضد الشخصية العربية المهددة بالانقراض؟ أيكون ذلك بالتعليم المفرغ من التخطيط الجاد لبناء الشخصية، سوى من أطر شكلية مكتوبة غير منفذة؟ وليتها مكتوبة بشكل مقنع، فمقولات مثل الأنشطة اللامنهجية وإذاعات الصباح والأندية الطلابية .. إلخ، من يمكنه الإعلان بثقة عن نتائج مقنعة لكل هذا؟ فضلا على كونها في غالبها مجهودات تضاف إلى المعلمين فوق عبئهم الدراسي فتكون محض وسيلة للحفاظ على التقدير الوظيفي، ولا تحقق المطلوب منها. أين الأقسام المتخصصة في التخطيط لمثل هذا الهدف الخطير، في وزارة التربية والتعليم؟ وعفوا، كتب آداب السلوك والتربية الوطنية لا تسد الرمق، فقيم الشخصية ومكوناتها أمر مختلف عن حب الوالدين واحترام الكبير وآداب الاستئذان، ولن أستشهد بشواهد من كتب غربية ولا شرقية، على الرغم من أن نظريات التربية والتفكير نضجت اليوم بشكل لا مثيل له، وتجاوزت مرحلة توظيفها الداخلي، ليتم استعمالها سلاحا يسخر الآخرين ويحركهم عن بعد بقمر صغير لا يكلف تكلفة تقدر، إلا أنه ينشر العتمة بدل النور.
لقد استغرق رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أربعين سنة، حتى خرج من كل تلك التجارب والمحن بتلك الشخصية الفذة، التي أعجزت أعداءه عن تحديها بالنظير؛ فلجأوا لأساليب الضعيف الذي يرمي الحصى من بعيد ويجري. وكم مكث عليه السلام يربي في أصحابه (الصديق)، و(الفاروق)، و(سيف الله المسلول)، و(أمين الأمة)، و(حبرها)؟ كان يقول لهذا ما لا يقول لذاك، ويؤاخذ الواحد بما لا يؤاخذ به الآخر، كلٌّ بحسب ما وهبه الله من مواهب، فيوجههم وجهات مختلفة، كل واحد منهم بناء لوحده، أركانا بنى عليها دولة وتاريخا لا مثيل له ولن يكون. فكيف استفدنا من منهجه الفذ لصنع نظريتنا الخاصة في صناعة الشخصية؟ ولقد كتب الدكتور عبد الله البريدي في جريدة المدينة الخميس الماضي، عما يسمى بمفكري المستوى الثالث، وهم الذين يعملون في مجال نظريات التفكير ومناهجه، والتخطيط لها ولتنفيذها، وأعجبتني ملاحظة هامة تفضل بها الدكتور، وهي أننا ينبغي ألا تأخذنا فتنة الألقاب، فنحصر أنفسنا في التنافس على لقب الأول والثاني، أو ننخدع بالمنجزات الفردية فنحسب أنفسنا لمسنا القمة حين يفوز باحث ما بجائزة دولية أو براءة اختراع. ينبغي بدلا من ذلك أن نهتم ببناء الذكاء الجمعي، تأسيس بيئة قادرة على أن تنبت الأذكياء، كلما غرس فيها البذار، لا أن تذبل الثمار الناضجة وتقتل جينات الإبداع فيها. مثل هذا التصريح من باحثين متخصصين ينبغي ألا يهمل، وأن يؤخذ في الاعتبار لدى تطوير المناهج وخطط التعليم، وأرجوكم، نريد أن تكون الخطة خطة، لا مجرد (كروكي) لجلسات واجتماعات وألقاب ومناصب وأوراق عمل مستهلكة من غير أهلها وفي غير محلها. والله الموفق.
asma@alzahrani.com
للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 103 مسافة ثم الرسالة