-A +A
كاظم الشبيب
تجود الحياة على البشر بالرجال النادرين. عقولهم كقلوبهم مليئة بالحكمة المضيئة. مواقفهم ثابتة بالقيم الراسخة في السمو والمثالية العملية. لا يمكن تجاوز اسم نيلسون مانديلا عند البحث عن أمثال هؤلاء في وقتنا الحاضر. من أهم صفاتهم, من السابقين عبر العصور والمعاصرين, ميلهم للسلم والسلام, سواء كانوا علماء أو سياسيين, حكامًا أو محكومين, وإذا اضطرتهم الظروف أن يكونوا في صفوف المعارضة, كما حصل مع مانديلا أيام حكومة جنوب أفريقيا العنصرية, فإنهم يدفعون أنصارهم نحو العصيان المدني والمواجهة السلمية بعيداً عن الاستجابة للمنادين بالعنف المسلح, بل يسعون لترشيده.
بين السلم والحرب تتلخص شخصيته الكاريزمية المتميزة. وكم يحتاج عالمنا المضطرب بالأحداث والحروب إلى نماذج تمثل السلم والسلام في عالم تتوالد فيه شخصيات العنف والحروب كما تتوالد الجرذان في كل أنحاء المعمورة؟ بينما يجسد مانديلا السلام في سلوكه ومواقفه, سواء في محيطه الضيق تجاه المقربين أو مقابل المنافسين. لذا من البديهي أن يحصل على جائزة نوبل للسلام عام 1993، وفي 2005 اختارته الأمم المتحدة سفيراً للنوايا الحسنة.
انطلقت نهاية الأسبوع الماضي احتفالات ليلية في بريطانيا في ذكرى ميلاده التسعين. خصص ريعها للمؤسسة الخيرية والإنسانية التي تحمل اسمه و المهتمة بضحايا مرض نقص المناعة المكتسبة. حضرها نجوم من المشاهير في الرياضة والفن والاقتصاد والسياسة, بل بعضهم تتناقض شخصياتهم وتاريخهم مع ما يمثله مانديلا من قيم إنسانية متحضرة. غلب على الجميع الانبهار والإعجاب بشخصيته, بل تنافسوا في الثناء عليه والحديث عنه, مما دفع بالإعلامية الأمريكية اوبرا وينفري للقول: “ لا أعرف أحدا في هذا العالم يستحق هذا التكريم, ولا يجتمع هذا العدد من الناس حوله لشكره على ما قدمه للعالم”.
مواقفه تعبر عن مكامن الخير والسلام في شخصيته, منها: أعاد تأسيس دولة جنوب أفريقيا على أسس ديمقراطية بعد حكم عنصري دام عقودًا طويلة. شغل مانديلا منصب رئاسة المجلس الإفريقي, من يونيو 1991- إلى ديسمبر 1997، وأصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا, من مايو 1994- إلى يونيو 1999. وخلال فترة حكمه شهدت جنوب إفريقيا انتقالاً كبيراً من حكم الأقلية إلى حكم الأغلبية.
شارك في مفاوضات للمعالجة السلمية لبعض الملفات الساخنة في بعض الدول الأفريقية مثل مفاوضات السلام في الكونغو الديمقراطية وبوروندي. وربما يتذكر البعض رفضه استقبال جورج بوش الابن عندما زار الأخير جنوب أفريقيا احتجاجاً على سياسة الرئيس بوش تجاه العراق. أطلق عام 2005 مبادرة لمكافحة الفقر في العالم وإعفاء الدول النامية من الديون...وقد تابع بعد تقاعده في 1999 تحركه مع الجمعيات والحركات المنادية بحقوق الإنسان حول العالم. وتلقى عددا كبيرا من الميداليات والتكريم من رؤساء وزعماء دول العالم. فمن الطبيعي أن يتحول هذا الرقم “46664” الذي يعرفه المتابعون لحياته, إلى شعار لاحتفالات لندن إذ يمثل ثلث عمره الذي قضاه في الزنزانة التي تحمل هذا الرقم.
احتياجنا لمعرفة مانديلا نابع من حاجتنا للسلام فهماً وواقعاً في الاجتماع والسياسية. لذا يمكننا معرفة جوانب واسعة من شخصيته وأفكاره ومواقفه السياسية والإنسانية عبر مطالعة مذكراته الدسمة والجميلة: “رحلتي الطويلة من أجل الحرية” التي تحكي إيمانه الصادق بحقوق أمته وصلابته في المطالبة بها, والأهم, تسامحه مع أعداء الأمس وصفحه عنهم. فهل نتعلم منه بعضاً من دروس الماضي والحاضر؟
kshabi@hotmail.com

للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 141 مسافة ثم الرسالة