وقعت الأسابيع الماضية تطورات جديدة في القضية الليبية أدت إلى التوتر ومثّلت خطراً حقيقياً لاندلاع حرب ذات أبعاد داخليّة وخارجيّة ومجهولة المدى والخسائر البشرية والماديّة.
كانت الساحة الليبية منذ أواخر سنة 2011 تتسم بعدم الاستقرار والعنف والانفصام الداخلي واندثار الدولة ولكن تداخل المصالح للأطراف الخارجيّة في ليبيا حقق نوعاً من الاستقرار الهش والتعايش الحذر بين شرق ليبيا وغربها، وبقيت السلطة في غرب ليبيا منحصرة في أيادي حكومة ضعيفة، ولكنّها تحظى بنوع من الشرعيّة الدولية بينما ظل شرق ليبيا منسلخاً عن سلطة طرابلس وغير معترف بشرعيّتها الداخليّة.
ورغم المحاولات الخافتة لرأب الصدع بين الشقين فإنّه لم يتحقق أيّ تقدّم لا سياسياً ولا مؤسساتياً، ذلك أنّ الأطماع في ليبيا وفي ثرواتها وجدت في الأطراف الداخليّة المتنازعة إسناداً واصطفافاً زاد الحل السياسي تعقيداً وأدى إلى تأجيج أخطار الصراع العسكري.
لقد كانت القوى السياسية في انشغال كبير بالوضع في سوريا. ولكن الهدوء النسبي في سوريا في الأشهر الأخيرة جعل الأنظار تتحول إلى ليبيا وكان من المتوقع أن تتواصل الجهود من أجل حل سياسي لكن مثّل التدخل التركي الأخير في ليبيا عامل مفاجأة خطيراً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، إذ انتهجت تركيا سياسة فرض الأمر الواقع بتوقيع الرئيس التركي أردوغان، في 27 نوفمبر 2019، اتفاقيتي تفاهم مع رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبي السراج، تتعلق أوّلاهما بالتعاون الأمني والعسكري، فيما تتعلّق الثانية بترسيم الحدود البحرية بين البلدين.
أما المعاهدة العسكريّة فإنّها تسمح لتركيا بتزويد حكومة طرابلس بالسلاح والعناصر المجنّدة للحرب إلى جانب جنود السراج لمواجهة قوات حفتر التي تحاول السيطرة على طرابلس. وبدأ هذا الاتفاق يأخذ أبعاداً متسارعة خاصّة بعد موافقة البرلمان التركي على التدخل العسكري التركي في ليبيا لمنع قوات حفتر من السيطرة على طرابلس.
إنّ هذا التدخل لا يمثّل خطراً من شأنه تصعيد النزاع بين الليبيين فحسب، بل يتسبّب أيضاً في تدويل النزاع العسكري في ليبيا، إذ إنّ الأطراف الدوليّة الأخرى لن تترك هذا التدخل دون رد خاصّة أنّ عدداً من المرتزقة والإرهابيين والمتطرفين يبدو أنّهم في طريقهم إلى ليبيا وبدأوا الانتشار فيها تحت الراية التركيّة. كما أنّ هذا التدخل قد يمثّل سبباً قوياً لزعزعة التوازنات السياسية والعسكرية في دول المغرب العربي وخاصة منها تونس والجزائر وفرقعة التواصل الجغرافي والحضاري للعالم العربي والإسلامي وكذلك انفصاماً بين المشرق والمغرب العربيين ونتائج وخيمة على اقتصاد واستقرار الدول العربية.
لذا يتّجه استحثاث الدول العربية واستنهاض مؤسساتها ومنها الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي لتوحيد مواقفها إزاء هذا التدخل وقطع الطريق على تركيا في ملاحقة سراب استرجاع الهيمنة العثمانية واتّخاذ القرارات الواضحة للتصدي لانتهاك تركيا لسيادة واستقلال دولة عربية وتهديد جيرانها وهو ما يتنافى مع مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
أمّا معاهدة ترسيم الحدود البحريّة فهي محاولة لابتزاز ثروات الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من المحروقات والغاز الطبيعي والثروات البحرية المعدنية الأخرى. إن إرسال تركيا لجيشها هو تنافس مع الاتحاد الأوروبي حول الثروات. إن مصالح أردوغان ستكون على حساب المغرب العربي بأكمله كما أنّ التحرك العسكري التركي في ليبيا يعني نشوب حرب في المغرب العربي وليس فقط ليبيا.
إن هذا الاتّفاق لا يستجيب لمواصفات القانون الدولي للمعاهدات ومنها اتّفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969 التي تنص على أنّ أي معاهدة تمضى تحت الإكراه تعتبر لاغية. ومعلوم أنّ السراج لم يوقع هذه الاتفاقية إلاّ رغبة في تدخّل تركيا لمناصرته ضدّ قوات حفتر وتحت إكراهات سياسية وعسكريّة فئويّة. كما أنّ اختصاص السراج لتوقيع هذه المعاهدة أو غيرها يبدو مهزوزاً بدرجة كبيرة لأنّ حكومته لا تنبني على أيّة شرعيّة وطنية داخلية انتخابياً أو دستوريّاً.
كما واجهت هذه المعاهدة معارضة من طرف الدول المطلة على الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وخاصّة منها مصر واليونان وقبرص وفرنسا وإيطاليا الّتي تعتبرها استيلاء على ثروات ليبيا من طرف تركيا بتواطؤ من حكومة طرابلس وتهدّد خط تزويد الدول الأوروبية بالطاقة الممتد في البحر الأبيض المتوسط على مسافة 1870 كم.
إنّ التدخل التركي في الصراع الليبي عسكريّاً من شأنه تهديد تماسك الأمن القومي العربي وتفجير نزاعٍ عسكريّ داخل الصف العربي قد تكون آثاره كارثية وسيزيد من تعقيدات المشهد السياسي الإقليمي، وتعدّ واضح على الشرعية الدولية، ولن يمثّل خطوة لحل الأزمة الليبية.
إذ ليس من مصلحة الدول العربية أن تتزعزع أنظمتها ويربك أمنها من طرف إرهابيين ومتطرفين قد يقع حشرهم بتعلة هذا التدخل. هناك خطر حقيقي في أن تدور على الأراضي العربية حرب عالمية مقنعة أو مكشوفة يمثّل التدخل التركي في ليبيا بوّابتها الأساسية.
أستاذ القانون الدولي والعقوبات الاقتصادية
جامعة جدة، كلية القانون والدراسات القضائية
كانت الساحة الليبية منذ أواخر سنة 2011 تتسم بعدم الاستقرار والعنف والانفصام الداخلي واندثار الدولة ولكن تداخل المصالح للأطراف الخارجيّة في ليبيا حقق نوعاً من الاستقرار الهش والتعايش الحذر بين شرق ليبيا وغربها، وبقيت السلطة في غرب ليبيا منحصرة في أيادي حكومة ضعيفة، ولكنّها تحظى بنوع من الشرعيّة الدولية بينما ظل شرق ليبيا منسلخاً عن سلطة طرابلس وغير معترف بشرعيّتها الداخليّة.
ورغم المحاولات الخافتة لرأب الصدع بين الشقين فإنّه لم يتحقق أيّ تقدّم لا سياسياً ولا مؤسساتياً، ذلك أنّ الأطماع في ليبيا وفي ثرواتها وجدت في الأطراف الداخليّة المتنازعة إسناداً واصطفافاً زاد الحل السياسي تعقيداً وأدى إلى تأجيج أخطار الصراع العسكري.
لقد كانت القوى السياسية في انشغال كبير بالوضع في سوريا. ولكن الهدوء النسبي في سوريا في الأشهر الأخيرة جعل الأنظار تتحول إلى ليبيا وكان من المتوقع أن تتواصل الجهود من أجل حل سياسي لكن مثّل التدخل التركي الأخير في ليبيا عامل مفاجأة خطيراً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، إذ انتهجت تركيا سياسة فرض الأمر الواقع بتوقيع الرئيس التركي أردوغان، في 27 نوفمبر 2019، اتفاقيتي تفاهم مع رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبي السراج، تتعلق أوّلاهما بالتعاون الأمني والعسكري، فيما تتعلّق الثانية بترسيم الحدود البحرية بين البلدين.
أما المعاهدة العسكريّة فإنّها تسمح لتركيا بتزويد حكومة طرابلس بالسلاح والعناصر المجنّدة للحرب إلى جانب جنود السراج لمواجهة قوات حفتر التي تحاول السيطرة على طرابلس. وبدأ هذا الاتفاق يأخذ أبعاداً متسارعة خاصّة بعد موافقة البرلمان التركي على التدخل العسكري التركي في ليبيا لمنع قوات حفتر من السيطرة على طرابلس.
إنّ هذا التدخل لا يمثّل خطراً من شأنه تصعيد النزاع بين الليبيين فحسب، بل يتسبّب أيضاً في تدويل النزاع العسكري في ليبيا، إذ إنّ الأطراف الدوليّة الأخرى لن تترك هذا التدخل دون رد خاصّة أنّ عدداً من المرتزقة والإرهابيين والمتطرفين يبدو أنّهم في طريقهم إلى ليبيا وبدأوا الانتشار فيها تحت الراية التركيّة. كما أنّ هذا التدخل قد يمثّل سبباً قوياً لزعزعة التوازنات السياسية والعسكرية في دول المغرب العربي وخاصة منها تونس والجزائر وفرقعة التواصل الجغرافي والحضاري للعالم العربي والإسلامي وكذلك انفصاماً بين المشرق والمغرب العربيين ونتائج وخيمة على اقتصاد واستقرار الدول العربية.
لذا يتّجه استحثاث الدول العربية واستنهاض مؤسساتها ومنها الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي لتوحيد مواقفها إزاء هذا التدخل وقطع الطريق على تركيا في ملاحقة سراب استرجاع الهيمنة العثمانية واتّخاذ القرارات الواضحة للتصدي لانتهاك تركيا لسيادة واستقلال دولة عربية وتهديد جيرانها وهو ما يتنافى مع مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
أمّا معاهدة ترسيم الحدود البحريّة فهي محاولة لابتزاز ثروات الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من المحروقات والغاز الطبيعي والثروات البحرية المعدنية الأخرى. إن إرسال تركيا لجيشها هو تنافس مع الاتحاد الأوروبي حول الثروات. إن مصالح أردوغان ستكون على حساب المغرب العربي بأكمله كما أنّ التحرك العسكري التركي في ليبيا يعني نشوب حرب في المغرب العربي وليس فقط ليبيا.
إن هذا الاتّفاق لا يستجيب لمواصفات القانون الدولي للمعاهدات ومنها اتّفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969 التي تنص على أنّ أي معاهدة تمضى تحت الإكراه تعتبر لاغية. ومعلوم أنّ السراج لم يوقع هذه الاتفاقية إلاّ رغبة في تدخّل تركيا لمناصرته ضدّ قوات حفتر وتحت إكراهات سياسية وعسكريّة فئويّة. كما أنّ اختصاص السراج لتوقيع هذه المعاهدة أو غيرها يبدو مهزوزاً بدرجة كبيرة لأنّ حكومته لا تنبني على أيّة شرعيّة وطنية داخلية انتخابياً أو دستوريّاً.
كما واجهت هذه المعاهدة معارضة من طرف الدول المطلة على الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وخاصّة منها مصر واليونان وقبرص وفرنسا وإيطاليا الّتي تعتبرها استيلاء على ثروات ليبيا من طرف تركيا بتواطؤ من حكومة طرابلس وتهدّد خط تزويد الدول الأوروبية بالطاقة الممتد في البحر الأبيض المتوسط على مسافة 1870 كم.
إنّ التدخل التركي في الصراع الليبي عسكريّاً من شأنه تهديد تماسك الأمن القومي العربي وتفجير نزاعٍ عسكريّ داخل الصف العربي قد تكون آثاره كارثية وسيزيد من تعقيدات المشهد السياسي الإقليمي، وتعدّ واضح على الشرعية الدولية، ولن يمثّل خطوة لحل الأزمة الليبية.
إذ ليس من مصلحة الدول العربية أن تتزعزع أنظمتها ويربك أمنها من طرف إرهابيين ومتطرفين قد يقع حشرهم بتعلة هذا التدخل. هناك خطر حقيقي في أن تدور على الأراضي العربية حرب عالمية مقنعة أو مكشوفة يمثّل التدخل التركي في ليبيا بوّابتها الأساسية.
أستاذ القانون الدولي والعقوبات الاقتصادية
جامعة جدة، كلية القانون والدراسات القضائية