رغم الجهود المبذولة من قبل وزارة الشؤون البلدية والقروية وأمانات المدن ولجانها التي تعمل على مراجعة وإزالة أسماء الشوارع غير المناسبة، إلا أن هذه القضية لا تزال تفاجئنا من حين إلى آخر بظهور أسماء تثير جدلاً واسعاً في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي مثل «مسيلمة» و«أبرهة» و«النازية» و«أبو بكر البغدادي» وغيرها من الأسماء المستهجنة التي أطلقت على شوارعنا وأصابت الكثير منا بالذهول وتثير التساؤل حول أسباب اعتمادها وما إذا تمت مراجعتها بدقة، وما هي الحقيقة وراء تلك التسميات. ولا تزال قضية الأسماء الجدلية لبعض الشوارع متجددة منذ عقود، ويشتعل فتيل أزماتها مع استمرار ظهور أو اكتشاف الأسماء غير الملائمة من حين إلى آخر، ورغم أن وزارة الشؤون البلدية والقروية تنبهت إلى هذه القضية منذ 35 عاماً، حين اعتمدت إنشاء لجان تسمية وترقيم تتبع الأمانات منذ العام 1406، إضافة إلى الاسترشاد لاحقاً بمعجم أسماء الشوارع والميادين الذي أصدرته أمانة الرياض عام 1418، وشارك في إعداده نخبة من الأكاديميين والمؤرخين والأدباء، إلا أن هناك مكامن للخلل أوجدت تسميات لا يقبلها العقل والمنطق، إضافة إلى أسماء أخرى مبهمة لا تحمل معنى ولا قيمة ولا تاريخا. بعض هذه التسميات المثيرة للجدل جاءت نتيجة ملابسات ظرفية مثل الأزمة السياسية مع قطر وتصنيف جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية، إلا أن هناك تسميات أخرى مستهجنة لا يرتبط الجدل حول اختيارها بملابسات طرأت عليها في أزمان لاحقة، مثل إطلاق اسم «عامر بن الطفيل» على أحد الشوارع، وهو شخصية تآمرت على الرسول وناهضت الإسلام، ولا يمكن أن يقبل عاقل إطلاق هذا الاسم على أحد شوارعنا، لا شك لدينا أنها على الأرجح أخطاء غير مقصودة، وعادة ما ينتهي الأمر بإزالة لوحة اسم الشارع واستبداله بآخر، ولكن ظهور هذه التسميات يثير قريحة التساؤلات المتعلقة بكيفية اختيار هذه الأسماء. في هذا التقرير، «عكاظ» تنقب عن الحقيقة لتجيب عن كثير من هذه التساؤلات العالقة.
إزالة اسم سارق الحجر الأسود
تكرر الجدل حول أسماء الشوارع أخيراً بعد إزالة اسم السلطان العثماني سليمان القانوني من أحد شوارع العاصمة الرياض، وهو بلا شك إجراء صائب وفي محله حتى وإن جاء متأخراً، فهذا السلطان العثماني مسؤول عن سرقة أكثر من 6 قطع من الحجر الأسود على أيدي بعض العمالة الذين شاركوا في عمليات ترميم وصيانة الحرم المكي في القرن السادس عشر، بعد أن قاموا بنقلها إلى الأستانة عاصمة الدولة العثمانية آنذاك وتسليمها للسلطان سليمان القانوني، الذي احتفظ بها بدلاً من رد الأمانات إلى أصحابها، وإحدى هذه القطع المسروقة قام المعماري العثماني سنان بتثبيتها على ضريح القانوني في إسطنبول.
والتاريخ يشهد له أيضاً الجريمة الشنعاء التي ارتكبها بحق ابنه البكر وولي عهد الأميرة شاه زاده مصطفى وحفيده الرضيع بعد أن أمر بقتلهما من أجل أن يخلفه أحد أبنائه من زوجته المفضلة روكسلان، وينسب له أيضاً إقراره للقانون المعروف بـ«سنجق الغجر» عام 1531، وهو مرسوم ينص على تحصيل رسوم قدرها 100 آقجة شهرياً من العاملات في هذا المجال في مناطق أدرنة وصوفيا وفيلبا، وقبل عام من وفاته أصدر فرماناً يسمح بتسجيل البغايا ضمن طائفة الراقصات لتسهيل إجراءات العمل في هذا النشاط، وجاء ذلك القرار بتوصية من الصدر الأعظم محمد صقولو باشا، فكيف بعد كل هذه الموبقات التي ارتكبها أن يتم الاحتفاء به وتخليد ذكراه.
وأياً كان الجدل في هذه القضية التي حاول الإعلام التركي توظيفها في سياق الأدلجة السياسية التي ينتهجها الرئيس التركي رجب أردوغان لتوسعة نفوذه في المنطقة ومحاولاته البائسة لتلميع التاريخ العثماني، فإن مسألة إزالة أسماء الشوارع تظل حقاً سيادياً للدولة، وتوجد أمثلة كثيرة مشابهة في العالم، فقد سبق وأن أزالت السلطات في جمهورية مصر الشقيقة اسم السلطان العثماني سليم الأول من أحد شوارع العاصمة القاهرة في فبراير 2018، وذلك بعد التقرير الذي رفعه أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان الدكتور محمد الدالي، وسلط الضوء من خلاله على بعض الحقائق التاريخية التي تفرض إزالة اسمه، مشدداً على أنه لا يصح تسمية أحد شوارع مصر على اسم أول مستعمر للبلاد وقيامه بتحويلها إلى ولاية عثمانية، هذا بالإضافة إلى أن سليم الأول قتل آلاف المصريين خلال دفاعهم المشروع عن أراضيهم، وقام كذلك بحل الجيش المصري بعد أن قتل طومان باي آخر سلاطين المماليك. وفي مثال آخر، أقر رئيس أوكرانيا السابق بترو بوروشينكو في العام 2015 إزالة 1320 معلماً لرئيس الاتحاد السوفييتي وزعيم الثورة الشيوعية لينين، وذلك بهدف تخليص بلاده من الآثار السلبية التي خلفتها الثورة البلشفية، وشمل القانون الذي أقره بوروشينكو إعادة تسمية الشوارع والمدن بأسماء وطنية. وفي 9 يونيو الماضي، أزالت بريطانيا تمثال الاسكتلندي روبرت ميلغا، أحد أشهر تجار الرقيق في القرن الثامن عشر، من أمام متحف دوكلاندز في العاصمة لندن، وأوضح حينها عمدة لندن صادق خان، أن «التماثيل التي لها روابط بالرق يجب إزالتها»، في إشارة واضحة إلى أنها رمز للعنصرية ولا يصح وجودها بعد تجريم العبودية. وهناك العديد من الأمثلة المشابهة التي لا يسع المقام لحصرها في هذا الحيز، ولكن استشهدنا ببعض منها كمثال على وجود مثل هذه الأخطاء المتعلقة بتسمية الشوارع والمعالم التي تم تصحيحها في أزمنة لاحقة، بعد أن كشفت المراجعات التاريخية وجوب إزالتها.
أسماء تثير التساؤلات
كان أمراً مثيراً للجدل تسمية بعض شوارع المدن في المملكة بأسماء بعض رموز جماعة الإخوان الإرهابية مثل سيد قطب ويوسف القرضاوي وحسن الهضيبي وغيرهم، وبخلاف أن تصنيف المملكة لجماعة الإخوان كمنظمة إرهابية حدث في العام 2014، إلا أن اختيار هذه الأسماء يتعارض مع آلية تسميات الشوارع والميادين التي اعتمدها مجلس الوزراء في قراره رقم 155 بتاريخ 21/07/1406، حيث يوضح المشروع الذي اعتمده مجلس الوزراء حينها أن مصادر التسميات تتكون من أسماء 9 مجموعات وهي:
1- الصحابة والخلفاء الراشدون وأمهات المؤمنين والتابعون.
2- قادة العرب والمسلمين خلال التاريخ الإسلامي.
3- الملوك والأمراء المشهورون من أبناء الأسرة المالكة.
4- الأئمة والفقهاء والمحدثون.
5- أشهر المعارك في التاريخ الإسلامي.
6- العلماء والشعراء والأدباء منذ العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث.
7- قادة دول مجلس التعاون الخليجي.
8- المدن والقرى السعودية والعربية والإسلامية.
9- الأودية والأنهار والجبال في المملكة وفي البلاد العربية والإسلامية.
لذلك كانت تسمية بعض الشوارع بأسماء شخصيات قيادية في تنظيم الإخوان الإرهابي لا تتوافق مع اللوائح المعتمدة في آلية التسمية قبل تصنيف الجماعة كتنظيم إرهابي بنحو 30 عاماً، كما أن مشروع معجم أسماء الشوارع والميادين الذي تم الاسترشاد به أكد أن تطبيق عملية اختيار الأسماء من كل مجموعة روعيت فيه الأهمية والقدم والملاءمة مع المكان المسمى وأن الاختيار تم بأسلوب علمي يستند إلى مصادر موثوقة، وبالتالي فإن هذا التساؤل يوجه إلى الأمانات واللجان التي اعتمدت مثل تلك الأسماء خارج نطاق الآليات المتبعة.
البغدادي و«النازية».. تشابه أسماء
ومن الأمور التي لم تكن في الحسبان وجود شارع يحمل اسم زعيم تنظيم داعش الإرهابي سابقاً «أبي بكر البغدادي» في حي المروج بالعاصمة الرياض، وهو ما أثار جدلاً واسعاً في وسائل التواصل الاجتماعي وعبر العديد من وسائل الإعلام والمواقع الغربية التي تداولت الخبر في 2016 بعد تداول صور لافتة الشارع الذي يحمل اسم الإرهابي البغدادي، ولكن بعد البحث في «معجم أسماء شوارع مدينة الرياض وميادينها» الصادر في 1418هـ، المرجع الذي تسترشد به الأمانة في اختيار أسماء الشوارع، اتضح أن المقصود كما هو موضح في الجزء الأول من المعجم صفحة 193، هو عالم الأنساب محمد بن عبدالغني بن أبي بكر الحنبلي البغدادي المتوفى سنة 629 للهجرة.
وفي ذات السياق، أثيرت تساؤلات حول شارع يحمل اسم «النازية»، فاتضح بحسب ما جاء في الجزء الأول من «معجم أسماء الشوارع» (صفحة 504) أنه يرمز لاسم منطقة في المسيجيد بمنطقة المدينة المنورة، وهو ما يتسق مع منهجيات تسمية الشوارع التي تعتمد ضمن مصادر التسميات أسماء المعالم والمناطق الجغرافية، وأضيف في المعجم بأن مسمى «النازية» يعود أيضاً إلى «حزب سياسي عنصري في ألمانيا وأوروبا»، ولم تقدم لجان الخبراء التي أعدت المعجم تفاصيل أكثر حول أسباب تلك التسمية ومعنى اللفظ، وهو أمر بحاجة إلى المزيد من التفاصيل وربما كان من الأفضل أن تتجنب أمانات المدن اختيار بعض هذه التسميات من المعجم ومراعاة ما قد تحدثه من لبس، وهذا بالإضافة إلى عدم وجود معلومات كافية حول تلك المناطق الجغرافية وأسباب التسمية.
إزالة اللبس
من الممكن تفهم أن بعض الأسماء طرأت حولها مستجدات في أزمان لاحقة أو تكشفت عنها حقائق تاريخية لم تكن معروفة في السابق، فحينها تقوم الجهات المعنية بإزالة أسمائها، وهذا الأمر واقع نشاهده في جميع أنحاء العالم، ولكن كان مثيراً للدهشة والجدل وجود شوارع تحمل اسم «مسيلمة» و«أبرهة الحبشي» في الأحساء، فالمعروف لدى العامة أن اسم مسيلمة مرتبط بمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأبرهة الحبشي الذي حاول هدم الكعبة، والأرجح أنه ليس من السهل وقوع خطأ فادح من هذا النوع، إلا أن المتحدث السابق باسم وزارة الشؤون البلدية والقروية، أوضح في تصريحات لإحدى الوسائل الإعلامية في العام 2013، أن «أبرهة الحبشي» المقصود في لافتة اسم الشارع هو صحابي، وليس من شابهه بالاسم الذي حاول هدم الكعبة، و«مسيلمة» -على حد قوله- يقصد به أحد الصحابة، ولا يقصد به «مسيلمة الكذاب»، ولكن من الواضح أن المتحدث باسم وزارة الشؤون البلدية أخطأ في ذلك الحين، إذ لا يوجد صحابي اسمه مسيلمة وإنما المؤكد وفقاً للمرجع المعتمد في الوزارة (معجم أسماء الشوارع والميادين)، فإن المقصود بـ«مسيلمة» هي منطقة صغيرة المساحة في نميرة بمنطقة مكة المكرمة، وذلك بحسب ما هو موضح في الجزء الثاني من المعجم (صفحة 988)، وفي جميع الأحوال لا يقصد بها مسيلمة الكذاب.
أما أبرهة الحبشي المقصود في التسمية فهو ليس أبرهة بن الصباح الحبشي، وإنما صحابي ورد اسمه في كتاب «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر العسقلاني، وكتاب «أسد الغابة في معرفة الصحابة» لابن الأثير، وكذلك عند المؤرخ ابن فتحون الأندلسي الذي قال إن «أبرهة» هو أحد الثمانية الشاميين الذين وفَدُوا مع جعفر ابن أبي طالب مع اثنين وثلاثين من الحبشة، وكان جعفر قد هاجر إلى الحبشة بعد إسلامه مع جماعة من المسلمين يبلغ عددهم نحو الأربعين ومن بينهم ثمانية من الشاميين وهم: (أبرهة، وإدريس، وأشرف، وأيمن، وبحيرا، وتمام، وتميم، ونافع) ومكثوا فيها عند ملكها النجاشي، ثم هاجر جعفر إلى المدينة المنورة خلال فتح خيبر وكان أبرهة المقصود من بين هؤلاء المسلمين ممن هاجروا مع جعفر إلى الحبشة والمدينة ويعد من الصحابة ولا توجد الكثير من التفاصيل عن حياته.
وهذا لا يعني عدم وقوع بعض الأخطاء في تسمية الشوارع، من بينها على سبيل المثال لا الحصر تسمية أحد شوارع حي الرائد في الرياض باسم عامر بن الطفيل الذي كان يعادي الإسلام وقام مع إربد بن قيس بمحاولة فاشلة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتم تغيير الاسم إلا بعد تلقي أمانة منطقة الرياض بلاغات عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعترض على تسمية أحد الشوارع باسم أحد أعداء الإسلام، وبالبحث بشكل أدق في هذه المسألة وجدنا أن «معجم أسماء شوارع الرياض» الذي تسترشد به الأمانات في اختيار أسماء الشوارع، اكتفى بتقديم تعريف مختصر عن عامر بن طفيل بأنه شاعر وفارس مشهور كما هو موضح في الجزء الثاني من المعجم (صفحة 780)، والمؤكد أن الأمانة اقتبست الاسم من المعجم دون إجراء أي مراجعات إضافية حول الشخصية.
أداة للصراعات السياسية
الغاية في تسمية الشوارع أياً كانت المسميات هي التعريف بالأماكن، ولكن بالقراءة في الوقائع التاريخية، نجد أن هذا الترميز أخذ بعداً سياسياً في عدد من الدول التي تسعى لتأجيج الخلافات في المنطقة وعلى رأسها تركيا وإيران، حيث تم توظيف هذه الأسماء سياسياً كأداة مؤثرة في الأزمات السياسية التي تختلقها الدول وللتعبير أيضاً عن توجهاتها السياسية، ومن الأمثلة على ذلك الخلاف بين مصر وإيران في عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات بسبب اندلاع الثورة الإيرانية ومساعيها لتصدير الفوضى في المنطقة، حيث قامت إيران بتسمية أحد شوارع العاصمة طهران باسم خالد الإسلامبولي قاتل السادات، وكان اختيار هذا الاسم أحد وسائل الاستفزاز وتأجيج الخلافات السياسية، فإيران أرادت تخليد ذكرى هؤلاء الإرهابيين لأنظمتهم والترويج لهم كمعارضين سياسيين تدعمهم لتصدير ثورتها.
وفي 2017 انتقد وزير خارجية الإمارات عبدالله بن زايد، عبر تغريدة في حسابه على موقع «تويتر»، القائد العسكري العثماني فخري باشا، وأكد أنه «ارتكب جريمة بحق أهالي المدينة المنورة وسرق أموال ساكنيها» وهي حقيقة تاريخية لا غبار عليها، إلا أن نظام أردوغان الذي يسعى لإعادة إنتاج تلك الحقبة الاستعمارية قام بإطلاق اسم «فخري باشا» على الشارع الذي تقع فيه سفارة الإمارات في العاصمة التركية أنقرة لتأجيج المزيد من الخلافات مع الدول العربية، والتأكيد على تمجيدها لتلك الجرائم وتأييد تلك الحقبة والسير على نهجها التوسعي.
الغايات المشتركة لتسمية الشوارع حول العالم
المحصلة في قضية «تسمية الشوارع» على مستوى العالم، أن غالبية الدول ذات السيادة الكاملة تطلق على شوارعها وميادينها ومعالمها الرئيسية أسماء شخصيات وطنية، وكل ما يعبر عن هويتها وتاريخها وإنجازاتها، ولا تميل إلى استقطاب أسماء خارج نطاق حدود تاريخها الوطني ومكتسباته، هذه هي السمة المشتركة في جميع عواصم العالم وكبرى المدن على أقل تقدير، ولكن هذا لا يعني عدم إطلاق أسماء رموز أجنبية على بعض أسماء الشوارع في العديد من الدول، مثل إطلاق اسم الزعيم الجنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلا على عدة شوارع في بريطانيا، ووجود أسماء شخصيات أجنبية مماثلة في شوارع كثير من المدن حول العالم، ولكنها نماذج فردية محدودة ولاعتبارات مختلفة، ويظل السائد في غالبية الدول هو إطلاق أسماء وطنية على الشوارع والميادين وغيرها من المعالم العامة.
وبالرغم من أن دولة شقيقة مثل الجزائر عانت من التأثيرات السلبية للاستعمار الفرنسي لحقبة استمرت لأكثر من قرن، وقبل ذلك أكثر من 3 قرون من الجمود الحضاري خلال الحقبة العثمانية، ومع ذلك كانت السمة الأساسية في تسمية معالمها وشوارعها وميادينها مخصصة لرموزها الوطنية حتى وإن كتب الكثير منها باللغة الفرنسية كنتيجة للآثار التي خلفتها حقبة الاستعمار إلا أنها متجهة نحو تعريبها، وأطلقت في 2018 مبادرة في هذا الشأن من قبل بلدية العاصمة الجزائر. أما قواعد تسمية الشوارع في السعودية، فقد أخذت نطاقاً أوسع بشمولها أسماء لشخصيات مستمدة من التاريخ الإسلامي، ربما لاعتبارات مرتبطة بالمقدسات الإسلامية ودور المملكة الريادي في العالم الإسلامي وباعتبارها مهد الرسالة المحمدية وقبلة المسلمين، ساهم هذا الأمر بلا شك في استقطاب الكثير من الأسماء، ولكن هذا لا يمنع أن نسعى للحفاظ على الهوية الوطنية كسمة أساسية وأن نقنن اختيار الأسماء بشكل أدق، فالمصادر الحالية في تسمية الشوارع والميادين باتت بحاجة إلى تحديث معجم الأسماء وتطويره.
إزالة اسم سارق الحجر الأسود
تكرر الجدل حول أسماء الشوارع أخيراً بعد إزالة اسم السلطان العثماني سليمان القانوني من أحد شوارع العاصمة الرياض، وهو بلا شك إجراء صائب وفي محله حتى وإن جاء متأخراً، فهذا السلطان العثماني مسؤول عن سرقة أكثر من 6 قطع من الحجر الأسود على أيدي بعض العمالة الذين شاركوا في عمليات ترميم وصيانة الحرم المكي في القرن السادس عشر، بعد أن قاموا بنقلها إلى الأستانة عاصمة الدولة العثمانية آنذاك وتسليمها للسلطان سليمان القانوني، الذي احتفظ بها بدلاً من رد الأمانات إلى أصحابها، وإحدى هذه القطع المسروقة قام المعماري العثماني سنان بتثبيتها على ضريح القانوني في إسطنبول.
والتاريخ يشهد له أيضاً الجريمة الشنعاء التي ارتكبها بحق ابنه البكر وولي عهد الأميرة شاه زاده مصطفى وحفيده الرضيع بعد أن أمر بقتلهما من أجل أن يخلفه أحد أبنائه من زوجته المفضلة روكسلان، وينسب له أيضاً إقراره للقانون المعروف بـ«سنجق الغجر» عام 1531، وهو مرسوم ينص على تحصيل رسوم قدرها 100 آقجة شهرياً من العاملات في هذا المجال في مناطق أدرنة وصوفيا وفيلبا، وقبل عام من وفاته أصدر فرماناً يسمح بتسجيل البغايا ضمن طائفة الراقصات لتسهيل إجراءات العمل في هذا النشاط، وجاء ذلك القرار بتوصية من الصدر الأعظم محمد صقولو باشا، فكيف بعد كل هذه الموبقات التي ارتكبها أن يتم الاحتفاء به وتخليد ذكراه.
وأياً كان الجدل في هذه القضية التي حاول الإعلام التركي توظيفها في سياق الأدلجة السياسية التي ينتهجها الرئيس التركي رجب أردوغان لتوسعة نفوذه في المنطقة ومحاولاته البائسة لتلميع التاريخ العثماني، فإن مسألة إزالة أسماء الشوارع تظل حقاً سيادياً للدولة، وتوجد أمثلة كثيرة مشابهة في العالم، فقد سبق وأن أزالت السلطات في جمهورية مصر الشقيقة اسم السلطان العثماني سليم الأول من أحد شوارع العاصمة القاهرة في فبراير 2018، وذلك بعد التقرير الذي رفعه أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان الدكتور محمد الدالي، وسلط الضوء من خلاله على بعض الحقائق التاريخية التي تفرض إزالة اسمه، مشدداً على أنه لا يصح تسمية أحد شوارع مصر على اسم أول مستعمر للبلاد وقيامه بتحويلها إلى ولاية عثمانية، هذا بالإضافة إلى أن سليم الأول قتل آلاف المصريين خلال دفاعهم المشروع عن أراضيهم، وقام كذلك بحل الجيش المصري بعد أن قتل طومان باي آخر سلاطين المماليك. وفي مثال آخر، أقر رئيس أوكرانيا السابق بترو بوروشينكو في العام 2015 إزالة 1320 معلماً لرئيس الاتحاد السوفييتي وزعيم الثورة الشيوعية لينين، وذلك بهدف تخليص بلاده من الآثار السلبية التي خلفتها الثورة البلشفية، وشمل القانون الذي أقره بوروشينكو إعادة تسمية الشوارع والمدن بأسماء وطنية. وفي 9 يونيو الماضي، أزالت بريطانيا تمثال الاسكتلندي روبرت ميلغا، أحد أشهر تجار الرقيق في القرن الثامن عشر، من أمام متحف دوكلاندز في العاصمة لندن، وأوضح حينها عمدة لندن صادق خان، أن «التماثيل التي لها روابط بالرق يجب إزالتها»، في إشارة واضحة إلى أنها رمز للعنصرية ولا يصح وجودها بعد تجريم العبودية. وهناك العديد من الأمثلة المشابهة التي لا يسع المقام لحصرها في هذا الحيز، ولكن استشهدنا ببعض منها كمثال على وجود مثل هذه الأخطاء المتعلقة بتسمية الشوارع والمعالم التي تم تصحيحها في أزمنة لاحقة، بعد أن كشفت المراجعات التاريخية وجوب إزالتها.
أسماء تثير التساؤلات
كان أمراً مثيراً للجدل تسمية بعض شوارع المدن في المملكة بأسماء بعض رموز جماعة الإخوان الإرهابية مثل سيد قطب ويوسف القرضاوي وحسن الهضيبي وغيرهم، وبخلاف أن تصنيف المملكة لجماعة الإخوان كمنظمة إرهابية حدث في العام 2014، إلا أن اختيار هذه الأسماء يتعارض مع آلية تسميات الشوارع والميادين التي اعتمدها مجلس الوزراء في قراره رقم 155 بتاريخ 21/07/1406، حيث يوضح المشروع الذي اعتمده مجلس الوزراء حينها أن مصادر التسميات تتكون من أسماء 9 مجموعات وهي:
1- الصحابة والخلفاء الراشدون وأمهات المؤمنين والتابعون.
2- قادة العرب والمسلمين خلال التاريخ الإسلامي.
3- الملوك والأمراء المشهورون من أبناء الأسرة المالكة.
4- الأئمة والفقهاء والمحدثون.
5- أشهر المعارك في التاريخ الإسلامي.
6- العلماء والشعراء والأدباء منذ العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث.
7- قادة دول مجلس التعاون الخليجي.
8- المدن والقرى السعودية والعربية والإسلامية.
9- الأودية والأنهار والجبال في المملكة وفي البلاد العربية والإسلامية.
لذلك كانت تسمية بعض الشوارع بأسماء شخصيات قيادية في تنظيم الإخوان الإرهابي لا تتوافق مع اللوائح المعتمدة في آلية التسمية قبل تصنيف الجماعة كتنظيم إرهابي بنحو 30 عاماً، كما أن مشروع معجم أسماء الشوارع والميادين الذي تم الاسترشاد به أكد أن تطبيق عملية اختيار الأسماء من كل مجموعة روعيت فيه الأهمية والقدم والملاءمة مع المكان المسمى وأن الاختيار تم بأسلوب علمي يستند إلى مصادر موثوقة، وبالتالي فإن هذا التساؤل يوجه إلى الأمانات واللجان التي اعتمدت مثل تلك الأسماء خارج نطاق الآليات المتبعة.
البغدادي و«النازية».. تشابه أسماء
ومن الأمور التي لم تكن في الحسبان وجود شارع يحمل اسم زعيم تنظيم داعش الإرهابي سابقاً «أبي بكر البغدادي» في حي المروج بالعاصمة الرياض، وهو ما أثار جدلاً واسعاً في وسائل التواصل الاجتماعي وعبر العديد من وسائل الإعلام والمواقع الغربية التي تداولت الخبر في 2016 بعد تداول صور لافتة الشارع الذي يحمل اسم الإرهابي البغدادي، ولكن بعد البحث في «معجم أسماء شوارع مدينة الرياض وميادينها» الصادر في 1418هـ، المرجع الذي تسترشد به الأمانة في اختيار أسماء الشوارع، اتضح أن المقصود كما هو موضح في الجزء الأول من المعجم صفحة 193، هو عالم الأنساب محمد بن عبدالغني بن أبي بكر الحنبلي البغدادي المتوفى سنة 629 للهجرة.
وفي ذات السياق، أثيرت تساؤلات حول شارع يحمل اسم «النازية»، فاتضح بحسب ما جاء في الجزء الأول من «معجم أسماء الشوارع» (صفحة 504) أنه يرمز لاسم منطقة في المسيجيد بمنطقة المدينة المنورة، وهو ما يتسق مع منهجيات تسمية الشوارع التي تعتمد ضمن مصادر التسميات أسماء المعالم والمناطق الجغرافية، وأضيف في المعجم بأن مسمى «النازية» يعود أيضاً إلى «حزب سياسي عنصري في ألمانيا وأوروبا»، ولم تقدم لجان الخبراء التي أعدت المعجم تفاصيل أكثر حول أسباب تلك التسمية ومعنى اللفظ، وهو أمر بحاجة إلى المزيد من التفاصيل وربما كان من الأفضل أن تتجنب أمانات المدن اختيار بعض هذه التسميات من المعجم ومراعاة ما قد تحدثه من لبس، وهذا بالإضافة إلى عدم وجود معلومات كافية حول تلك المناطق الجغرافية وأسباب التسمية.
إزالة اللبس
من الممكن تفهم أن بعض الأسماء طرأت حولها مستجدات في أزمان لاحقة أو تكشفت عنها حقائق تاريخية لم تكن معروفة في السابق، فحينها تقوم الجهات المعنية بإزالة أسمائها، وهذا الأمر واقع نشاهده في جميع أنحاء العالم، ولكن كان مثيراً للدهشة والجدل وجود شوارع تحمل اسم «مسيلمة» و«أبرهة الحبشي» في الأحساء، فالمعروف لدى العامة أن اسم مسيلمة مرتبط بمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأبرهة الحبشي الذي حاول هدم الكعبة، والأرجح أنه ليس من السهل وقوع خطأ فادح من هذا النوع، إلا أن المتحدث السابق باسم وزارة الشؤون البلدية والقروية، أوضح في تصريحات لإحدى الوسائل الإعلامية في العام 2013، أن «أبرهة الحبشي» المقصود في لافتة اسم الشارع هو صحابي، وليس من شابهه بالاسم الذي حاول هدم الكعبة، و«مسيلمة» -على حد قوله- يقصد به أحد الصحابة، ولا يقصد به «مسيلمة الكذاب»، ولكن من الواضح أن المتحدث باسم وزارة الشؤون البلدية أخطأ في ذلك الحين، إذ لا يوجد صحابي اسمه مسيلمة وإنما المؤكد وفقاً للمرجع المعتمد في الوزارة (معجم أسماء الشوارع والميادين)، فإن المقصود بـ«مسيلمة» هي منطقة صغيرة المساحة في نميرة بمنطقة مكة المكرمة، وذلك بحسب ما هو موضح في الجزء الثاني من المعجم (صفحة 988)، وفي جميع الأحوال لا يقصد بها مسيلمة الكذاب.
أما أبرهة الحبشي المقصود في التسمية فهو ليس أبرهة بن الصباح الحبشي، وإنما صحابي ورد اسمه في كتاب «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر العسقلاني، وكتاب «أسد الغابة في معرفة الصحابة» لابن الأثير، وكذلك عند المؤرخ ابن فتحون الأندلسي الذي قال إن «أبرهة» هو أحد الثمانية الشاميين الذين وفَدُوا مع جعفر ابن أبي طالب مع اثنين وثلاثين من الحبشة، وكان جعفر قد هاجر إلى الحبشة بعد إسلامه مع جماعة من المسلمين يبلغ عددهم نحو الأربعين ومن بينهم ثمانية من الشاميين وهم: (أبرهة، وإدريس، وأشرف، وأيمن، وبحيرا، وتمام، وتميم، ونافع) ومكثوا فيها عند ملكها النجاشي، ثم هاجر جعفر إلى المدينة المنورة خلال فتح خيبر وكان أبرهة المقصود من بين هؤلاء المسلمين ممن هاجروا مع جعفر إلى الحبشة والمدينة ويعد من الصحابة ولا توجد الكثير من التفاصيل عن حياته.
وهذا لا يعني عدم وقوع بعض الأخطاء في تسمية الشوارع، من بينها على سبيل المثال لا الحصر تسمية أحد شوارع حي الرائد في الرياض باسم عامر بن الطفيل الذي كان يعادي الإسلام وقام مع إربد بن قيس بمحاولة فاشلة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتم تغيير الاسم إلا بعد تلقي أمانة منطقة الرياض بلاغات عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعترض على تسمية أحد الشوارع باسم أحد أعداء الإسلام، وبالبحث بشكل أدق في هذه المسألة وجدنا أن «معجم أسماء شوارع الرياض» الذي تسترشد به الأمانات في اختيار أسماء الشوارع، اكتفى بتقديم تعريف مختصر عن عامر بن طفيل بأنه شاعر وفارس مشهور كما هو موضح في الجزء الثاني من المعجم (صفحة 780)، والمؤكد أن الأمانة اقتبست الاسم من المعجم دون إجراء أي مراجعات إضافية حول الشخصية.
أداة للصراعات السياسية
الغاية في تسمية الشوارع أياً كانت المسميات هي التعريف بالأماكن، ولكن بالقراءة في الوقائع التاريخية، نجد أن هذا الترميز أخذ بعداً سياسياً في عدد من الدول التي تسعى لتأجيج الخلافات في المنطقة وعلى رأسها تركيا وإيران، حيث تم توظيف هذه الأسماء سياسياً كأداة مؤثرة في الأزمات السياسية التي تختلقها الدول وللتعبير أيضاً عن توجهاتها السياسية، ومن الأمثلة على ذلك الخلاف بين مصر وإيران في عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات بسبب اندلاع الثورة الإيرانية ومساعيها لتصدير الفوضى في المنطقة، حيث قامت إيران بتسمية أحد شوارع العاصمة طهران باسم خالد الإسلامبولي قاتل السادات، وكان اختيار هذا الاسم أحد وسائل الاستفزاز وتأجيج الخلافات السياسية، فإيران أرادت تخليد ذكرى هؤلاء الإرهابيين لأنظمتهم والترويج لهم كمعارضين سياسيين تدعمهم لتصدير ثورتها.
وفي 2017 انتقد وزير خارجية الإمارات عبدالله بن زايد، عبر تغريدة في حسابه على موقع «تويتر»، القائد العسكري العثماني فخري باشا، وأكد أنه «ارتكب جريمة بحق أهالي المدينة المنورة وسرق أموال ساكنيها» وهي حقيقة تاريخية لا غبار عليها، إلا أن نظام أردوغان الذي يسعى لإعادة إنتاج تلك الحقبة الاستعمارية قام بإطلاق اسم «فخري باشا» على الشارع الذي تقع فيه سفارة الإمارات في العاصمة التركية أنقرة لتأجيج المزيد من الخلافات مع الدول العربية، والتأكيد على تمجيدها لتلك الجرائم وتأييد تلك الحقبة والسير على نهجها التوسعي.
الغايات المشتركة لتسمية الشوارع حول العالم
المحصلة في قضية «تسمية الشوارع» على مستوى العالم، أن غالبية الدول ذات السيادة الكاملة تطلق على شوارعها وميادينها ومعالمها الرئيسية أسماء شخصيات وطنية، وكل ما يعبر عن هويتها وتاريخها وإنجازاتها، ولا تميل إلى استقطاب أسماء خارج نطاق حدود تاريخها الوطني ومكتسباته، هذه هي السمة المشتركة في جميع عواصم العالم وكبرى المدن على أقل تقدير، ولكن هذا لا يعني عدم إطلاق أسماء رموز أجنبية على بعض أسماء الشوارع في العديد من الدول، مثل إطلاق اسم الزعيم الجنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلا على عدة شوارع في بريطانيا، ووجود أسماء شخصيات أجنبية مماثلة في شوارع كثير من المدن حول العالم، ولكنها نماذج فردية محدودة ولاعتبارات مختلفة، ويظل السائد في غالبية الدول هو إطلاق أسماء وطنية على الشوارع والميادين وغيرها من المعالم العامة.
وبالرغم من أن دولة شقيقة مثل الجزائر عانت من التأثيرات السلبية للاستعمار الفرنسي لحقبة استمرت لأكثر من قرن، وقبل ذلك أكثر من 3 قرون من الجمود الحضاري خلال الحقبة العثمانية، ومع ذلك كانت السمة الأساسية في تسمية معالمها وشوارعها وميادينها مخصصة لرموزها الوطنية حتى وإن كتب الكثير منها باللغة الفرنسية كنتيجة للآثار التي خلفتها حقبة الاستعمار إلا أنها متجهة نحو تعريبها، وأطلقت في 2018 مبادرة في هذا الشأن من قبل بلدية العاصمة الجزائر. أما قواعد تسمية الشوارع في السعودية، فقد أخذت نطاقاً أوسع بشمولها أسماء لشخصيات مستمدة من التاريخ الإسلامي، ربما لاعتبارات مرتبطة بالمقدسات الإسلامية ودور المملكة الريادي في العالم الإسلامي وباعتبارها مهد الرسالة المحمدية وقبلة المسلمين، ساهم هذا الأمر بلا شك في استقطاب الكثير من الأسماء، ولكن هذا لا يمنع أن نسعى للحفاظ على الهوية الوطنية كسمة أساسية وأن نقنن اختيار الأسماء بشكل أدق، فالمصادر الحالية في تسمية الشوارع والميادين باتت بحاجة إلى تحديث معجم الأسماء وتطويره.