-A +A
خالد نايف الهباس
رفض المحكمة الدستورية العليا في تركيا حظر حزب العدالة والتنمية, الإسلامي التوجه, الذي يمسك بالسلطة منذ العام 2002, بعد توجيه التهمة إليه قضائياً بالقيام “بنشاطات مناهضة للعلمانية”, دليل على نجاح الحزب في التكيف مع الواقع السياسي التركي وقدرته على تلافي الضغوط التي يقودها المعسكر العلماني الذي يعتبر الجيش والقضاء أبرز مؤسساته. فحزب العدالة والتنمية استطاع من خلال براجماتية سياسية واضحة عبر الآليات الدستورية التي يتيحها الدستور التركي السيطرة على رئاسة الدولة والجمهورية والمضي قدماً في برنامجه السياسي دون أن يستطيع صقور العلمانية إسقاط الحكومة, على خلاف ما حصل عام 1997 عندما تم دفع الحكومة الإسلامية الأولى إلى الاستقالة.
هذا الدرس المجاني الذي يقدمه حزب العدالة والتنمية في تركيا يجب أن يكون مثلاً يحتذى به بالنسبة لبعض التنظيمات السياسية في الوطن العربي على وجه الخصوص, بل وبقية التنظيمات المتطرفة ايديولوجياً في العالم أجمع. فقد يكون التشدد مناسباً في موقف أو ظرف سياسي معين لكن النتيجة المنطقية والمتوقعة دائماً هي أن الاعتدال والعقلانية سبيل النجاح السياسي, خاصةً فيما يتعلق بالتنظيمات الحزبية وجماعات العمل السياسي الأخرى. فالعالم لا يعاني الآن أكثر من معاناته من التشدد في الرأي والحدة في العمل والاستخدام المفرط لأدوات العمل السياسي دون مراعاة للمصلحة المشتركة التي يمكن للبشرية أن تجنيها من التعاون والتفاهم والوسطية السياسية والفكرية. ولهذا السبب رأينا في الألفية الثالثة, التي سميت بـ”قرن الأديان”, توجيهاً متطرفاً للعمل السياسي ينبع من خلال قناعات فكرية وأيديولوجية متناقضة وغير مبنية في الغالب على أسس عقلانية بقدر ما تعكس تزمتاً وتحيزاًً لوجهة نظر قاصرة عن إدراك ضروة التعايش العالمي بين الحضارات والأديان والجماعات الإنسانية, إن لم تكن مبنية على إقصاء الآخرين ومحاولة فرض الأمر الواقع عليهم.
عندما ننظر إلى الخارطة السياسية في العالم نجد الكثير من الشواهد على أهمية المصالحة السياسية, بحيث تكون هذه المصالحة مع الذات أولاً ومن ثم فإن ذلك سوف ينعكس على التعامل مع الآخرين بما يساعد في المحصلة النهائية على بلوغ الهدف. في فلسطين, على سبيل المثال, نشاهد الوضع المتردي بين حماس وفتح, وعدم قدرة هذين التنظيمين السياسيين على التعايش السياسي رغم ضرورة ذلك ورغم حساسية الوضع السياسي الفلسطيني. التشبث بالمواقف ومحاولة إلقاء اللوم على الطرف الآخر غير مجدٍ, ومن يدفع الثمن النضال الفلسطيني وبقية الشعب المغلوب على أمره, كما أن الفائدة الأكبر تكون للطرف الإسرائيلي الذي يتفرج مستمتعاً على ما يحصل في غزة على وجه الخصوص, في ذا الوقت الذي يحاول فيه تسويق وجهة نظره بعدم رشد المؤسسات السياسية الفلسطينية وبما يوفر له الذريعة للتملص من عملية السلام ومحاصرة غزة وملاحقة قيادات المقاومة.
من هذا المنطلق يمكن القول إن التطرف يعكس قناعات فكرية أو مواقف سياسية يصبح من خلالها القرار السياسي مختطفاً ومؤدلجاً وقاصراً في فهمه للواقع السياسي. وهذا في نهاية المطاف يقلل من فرص النجاح والتوافق في المواقف, ويدفع بالعمل السياسي إلى دهاليز التنافض والصراع. ويمكن القول كذلك أن التطرف قد يكون علمانياً أو أصولياً إسلامياً أو يهودياً, لكنه في جميع الأحوال يتنافى مع الطبيعة الإنسانية المجبولة على الاعتدال والتسامح. وفي مثل هذه الوضعية تكمن قيمة العمل المؤسسي والضوابط الدستورية التي تتيح للآراء المتعارضة التعايش السلمي فيما بينها, رغم أن الآليات الدستورية والديمقراطية قد تكون أحياناً ضحية لسيطرة الأقلية التي تستطيع تطويعها واستغلالها لتبرير أو تمرير نهج سياسي معين. وهكذا يمكن القول إن مفتاح النجاح بالنسبة للتنظيمات السياسية في بعض دول العالم العربي, أن تتبنى العمل الجماعي وأن تبتعد عن الإقصاء السياسي والتطرف في الكلمة والعمل.
knhabbas@hotmail.com

للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 145 مسافة ثم الرسالة